الثورة ضد الثروة.. تأملات في تاريخها واستشراف لمستقبلها

عبد الله البريدي - : الثورة ضد الثروة.. تأملات في تاريخها واستشراف لمستقبلها!



– الفعل الاحتجاجي

– تبرير الإثراء الفاحش
– الابتكارية في صناعة الفقر
– السايبر والفعل الاحتجاجي
انعتاق أم تورط؟

تطايرت الأخبار عن تنامي الحركات الاحتجاجية ضد الرأسمالية الجشعة بصورتها الليبرالية الوقحة التي تشرعن لعدم التدخل في الاقتصاد من أجل أن يكون "حرا" ولصور متنوعة من الاحتكار والاستغلال البشع والأنانية المفرطة.

وقد شهد ما يقارب ألف مدينة في أربع قارات احتجاجات متصاعدة، وارتفعت الأصوات المحتجة تندد قائلة "نحن الشعب، نمثل تسعة وتسعين في المائة. نحن هنا من أجل الحرية. لن نسمح لأنفسنا بأن نعامل مثل العبيد بعد الآن".

وهتف المتظاهرون "لنضع حدا للحروب" و"افرضوا ضرائب على الأغنياء". ولكن، وقبل الإيغال في التعاطي مع ذلك المشهد المخيف، دعونا نستعد بعض ملفات التاريخ بشأن هذه المسألة، ففيه العبرة والدروس.

"
الفكرة السبنسرية (القائمة على أن ظهور الأغنياء نتيجة حتمية لظاهرة الانتخاب الطبيعي) أزالت ألم "تأنيب الضمير" لدى الأغنياء وخففت من مسؤوليتهم تجاه "فقر الفقراء"، وشرعت الأساليب القذرة من احتكار وتسلط واستخدام للنفوذ من أجل تكوين الثروات ومراكمتها

"

الفعل الاحتجاجي
شهد التاريخ القديم والمتوسط والحديث حركات احتجاجية ضد الفاسدين والمحتكرين والأغنياء الأشحاء، فالتاريخ العربي القديم ينقل لنا -على سبيل المثال- أن "عروة بن الورد العبسي" (توفي حوالي 30 قبل الهجرة/594 ميلادي) ، كان أحد أبرز الشعراء والفرسان الصعاليك الذين احترفوا الإغارة على ثروات تلك الفئات المنحطة، لا بغرض النهب والسرقة، ولكن بغرض إعادة توزيعها ومعاونة الفقراء والمحتاجين والمرضى، أي أنه كان ينشد إقامة "العدالة الاجتماعية" وفق منظومة قيمية كانت تبرر له ذلك، وتعدها نوعاً من الشرف والفروسية. وكان يفعل ذلك بصحبة مجموعة من الصعاليك الذين آمنوا برسالته.

وبعد عروة بن الورد ببضعة قرون، ظهرت شخصية مشابهة له في فروسيته ونمطه الاحتجاجي ضد الفساد والثروة الاحتكارية والتعسف واضطهاد المسحوقين من عامة الشعب، وهي المعروفة في التاريخ والفولكلور الإنجليزي بشخصية "روبين هود".

وليس ثمة تحديد دقيق لتلك الشخصية من حيث مفاصلها التاريخية (وأكثر الإشارات في ق 13 الميلادي)، ولكنه اشتهر بأنه كان يقود مجموعة من الفرسان يسمون بـ"الرجال المبتهجين"، كانوا يستهدفون كسب المال من الأغنياء الجشعين لإطعام الفقراء وإعانة المحاويج وذوي الفاقة والمرض.

ترى هل أفلح "عروة" وزميله "روبين" في نقل أفكارهما إلى قرننا الذي نعيش فيه؟ هل نجحا في إقناع بعض الشرائح المسحوقة برحى الرأسمالية المتوحشة وإلهامها بالفعل الاحتجاجي؟

هذا ما يظهر الآن على السطح، خاصة أن موجة الاحتجاج قد تولدّت داخل رحم مدينة رأسمالية بامتياز، وأعني بها مدينة نيويورك.

ما سبق يؤكد أننا بحاجة ماسة إلى دراسة مثل تلك التجارب التاريخية الاحتجاجية على نار هادئة من البحث والتمحيص والتأمل.

تبرير الإثراء الفاحش
انطلقت الشرارة من فوهة البركان الرأسمالي، ذلك البركان الذي خبّأ وحشية واضطهادا وصنع ظلماً كبيراً للأفراد والشعوب، وأقام المشانق للطبقات الوسطى، وأهدر الزراعة والتجارة والإنتاج الحقيقي وأغلب ألوان الاستثمار المباشر لصالح الاستثمار الورقي والانتفاخ الاقتصادي الورقي الائتماني الربوي الجشع.

وانتشرت الفكرة الرديئة التي أشاعها هربرت سبنسر (1820-1903) والتي رام من خلالها الدفاع المستميت عن طبقة الأغنياء، حين زعم أن ظهور طبقات الأغنياء يأتي كنتيجة حتمية لظاهرة "الانتخاب الطبيعي"، الأمر الذي أدى بأولئك الأغنياء إلى أن يشعروا بأن ثروتهم نابعة من "تفوقهم البيولوجي"، وتلك الفكرة تدخل ضمن ما يعرف بـ"الداروينية الاجتماعية".

الفكرة السبنسرية أزالت ألم "تأنيب الضمير" لدى الأغنياء وخففت من مسؤوليتهم تجاه "فقر الفقراء"، وشرعت الأساليب القذرة من احتكار وتسلط واستخدام للنفوذ من أجل تكوين الثروات ومراكمتها واستغلال الناس والعمل على استدامة فقرهم وإطالة فترات عوزهم.

ولعب منظرون آخرون كثر نفس الدور الذي لعبه سبنسر وتلميذه وليم غراهام سومنر (1840-1910)، فقد تكاثر منظرو "الوحشية الاقتصادية" التي أشرنا سابقاً إلى بعض معالمها، وانتظموا في مدارس واتجاهات بحثية وفكرية متنوعة وفي أماكن شتى. وأمثال هؤلاء يستحقون بجدارة أن يرموا في مزبلة الشعوب.

"
إذا أخذنا بعين الاعتبار وجود زيادة ملموسة في نقمة الناس على الأغنياء الجشعين والشركات المحتكرة والبنوك السلبية والخصخصة النهمة في الكثير من دول العالم نجد أنفسنا أمام مشهد مخيف، يجعلني أتوقع توسع نطاق الحركات الاحتجاجية
"

توسعت الفجوات بين الأغنياء وبقية أفراد الشعب، وكادت الطبقات الوسطى أن تختفي أو تسحق في كثير من البلدان وعلى رأسها الدول العربية، وتزعزعت ركائز "دولة الرفاهية" التي كانت تقوم على تحقيق قدر كبير من العدالة في تقديم المعونات لعموم الفئات الاجتماعية بما في ذلك الفقراء والمحتاجون.

بل ذهب أحد المحللين (وهو غاي سورمان في مقال حديث له بعنوان "دولة الرفاهية الاجتماعية" بجريدة الخليج الإماراتية) إلى أن "دولة الرفاهية" بدأت تترنح في الدولة التي ولدت فيها، وهي بريطانيا، فالتقديرات تشير مثلا إلى أن 42% من إجمالي معونات الطفولة يستفيد منها أبناء الطبقة المتوسطة والأسر الثرية، مما يقلل من هوامش استفادة الطبقات الفقيرة، وشيء من هذا يحدث في دول أوروبية أخرى.

ونحن ندرك أن "دولة الرفاهية" كانت إحدى أهم الوسائل التي تخفّف من النزعة المتوحشة في الاقتصاد الرأسمالي بنكهته الليبرالية المتطرفة، مما يعني أن الدول التي تطبق فلسفة "دولة الرفاهية" ستنجر إلى مزيد من القلاقل والاضطرابات.

وإذا أخذنا بعين الاعتبار وجود زيادة ملموسة في نقمة الناس على الأغنياء الجشعين والشركات المحتكرة والبنوك السلبية والخصخصة النهمة في الكثير من دول العالم نجد أنفسنا أمام مشهد مخيف، يجعلني أتوقع توسع نطاق الحركات الاحتجاجية.

كما أنني أميل إلى القول بأنها ستتلون وستشمل طبقات وفئات أكثر في الفترة القادمة. وهنالك عوامل أخرى تبرر هذا الاستنتاج، ولعلي أتناول بعضها في المحاور التالية.

الابتكارية في صناعة الفقر
ثمة زيادة ملحوظة في مستويات الفقر والفجوات بين الأغنياء والطبقات الوسطى والفقيرة على مستوى العالم، مع تنام في ظهور نخبة من رجال الأعمال يتحكمون في مجريات كثيرة في عالم اليوم.

وهنالك دراسات علمية عديدة تؤكد على اتساع نطاق ظاهرة الفقر، ومنها دراسات لهارولد ليدال في 1968 وأمارتيا عام 1973، وكتاب "اقتصاد اللاتكافؤ" للباحث توني أتكينسون الذي ظهر عام 1975 وغيرها كثير.

ولعل من أحدثها الكتاب الذي حرره كل من ستيفن بي جنكينز وجون مايكلرايت، ونشراه عام 2007 بعنوان “Inequality and Poverty Re-examined” (وقد نشرت ترجمته بعنوان "منظور جديد للفقر والتفاوت"، سلسلة عالم المعرفة، ع 363، 2009م).

ومن النتائج التي تمكن الإشارة إليها في هذا السياق ما خلصت إليه الدراسة التي نفذها شن ورافاليون عام 2000 بتكليف من البنك الدولي، فقد وصلت إلى أن 24% من سكان الدول النامية في عام 1988 كانوا يعيشون على أقل من دولار واحد يوميا.

وتفيد دراسات أخرى أنه على الرغم من وجود بعض التحسن على دخول الطبقات الفقيرة في بعض البلاد كالصين، فإن التفاوت في الثروة يزداد (المرجع السابق).

"
هل تنظم الرأسمالية البشعة ذاتها وتجمل قبحها وتخرج من ورطتها بعض الوقت نظرا لما انطوت عليه من تنظيم دقيق؟
"

ولذلك لم يكن مؤلفا كتاب "فخ العولمة" بيترمارتن وشومان مبالغين حين كتبا فصلا بعنوان "مجتمع الخمس الثري وأربعة الأخماس الفقراء".

وهذا يجعلنا نستدعي "نظرية العدالة" التي تفيد بأن الإنسان يفكر عادة في مدخلاته (ومنها مؤهله ومهاراته وخبراته) ومخرجاته (ومنها أمواله وامتيازاته) ويجري مقارنة "ذهنية مستمرة" بينها وبين مدخلات الآخرين ومخرجاتهم.

فالشاب العربي الفقير مثلاً يقول في نفسه "ذلك الشاب الغني ليس بأفضل مني تأهيلا ولا أكثر مني مهارة، فما الذي يجعله يحصل على هذه الثروة؟"

ومثل تلك المقارنات الفطرية المشروعة من شأنها تأجيج المشاعر بالظلم والاضطهاد، وهي وقود الحركات الاحتجاجية والأعمال الثورية. والرأسمالية في حقيقة الأمر مستمرة في ابتكار أدوات لصناعة الفقر واستدامته.

السايبر والفعل الاحتجاجي
دخل الفضاء السايبري (الإنترنت) كداعم قوي للحركة الاحتجاجية، فهنالك مؤشرات عديدة تبرهن على أن ذلك الفضاء بات هو الأداة الأساس للتنظيم والحشد الجماهيري.

بل صرح بعض المنظمين للحركات الاحتجاجية بأن الإنترنت لم تعد شكلا من أشكال التواصل فقط، بل أسلوبا للممارسة الديمقراطية المباشرة.

وتم تأسيس العديد من المدونات والمواقع المناهضة للرأسمالية والجشع، واستلهمت الحركات الاحتجاجية بعض الدروس من الربيع العربي على ما يبدو، فأدركت روح التغيير في زمن الإنترنت حين أعلنوا مثلا عن عدم وجود قيادة مركزية، وبأنهم يتجنبون العنف بكل أشكاله. 

انعتاق أم تورط؟
هل تنظم الرأسمالية البشعة ذاتها وتجمل قبحها وتخرج من ورطتها بعض الوقت نظرا لما انطوت عليه من تنظيم دقيق وصفه كورت توخولسكي بقوله "إن الإجرام والرأسمالية فقط هما المنظمان في أوروبا تنظيما عابرا للحدود".

أما أن المشهد المعيش سيشهد حالة من الانشداد إلى مقولة قديمة لكارل ماركس، وكأنه يتواطأ بشكل ما مع "عروة" وزميله "روبين" حين قال "يصنع الرجال تاريخهم، لكنهم لا يصنعونه كما يشتهون، لا يصنعونه في ظروف يختارونها بأنفسهم، بل في ظروف تنشأ مباشرة عن الماضي وتنبثق منه".

ونحن نقول بدورنا إن الحركات الاحتجاجية التي قد تتحول إلى أعمال ثورية في بعض الأماكن نابعة في الأساس من ماض مليء بالظلم والاضطهاد والاحتكار والفساد والإثراء الفاحش.. وربما من ماض أثبت أن ظروفا قاسية كهذه قد تدفع بحركات احتجاجية جديدة على غرار صعلكة أو لنقل فروسية عروة العبسي العربي وروبين النوتينغهامي الإنجليزي.

هل يستعيد العالم شيئا من ضميره وعافيته الأخلاقية؟ والسؤال الأخطر، هل نظل في العالم العربي نتوهم أن خطابا كهذا لسنا معنين به، إذ لا ثروة فاحشة ولا أغنياء فاسدين لدينا؟ المشهد لا يبشر بخير.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.