ما بعد تصفية بن لادن

العنوان: ما بعد تصفية بن لادن الكاتب: علي بدوان



البهجة الأميركية لحظية وآنية
تصفية تنهي العنوان ولا تنهي تفاصيله
استخلاصات

شكّلت عملية تصفية زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن إنجازا هاماً ونوعياً لإدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما، ورفعت من سقف حظوظه في الداخل الأميركي، في وقت كانت أسهمه تتراجع وسط الجمهور الأميركي مع استمرار التقيح في الملفات المعقدة التي ورثتها إدارته من سلفه الرئيس جورج بوش الابن.

فهل ستكون عملية اغتيال زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن المنصة الجديدة التي سيعاود عليها الرئيس باراك أوباما وحزبه الديمقراطي الأميركي الصعود مرة ثانية، واسترداد ما خسره من قطاعات من الجمهور في الداخل الأميركي التي انفضت من حوله خلال الشهور الأخيرة، كما تشير مختلف مراكز البحث واستطلاعات الرأي في الولايات المتحدة؟

وهل تشكّل عملية اغتيال وتصفية بن لادن فرصة توظيف لاحت أمام الرئيس باراك أوباما، من أجل إعادة تدعيم وترسيخ مواقعه المهتزة داخل الشارع الأميركي بعد سلسلة الخسائر المتتالية التي أصابت القوات الأميركية في العراق وأفغانستان، وارتفاع أعداد التوابيت الطائرة التي يجري ترحيلها كل يوم نحو الولايات المتحدة الأميركية؟

وهل سيغير اغتيال أسامة بن لادن من حضور ونفوذ وامتداد تنظيم القاعدة؟

البهجة الأميركية لحظية وآنية

"
الآثار الإيجابية لمقتل بن لادن التي سيلتحف بها أوباما ستكون موجودة وواقعية, لكنها بالمقابل ستكون آنية ولحظية، وليست ذات بعد ومدى كبير
"

في البداية، لا بد من القول إن المفاجأة في الغارة الأميركية على مقر قائد تنظيم القاعدة كانت في وجوده فوق الأرض الباكستانية، وبالقرب من مدينة إسلام آباد، وليس داخل أفغانستان، أو على الحدود الباكستانية الأفغانية، خلافاً لما كان يعتقد به الكثير من المتابعين للأحداث في المنطقة إياها.

وقد جاءت تلك الغارة لتشير أيضا لوجود درجة عالية من التعاون الاستخباراتي الباكستاني الأميركي(وهو أمر معروف ومعلن على كل حال)، لكن الجديد فيه أن هذا التعاون أفصح مرة جديدة عن عمق الاختراق الأميركي للداخل الباكستاني، بشكل تعدى كل أشكال التعاون العسكري أو الاستخباراتي الموجود بين الولايات المتحدة وأي من الدول التي تربطها معها علاقات من هذا النوع.

فالطائرات الحربية الأميركية دون طيار تعمل بشكل دائم، وتنفذ عملياتها العسكرية حتى داخل المناطق الباكستانية المجاورة لأفغانستان، دون علم السلطات الباكستانية، حتى إنها استهدفت مرات عديدة قرى باكستانية وجموعا من المدنيين الباكستانيين الذين لقوا حتفهم بغارات الطائرات الأميركية من دون طيار، ودون مساءلة من الجهات المعنية داخل باكستان.

ومع هذا، فان الإنجاز الأميركي بتصفية زعيم تنظيم القاعدة سيلقي بآثاره على الداخل الأميركي، وعلى شعبية الرئيس أوباما بحدود معينة، وهو الذي بدا يواجه متاعب جمة خلال الشهور الأخيرة بعد فشله في حل أي من المشكلات الكبرى التي تواجه السياسات الأميركية في العالم، خصوصاً في منطقة الشرق الأوسط، حيث باتت عملية التسوية تمر بسدود وأنفاق مغلقة نتيجة الموقف "الإسرائيلي" المتعنت، وعجز قيادة الرئيس أوباما عن القيام بممارسة ضغوط جدية على تل أبيب نتيجة الحسابات الأميركية الداخلية، ونفوذ اللوبي الصهيوني ومنظمة "إيباك".

إضافة لوقوع تطورات عاصفة في المنطقة، خصوصاً في مصر، وانهيار نظام حسني مبارك الذي شكّل العراب الأساسي لمشروع التسوية الأميركية المطروح على مختلف المسارات، والمسار الفلسطيني على وجه التحديد، وهو ما زاد في فاتورة حسابات الخسائر الأميركية ذات البعد الإستراتيجي (وليس التكتيكي) في المنطقة، وقد يكون الحبل على الجرار.

إن تلك الآثار الإيجابية والبهجة التي سيلتحف بها الرئيس أوباما وإدارته وحزبه الديمقراطي على خلفية إنجاز عملية تصفية قائد تنظيم القاعدة، ستكون موجودة وواقعية من خلال ترحيب الجمهور الأميركي بالإنجاز إياه، وسترفع من معنويات إدارة الرئيس أوباما وحظوظه بحدود معينة.

لكنها بالمقابل ستكون آنية ولحظية، وليست ذات بعد وذات مدى كبير، والسبب في ذلك أن نهاية وسقوط زعيم القاعدة لا تعني أن تنظيم القاعدة قد دمّر تماماً، وأن مفاصله قد أعطبت، وأن خلاياه (النائمة وغير النائمة) قد اندثرت وتلاشت.

فاقتلاع الإرهاب الذي تصرخ منه الولايات المتحدة والغرب ليل نهار، يحتاج لعلاجات من نوع آخر، تبدأ بقيام الغرب والولايات المتحدة بمراجعة سياساتها الدولية الفاقدة للتوازن تجاه العديد من القضايا العادلة وفي القلب منها القضية الوطنية التحررية للشعب العربي الفلسطيني، الذي ما زال يكافح من أجل حقوقه الوطنية على امتداد أكثر من ثمانية عقود، وتحديدا منذ صدور وعد "بلفور" اللئيم.

تصفية تنهي العنوان ولا تنهي تفاصيله
ولكن، هل تكفي عملية اغتيال أسامة بن لادن لقطع دابر تنظيم القاعدة وإنهائه من الوجود؟

في هذا السياق، نقول إن عملية اغتيال رأس التنظيم في جماعة القاعدة تنهي العنوان، ولا تنهي التفاصيل، فهي لا تعني البتة أن التنظيم قد انتهى أو توارى، فتنظيم القاعدة أصبح خلال العقد الأخير من الزمن تنظيماً دولياً واسع الانتشار وفي مناطق مختلفة من المعمورة، على الرغم من اللامركزية التي تميّز علاقات المركز بالفروع في بنية تنظيم القاعدة، وهي ميزة أكسبت فروعه وامتداداته درجة عالية من المرونة في العمل وفي التعاطي مع الشأن المحلي في كل بلد توجد فيه خلايا التنظيم، ولكن وفق الخط العام الذي حدد المسار السياسي والعملي للتنظيم ككل من مركز القرار في أفغانستان أو باكستان.

"
امتداد وانتشار تنظيم القاعدة بالشكل الفطري التناسلي, أضاف تعقيدات جديدة على المشهد برمته، وجعل من مكافحة هذا التنظيم مسألة على غاية من التعقيد
"

وبالطبع، فان امتداد وانتشار تنظيم القاعدة بهذا الشكل الفطري التناسلي وفق متوالية تكاد تكون "متوالية هندسية"، أضاف تعقيدات جديدة على المشهد برمته، وجعل من مكافحة هذا التنظيم وخلاياه المسلحة (النائمة وغير النائمة) مسألة على غاية من التعقيد، وتحتاج لجهود كبيرة، إن كان من قبل الولايات المتحدة التي تقود حرباً ضروسا ضد تنظيم القاعدة، أو الغرب بشكل عام، أو من قبل الدول التي يشك بوجود خلايا للتنظيم داخل أراضيها، ومنها بعض الدول العربية، في القسمين الآسيوي والأفريقي.

مقابل ذلك، يمكن القول إن تنظيم القاعدة تلقى أيضا ضربات قاصمة خلال السنوات الأخيرة التي تلت الاحتلال الأميركي لأفغانستان، وسقوط نظام "الملا عمر" وحكم جماعة طالبان الأفغانية.

ومن بين تلك الضربات ما جرى للتنظيم وقياداته ورموزه من مطاردات عنيفة في باكستان وأفغانستان واليمن والجزيرة العربية والعراق… وقد انتهت المراحل الأولى من تلك المطاردات بتفكيك عشرات الخلايا (النائمة وغير النائمة) للتنظيم، واعتقال معظم رموزها، وقتل بعض منهم، وكان من بعض فصولها ما جرى في العراق، حيث لقي الأردني أحمد فضيل نزال الخلايلة الملقب بأبو مصعب الزرقاوي مصرعه بعد أن قاد التنظيم في العراق، وأزعج قوات الاحتلال الأميركي وأدماها لفترات طويلة.

وبالتأكيد فإن تلك الضربات بقدر ما أضعفت التنظيم، وقلصت من وجوده كوادره المجربة العسكرية والأمنية، فإنها ولدّت في المقابل ردودا معينة دفعت بقطاعات من الناس المتذمرين في بلادنا من السياسات الاستعمارية الأميركية للاصطفاف وراء تنظيم القاعدة، وبالتالي عودة التنظيم لترميم صفوفه في كل مرة يتلقى فيها ضربات قاسية هنا أو هناك.

استخلاصات
وفي الاستخلاصات الأخيرة، ومع عدم تجاهل أحداث سبتمبر/أيلول 2001، وهي أحداث مأساوية ومدانة ومؤثرة ومؤلمة وإنسانية، وتشكّل وصمة عار على من رتبها وعمل على تنفيذها، فإن ظاهرة أسامة بن لادن وتنظيم القاعدة بشكل عام، كانت في جانب منها ظاهرة "تخويف" (زيادة عن اللزوم) استخدمتها الإدارة الأميركية ادعائيا وإعلاميا لأغراض سياسية داخلية أولاً أمام الرأي العام الأميركي لتبرير مقدمات مشروع الحرب الأميركية على العراق قبل أن تقع أحداث سبتمبر/أيلول 2001 ذاتها بأعوام عدة.

وخارجياً لوضع أنظمة المنطقة ومنها بلداننا العربية أمام وتحت هاجس رعب التمدد الأصولي ثانيا. واستنزاف الحالة العربية والإسلامية في خلق عدو (هو وهمي على الأغلب) ثالثا. وربط التيارات الإسلامية كلها بعضها ببعض باعتبارها أطراً إرهابية بما فيها حركتا حماس والجهاد الإسلامي في فلسطين رابعاً.

وفي الاستخلاصات أيضاً، نقول إن تفكيك عوامل "الإرهاب والإرهاب المقابل" يفترض بالإدارة الأميركية أن تخطو خطوات ملموسة وجدية من أجل تحقيق تحويرات وتحولات حقيقية في السياسة الأميركية تجاه المنطقة وشعوبها، وعلى الإدارة الأميركية أن تراجع مواقفها تجاه القضايا المعلقة في الشرق الأوسط، فمنابع التطرف تتغذى بدورها من احتقان الشارع وعامة الناس، نتيجة ابتعاد الإدارة الأميركية عن التوازن (والعدالة ولو في حدودها الدنيا) في معالجة الملف الساخن في فلسطين وصولاً إلى إيغالها في إتباع المعايير المتعددة تجاه قضايا العالمين العربي والإسلامي.

"
مقتل بن لادن شكّل ضربة قاسية وموجعة لحضور تنظيم القاعدة وبرنامجه، لكنه بالمقابل قد يمنحه دفقات جديدة من الحياة
"

إن مقتل أسامة بن لادن وما رافقه من ردود دولية واسعة، يكرس ولا ينهي معادلة "مات الإرهاب، عاش الإرهاب"، ولا يعني البتة أن مسلسل "الإرهاب والإرهاب المقابل" قد توقف أو أزف على التوقف في العالم، فعوامل الاحتقان ما زالت موجودة، وقوات الاحتلال الأميركية موجودة في العراق وأفغانستان، وهي ضليعة في ممارسة أشكال إضافية من إرهاب الناس، وفي تحقيق أغراض سياسية لا تخدم شعوب المنطقة وقضاياها.

إن مقتل زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن سواء تم وصم ممارساته بالممارسات الإرهابية من قبل الغالبية في المجموعات الدولية، أو بممارسات مقاومة الوجود والتحيز الأميركي من قبل البعض القليل، يعتبر محطة، وليس خاتمة المطاف في التفاعلات الجارية على صعيد الدور السياسي للولايات المتحدة تجاه قضايا المنطقة والعالم.

إن مقتل أسامة بن لادن قد شكّل دون أدنى شك ضربة قاسية وموجعة لحضور تنظيم القاعدة وبرنامجه، لكنه بالمقابل قد يمنحه دفقات جديدة من الحياة، ويدفع قطاعات منه إلى اشتقاق وانتهاج أساليب أكثر تشدداً في المجتمعات والأوساط التي ينشط داخلها، إذا استمرت المعالجات الأميركية والغربية للمواضيع السياسية المثارة وفق المنوال ذاته من التحيز ومن فقدان التوازن ومن ديمومة نهج المعايير المزدوجة، الأمر الذي يضعف نسبياً (ولو بحدود ضيقة جداً) من حضور وتأثير تيارات "الإسلام الوسطي المعتدل" الذي طالما كان هو الأكثر حضورا وتميزاً في منطقتنا وفي فلسطين على وجه الخصوص.

إن الدرس الأميركي من الصراع مع تنظيم القاعدة، وتصفية أسامة بن لادن، يفترض به أن يتجه أميركياً نحو معالجة الأسباب التي أدت لولادة هذا التنظيم المتطرف، وليس معالجة النتائج ومنتوجاتها فقط.

فأسامة بن لادن هو شخص في نهاية المطاف، ونهايته هي نهاية بيولوجية وفيزيائية لكائن حي. أما تنظيم القاعدة فهو تعبير عن "حالة ما" استولدتها حالة عامة متذمرة، وتربة خصبة غاضبة من سياسات ومعايير لا تحمل الحد الأدنى من الاستقامة في معالجة قضايا الشعوب العادلة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.