معضلة الماهية والهوية "للعمل الإسلامي"

تصميم العنوان: معضلة الماهية والهوية لـ "العمل الإسلامي" الكاتب: عبد الله البريدي



"العمل الإسلامي".. وقفات اصطلاحية
"العمل الإسلامي".. مصطلح رحّال

ثمة إشكاليات ضخمة في الفكر العربي الإسلامي المعاصر، وقد آن أوان إعادة النظر في تلك الإشكاليات بأدوات التشخيص الثقافي الحضاري، الأمر الذي يقتضي –ضمن أمور أخرى- مدارسة تلك الإشكاليات في إطار يأخذ بعين الاعتبار والتفحص تموضع الأمة العربية والإسلامية في المسار الحضاري، إذ إن تحديد الموضع الحضاري يعين على تشخيص الأدواء الثقافية المتجذرة في بنية التحضر/التخلف في مجتمعاتنا؛ تشخيصاً دقيقاً يراعي حيثيات المرحلة التي تعايشها الأمة العربية والإسلامية ومقتضياتها في جوانبها المختلفة، مما يمنحنا نظراً أثقب وسبراً أعمق لأصل المشكلة ولبها وسبل معالجتها.

المعالجة التشخيصية في هذا المقال لن تمرر مصطلح "العمل الإسلامي" دون مساءلة وتمحيص، وكأنه بات من المقدسات أو المسلمات أو المفاهيم البريئة من الإشكاليات، إذ قد نكتشف -أو يكتشف غيرنا لاحقاً- أن هذا المصطلح بحمولاته ودلالاته جزء من الإشكالية، وربما يكون جزءاً من الحل، وقد يكون جزءاً من هذا وذاك؛ بعد تعديل وتحوير تقتضيه شرائط العمل النقدي المنهجي وفق التحديات الكبار والمستجدات في المشهد الثقافي في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، المتصف بديناميكية عالية وشبكة علاقات معقدة للغاية.

"العمل الإسلامي".. وقفات اصطلاحية

"
أل "العمل الإسلامي" تجعل بعض المشتغلين فيه يتوهمون أنهم يقومون بجميع مهام "العمل الإسلامي" ويحققون كافة مراميه، فتتضخم ذواتهم لدرجة تفضي بهم إلى احتقار أعمال الآخرين وازدرائها
"

نحن الآن لدينا كلمتان: "عمل" و"إسلامي"، بل "العمل" و"الإسلامي" فهي محلاة بأل التعريف، وربما يلجئنا الرصد التتبعي القائم على جملة من الملاحظات التراكمية للمشهد الثقافي الذي ينشط فيه "العمل الإسلامي" إلى أن نفتئت على "نحوية أل" –الجنسية والعهدية– فننحت لها معاني "حركية" جديدة، قد لا تكون مجافية للمعاني النحوية بل هي مرتبطة بها بشكل أو بآخر، والحقيقة أن "أل" التعريف في "العمل الإسلامي" تحيلنا إلى معان متعددة، ولكني آثرت أن أكثف تحليلي حول ثلاثة معان رئيسة محتملة: "أل التضخيم"، و"أل التزكية"، و"أل التحشيد" أو "أل التخندق"، ويمكن أن نتبين تلك المعاني بشكل أوضح كما يلي:

1- أل "العمل الإسلامي" تجعل بعض المشتغلين فيه يتوهمون أنهم يقومون بجميع مهام "العمل الإسلامي" ويحققون كافة مراميه، فتتضخم ذواتهم لدرجة تفضي بهم إلى احتقار أعمال الآخرين وازدرائها، لا سيما مع تفشي النظرة الضيقة لما يندرج تحت "العمل الإسلامي"، فالباحث الذي يُعمل فكره ويفعّل ملاحظاته وخبراته التراكمية في دراسة ظاهرة اجتماعية أو طبيعية إنما يعمل خارج نطاق "العمل الإسلامي" في نظر البعض، وربما الكثيرين من المنتسبين أو المشتغلين بـ"العمل الإسلامي" الذي يعني –كما عند الكثيرين- "الدعوة" أو "الوعظ" أو "الإغاثة" بالإضافة إلى "العلم الشرعي"، وهنا نلتقط إحدى إشكاليات الفعالية الحضارية في فضاءات "العمل الإسلامي".

2- أل "العمل الإسلامي" تتضمن حمولة تزكوية "تطهيرية" للقائمين عليه، كيف لا وهي تضع على رؤوسهم تاج "العمل الإسلامي"، مما يجعلهم ميالين إلى النزعة التزكوية في تقييم أعمالهم مقابل تقييم أعمال الآخرين، وبالذات ممن لا يندرجون –في نظرهم– تحت مسمى "العمل الإسلامي"، كما أن النزعة التزكوية تخلق لديهم "حساسية عالية" تجاه النقد، ذلك أن البعض يعتقد أن النقد موجه ليس "للعمل الإسلامي" وإنما هو موجه "للإسلام" نفسه أو "حملة الإسلام"، وكل ذلك يفوّت فرصاً كبيرة للإفادة من الممارسات النقدية في المشهد الثقافي العربي لأنشطة "العمل الإسلامي"، الأمر الذي يضعف قدرته على إحداث التراكمية الفكرية ورفع إمكاناته في الاستجابة للتحديات الحضارية الكبار، ومن ثم الفشل في بناء إطار متماسك من الفهم المعمق للمشروع الحضاري بمفرداته وتحدياته، وتلك إشكالية أخرى لا يستهان بتأثيرها على "العمل الإسلامي" في سياق الفعالية الحضارية.

3- أل "العمل الإسلامي" تحشد أعمالاً معينة داخل مسمى "الإسلامي" وتمنع أخرى بحجة عدم "إسلاميتها"، كما أنها –وهو الأخطر– تحشد أناساً معينين داخل بوتقة "العاملين للإسلام" وُتخرِج آخرين بذريعة عدم اشتغالهم في "العمل الإسلامي"، وهذا يعني تحشيداً فكرياً وتخندقاً حزبياً، لا سيما أن ذلك "العمل" يفتقر إلى "قيادة" فكرية وحركية، مما يكرّس التخندق والتحزب.

ويشهد على ذلك حالات الانقسام والتشظي في الجماعات المنتسبة أو المشتغلة في "العمل الإسلامي" وما يصاحب ذلك من الفرز والتعصب والإقصاء و"التمييز الحركي" داخل بوتقة "العمل الإسلامي"، بسبب نظرات اجتهادية أو "مكاسب" حركية سواء على الأطر السياسية أو الشعبية في أبعادها الفكرية أو الإعلامية أو الاقتصادية أو التشريعية، وكل ذلك يخلّق إشكالية "التنافر" والابتعاد عن دوائر التكامل والتسامح التي يتطلبها بناء المشروع الحضاري العربي الإسلامي.

4- وبالنظر إلى العوامل السابقة، يمكننا تقرير أن الأمور تتعقد كثيراً حين يضع "العمل الإسلامي" لنفسه "أهدافاً سياسية" اتكاءً على "البعد الديني"، حيث يفاقم ذلك النهج أدواء التضخم، والتزكوية، والتخندق/التحزب على أسس دينية، ومعلوم أن ذلك يفضي إلى إشكاليات كبيرة ومعقدة للغاية، ومنها ما يعرف بإشكاليات "الإسلام السياسي".

"العمل الإسلامي".. مصطلح رحّال

"
مصطلح "العمل الإسلامي" يخلق حساسية مفرطة لدى البعض تنتهي بهم إلى عملية فرز لما هو "إسلامي" و"غير إسلامي"، وقد شاعت ثقافة السؤال أو الاستفتاء عن مدى إسلامية كل شيء تقريباً
"

مع ما يتضمنه التحليل السابق من إشارات إلى بعض دلالات "العمل الإسلامي" من حيث الماهية والهوية، نشير إلى أن مصطلح "العمل الإسلامي" مصطلح "رحّال" عبر حدود المكان والزمان، ذلك أنه قد يكون سائغاً أو ملائماً في مكان أو زمان ما، إلا أنه عند التدقيق نجد أن هويته بدأت تـُخلّق إشكاليات متعددة، ويحسن بي استعراض بعضها وإن بشكل مكثف:

في المشهد الثقافي الاجتماعي التنموي في عالمنا العربي والإسلامي ثمة من يسمّي نفسه بـ"الوطني" أو "الإصلاحي" فإذا أصر شخص ما على تسمية نفسه بـ"الإسلامي"، فإن هوية "الإسلامي" تقتضي "هوية مغايرة" بمعنى أنها تشير إلى أن "الإسلامي" ليس وطنياً ولا إصلاحياً، وهذه إشكالية مفاهيمية جديدة، كما أن مصطلح "العمل الإسلامي" يخلق حساسية مفرطة لدى البعض تنتهي بهم إلى عملية فرز لما هو "إسلامي" و"غير إسلامي"، وقد شاعت ثقافة السؤال أو الاستفتاء عن مدى إسلامية كل شيء تقريباً.

وقد صاحب ذلك ارتياب في كثير من الأفكار والتصرفات أو جمود أو تأخر في تفعيلها، ولعل من أبرز الشواهد الدالة على ذلك الاستفتاء عن "وسائل الدعوة"، هل هي توقيفية أم اجتهادية؟ والفتوى تأتي –في الأغلب الأعم– بأنها ليست توقيفية بل اجتهادية، ولكنه يندر أن نجد فتوى تصحح طرائق التفكير بشكل يفلح في عدم تكرار هذا النوع من الأسئلة التي تؤكد تواجد تلك الحساسية وذلك الفرز اللذين أشرنا لهما، ومما يؤشر على تأزم الوعي الحضاري أن البعض يعتبر أن مجرد الفتوى بعدم التوقيفية لوسائل الدعوة ضرب من الانفتاح الفكري الكبير.

ومن جهة أخرى أدى ذلك المسلك التفكيري السائد إلى عملية تسطيح لعملية "إسلامية المعرفة"، أو المبالغة في جرها إلى كل مشهد علمي أو فكري أو حياتي، مما جعلنا نشاهد عمليات "قص ولزق" لبعض الأدلة الشرعية على متون بعض المسائل العلمية أو الفكرية، بهدف دمغها بـ"الإسلامية".

وينضاف إلى ذلك الخلل الكبير في حركة "الإعجاز العلمي" في القرآن الكريم والسنة النبوية، إذ إنها أشبه بمن يقوم بتقوية عضلاته للوثب القصير على المنجز العلمي بعد أن يتحقق، ليكون دور العقل المسلم الظفر بآية أو حديث ُيثبت هذا الاكتشاف أو ذاك، أما أن يكون النص الديني منطلَقاً للبحث والتنقيب والاكتشاف فهو أمر نادر، وذاك مؤشر على ضعف فعالية "العمل الإسلامي" في التعبئة الفلسفية والمنهجية والفكرية، وقبل ذلك الإيمانية بما يصنع "عقلية بحثية إبداعية" في مختلف الميادين.

بعد تلك الجولة التحليلية المقتضبة "للعمل الإسلامي" قد يرى البعض أنها حمّلت البعد المفاهيمي بأكثر مما ينبغي، وقد يكون لهذا الاعتراض وجاهة بقدر ما، ولكننا نتجاوز ذلك التحليل وما قد يخلقه من اعتراضات لنعيد النظر في ماهية "العمل الإسلامي"، عبر مواجهة سؤال مباشر: ما هو "العمل الإسلامي"؟ في الأدبيات الفكرية "الإسلامية" لا نجد ضبطاً محكماً له، وثمة توسيع وتضييق وذلك بحسب السعة الفكرية التي تتوفر عليها تلك الأدبيات، الأمر الذي يحيلنا إلى دوائر التساؤل التي تتضمن أسئلة عن المحتوى أو المضمون، وأسئلة أخرى عن المرجعية الدينية والقانونية والسياسية:

"
هل "العمل الإسلامي" هو الدعوة والوعظ؟ أم إنه العلم الشرعي تحصيلاً وبذلاً؟ أم هو الإغاثة الإسلامية؟ أم إنه العمل السياسي المباشر أو غير المباشر؟ وهل يتضمن الجهود التنموية والبحثية والفكرية؟ وماذا عن الأنشطة الإعلامية؟
"

• هل "العمل الإسلامي" هو الدعوة والوعظ؟ أم أنه العلم الشرعي تحصيلاً وبذلاً؟ أم هو الإغاثة الإسلامية؟ أم إنه العمل السياسي المباشر أو غير المباشر؟ وهل يتضمن الجهود التنموية والبحثية والفكرية؟ وماذا عن الأنشطة الإعلامية؟.

• أم إن "العمل الإسلامي" لا يتحدد بمضمونه بقدر ما يتحدد بمرجعيته "الإسلامية" مهما تعدد وتنوع في أنشطته ومجالاته؟، ولكن إلى أي حد يقبل التنوع؟ وما هي حدود المرجعية؟ وأين تأثير التشريع والقوانين والثوابت السياسية في كل بلد؟، وكيف يتعاطى "العمل الإسلامي" مع التيارات والتوجهات الأخرى "غير الإسلامية"؟، وكيف يعالج ملفات الفساد ومظاهر الاستبداد بمختلف أشكالها؟.

هذه الأسئلة وما سبقها من تحليل مفاهيمي "للعمل الإسلامي"، كل ذلك يومئ إلى أننا بحاجة إلى إعادة النظر في مفهوم "العمل الإسلامي" سواء في إطار "الدال" أو "المدلول" أو كليهما، وفي رأيي أن المدرسة الحضارية تتوفر على بعض الشفرات أو "التوصيات" التي يمكن أن يستنير بها هذا المفهوم إن أراد أن يتصف بالفعالية الحضارية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.