الانتخابات وشرعنة الاستبداد

حمدي عبد الرحمن: الانتخابات وشرعنة الاستبداد



الانتخابات السيئة
مصر وساحل العاج نموذجا
انتخابات بلا اختيار
على سبيل الختام

ارتبطت الانتخابات التنافسية دائما بمفهوم الحكومات النيابية في الفكر السياسي الغربي الحديث، إذ تشير كتابات كبار الساسة والمفكرين أمثال جيمس مادسون وتوماس جيفرسون وجون ستيوارت مل إلى أن المسألة الانتخابية تقع في منطقة القلب من النظام السياسي الديمقراطي، بيد أن الانتخابات تسهم كذلك في إضفاء الطابع المؤسسي على جوهر الديمقراطية، وهو حكم الشعب لنفسه.

ورغم ذلك كله فإن إجراء الانتخابات بحد ذاته لا يكفي مسوغا للقول بوجود نظام ديمقراطي حقيقي. وقد اتسم الجدل حول دور ووظيفة الانتخابات في إطار عمليات التحول والانتقال إلى الديمقراطية في النظم غير الغربية بعد نهاية الحرب الباردة بسيادة النزعة التشاؤمية التي ترى في الانتخابات مجرد وسيلة لإضفاء الشرعية على النظم الأوتوقراطية والمستبدة.

إن مؤشر الانتخابات العامة يمثل دليلا محدودا للغاية على حالة الديمقراطية واحترام الحقوق المدنية للمواطنين في معظم البلدان الأفريقية، فالمعيار الكمي الذي يعتمد على عدد مرات توجه الناخبين إلى صناديق الاقتراع في السياق الأفريقي يعد مضللا.

إذ شهدت السنوات الأخيرة قيام العديد من الحكومات الأفريقية بسرقه إرادة الناخبين من خلال أعمال التزوير وتغيير النتائج العامة. وسوف نحاول في هذا المقال إبراز التجربة الأفريقية، على ضوء حالتي مصر وساحل العاج، حيث أضحت العملية الانتخابية بلا اختيار حقيقي، وهو ما أفقدها جانب التنافس الحر من حيث المبنى والمعنى.

الانتخابات السيئة

"
الانتخابات "السيئة" هي الانتخابات غير التنافسية التي أبعد ما تكون عن معايير الشفافية والنزاهة, وهي في هذه الحالة يستخدمها غطاء حكام مستبدون لاكتساب الشرعية
"

يمكن التمييز بين نمطين أساسيين من الانتخابات في الواقع الأفريقي: النمط الأول ويمثل نمط الانتخابات التنافسية السلمية التي يطلق عليها عادة الانتخابات "الجيدة".

فقد شهدت بعض الدول الأفريقية في العقد الأخير توجهات عامة نحو زيادة معدلات التنافسية الانتخابية، وهو ما يعني تعزيزا للتوجه نحو الديمقراطية، فقد أضحت أحزاب المعارضة تمتلك قاعدة صلبة في الممارسات السياسية بما يمكنها من طرح البديل المناسب لأحزاب ظلت تمسك بتلابيب السلطة منذ الاستقلال الوطني.

وتعطي انتخابات غانا عام 2008 نموذجا مثاليا لهذه الانتخابات الجيدة، فقد التزم الرئيس جون كوفور بالدستور وتخلى عن السلطة بعد إكماله دورتين رئاسيتين، وفي انتخابات حرة ونزيهة تمكن مرشح المعارضة جون عطا ميلز من الفوز بمقعد الرئاسة في غانا.

أما النمط الثاني فهو يمثل الانتخابات "السيئة" غير التنافسية، التي هي أبعد ما تكون عن معايير الشفافية والنزاهة. إن الانتخابات في هذه الحالة يستخدمها غطاء حكام مستبدون لاكتساب الشرعية.

ولنضرب على ذلك بعض الأمثلة، ففي أغسطس/آب الماضي حصل الرئيس الرواندي بول كاغامي على نسبة 93% من إجمالي الأصوات في الانتخابات الرئاسية ليحتفظ بمقعد الرئاسة فترة أخرى.

وفي بوروندي المجاورة لم يجد الرئيس بيير نيكورونزيزا من ينافسه في ظل مقاطعة أحزاب المعارضة لانتخابات الرئاسة. وفي الانتخابات الإثيوبية لم تتمكن أحزاب المعارضة من الفوز إلا بمقعدين فقط من إجمالي عدد مقاعد البرلمان البالغة 547 مقعدا، وهو ما يعني هيمنة حزب رئيس الوزراء ميليس زيناوي على مقاليد الحكم بلا منازع.

مصر وساحل العاج نموذجا
يبدو أن ثمة نوعا من المشابهة بين الحالتين المصرية والعاجية من حيث بنية نظام الاستبداد والمطالب الشعبية المنادية بالتغيير، ففي مصر علقت الجماهير آمالها على شخص "المخلص" أو المنقذ، وهو الدكتور محمد البرادعي، الذي عاش سنوات طويلة خارج مصر، فأصبح بمنزلة المرشح الافتراضي على ضوء حالة الضعف والانقسام التي تعاني منها الأحزاب والمنظمات السياسية الشرعية في مصر، وذلك في مواجهة تغول واستبداد الحزب الوطني الديمقراطي الحاكم.

وربما يطرح زعيم المعارضة العاجية الحسن وتارا نموذجا مشابها إلى حد ما لتجربة البرادعي المصرية، فقد شغل وتارا عدة مناصب في البنك الدولي، وعاد إلى بلاده لتبوء منصب رئيس الوزراء في آخر حكومة للرئيس الراحل هوفيه بوانيه، ولكنه حينما تطلع إلى منصب رئيس الدولة واجهته عقبات جمة، حيث استبعد من حلبة المنافسة الرئاسية عام 2000، بحجة أن أحد أبويه ينحدر من بوركينافاسو. وقد أسهم ذلك في الزج بالبلاد في آتون الحرب الأهلية في العام 2002.

ومع أن الحرب الأهلية في ساحل العاج قد وضعت أوزارها في العام 2004 لم يوقع اتفاق السلام بين طرفي الصراع إلا في العام 2007، وقد تأجلت الانتخابات منذ ذلك الحين أكثر من ست مرات.

ويبدو أن الرئيس لوران غباغبو لم يقدر طبيعة وحجم المعارضة الشعبية له، إذ إنه بعد إعلان نتائج جولة الإعادة بينه وبين الحسن وتارا في 2/12/2010 لم يقبل بهذه النتائج ورفض تسليم السلطة للرئيس المنتخب الذي حظي بدعم المجتمع الدولي. ولعل هذا الموقف من غباغبو يكرس تقسيم الدولة إلى شمال وجنوب.

"
لم تقتصر سرقة إرادة الناخبين على الحالة العاجية، إذ عكست الانتخابات البرلمانية المصرية الأخيرة خطة محكمة من النظام الحاكم لاستبعاد جماعة الإخوان المسلمين وتيارات المعارضة الحقيقية
"

ولم تقتصر سرقة إرادة الناخبين على الحالة العاجية، إذ عكست الانتخابات البرلمانية المصرية الأخيرة خطة محكمة من النظام الحاكم لاستبعاد جماعة الإخوان المسلمين وتيارات المعارضة الحقيقية، وذلك بغية التمهيد للانتخابات الرئاسية القادمة عام 2010.

إن تجربة كل من مصر وساحل العاج، بغض النظر عن اختلاف السياق المجتمعي، تفصح عن ثقافة الاستبداد ورفض التغيير الديمقراطي، بحجة أن البدائل التي تطرحها المعارضة غير شرعية وتهدد الاستقرار وأمن البلاد، فالإخوان المسلمون في مصر يمثلون من منظور السلطة جماعة محظورة خارجة عن الشرعية وتهدد استقرار وأمن البلاد، وقد خضع محمد البرادعي لعملية تشويه مهينة من مؤيدي الحزب الوطني الحاكم. وفي السياق العاجي نظر إلى الحسن وتارا بأنه أجنبي ودخيل على البلاد.

انتخابات بلا اختيار
ربما تلجأ كثير من النظم الحاكمة إلى آلية الانتخابات لتحقيق بعض المقاصد العامة، لعل من أبرزها أولا إضفاء قدر من الليبرالية على نظام الاستبداد دون تغيير جوهر الوضع القائم، فأفريقيا تشهد نحو عشرة رؤساء في السلطة منذ أكثر من عشرين عاما.

وقد أجرى هؤلاء انتخابات تعددية (صورية) مكنتهم من الاستمرار في السلطة. وعادة يعتمد هؤلاء الرؤساء على أساليب متعددة، منها قمع أو حظر أحزاب المعارضة، أو الدفع بأحزاب المعارضة القائمة لمقاطعة الانتخابات، وكذلك السيطرة على وسائل الإعلام وموارد الدولة وتسخيرها لخدمة النظام الحاكم. وثمة من يذهب إلى ترويع وترهيب الناخبين واللجوء إلى عمليات تزوير واسعة النطاق.

أما المقصد الثاني فيتمثل في إضفاء الشرعية على نظم جاءت إلى السلطة بشكل غير شرعي، فقد شهدت أفريقيا منذ العام 2008 انقلابات عسكرية ناجحة في كل من موريتانيا وغينيا ومدغشقر والنيجر. وعادة يقوم العسكر بإطلاق الوعود من أجل إجراء الانتخابات والعودة للحكم المدني.

ويشير المقصد الثالث إلي تأسيس نمط من العائلية السياسية المهيمنة التي يخلف الابن من خلالها أباه في رئاسة الدولة. ويمكن أن نشير هنا إلى أمثلة جمهورية الكونغو الديمقراطية حيث جاء جوزيف كابيلا إلى الحكم خلفا لوالده لوران كابيلا، وتوغو التي شهدت انقلابا عسكريا عام 2005 في أعقاب وفاة الرئيس أياديما حيث جاء الجيش بابنه فوري أياديما ليتقلد زمام الأمور في البلاد خلفا لوالده، وحينما ازدادت المعارضة في الداخل والخارج لهذا الإجراء غير الدستوري ما كان من النظام الحاكم إلا أن يجري الانتخابات ويكتسب شرعية الوجود. أما المثال الثالث فهو الغابون حيث إن وفاة الرئيس عمر بونغو بعد نحو (42) عاما في السلطة قد أفضت إلى انتخاب ابنه علي بونغو في انتخابات شابتها أعمال تزوير وعنف واسعة النطاق.

على سبيل الختام
إذا كانت أفريقيا قد شهدت في السنوات العشر الأخيرة وجود نماذج ناجحة لانتخابات تنافسية وسليمة ودون مساعدة من المجتمع الدولي مثل حالات جنوب أفريقيا وبتسوانا وغانا فإنها شهدت مع ذلك حالات متعددة للانتخابات السيئة التي شهدت أعمال عنف واسعة النطاق، كما هو الحال في كل من زيمبابوي وكينيا، أو اتسمت بالتزوير وإعادة إنتاج نظام الاستبداد مثل حالات إثبوبيا وبوروندي ورواندا ومصر.

لقد رأى توماس جيفرسون أنه دون الاعتراف بقيمة وأهمية حقوق الإنسان، يصبح من اليسير على الحكومات أن تنكر الحقوق الأخرى أيضا، وهو ما يفضي إلى تدمير آمال وتطلعات الشعوب في كل مكان.

إننا ونحن نناقش من خلال هذا المنبر ما إذا كانت بعض الدول مستعدة للديمقراطية، يجب علينا أن نعترف بدءا بمركزية ومحورية الديمقراطية والانتخابات الحرة في الحفاظ على حقوق الإنسان. وكما لا يزال الملايين يحرمون من حقهم في التعبير والتنقل أو التجمع بحرية أو الحصول على محاكمة عادلة فإن هناك الملايين أيضا يحرمون من الحق في المشاركة في اختيار حكومات بلدانهم.

"
ليس أمام الشعوب المستضعفة من خيار آخر سوى التمسك بالانتخابات وإن كانت معيبة, لأنه بمرور الوقت ودورية إجراء الانتخابات, تصبح ديمقراطية العملية الانتخابية نتيجة حتمية
"

إن الانتخابات الراهنة في أفريقيا لا تؤدي وظيفتها المرجوة نظرا لطبيعتها الرمزية وكيفية إجرائها. إنها ليست حرة ولا نزيهة كما لا يتم الكشف أبدا عن نتائجها الحقيقية.

والقضية الأساسية هي أنه تفرض فكرة الانتخابات في كثير من الأحيان على الحكومات من الأمم المتحدة والدول المانحة، ولذلك فإن النخب الحاكمة تجري هذه الانتخابات ليس من منطلق الإيمان بأهميتها ولكن لأن عليهم القيام بها.

وعندما تبدأ الحملات والدعايات الانتخابية نشاهد الوجه القبيح للتخويف والقمع والمضايقات التي تتعرض لها أحزاب المعارضة ومؤيدوهم، وهو ما يؤدي غالبا إلى سفك الدماء.

ورغم ذلك كله ليس أمام الشعوب المستضعفة من خيار آخر سوى التمسك بالانتخابات وإن كانت معيبة. وأعتقد اعتقادا قويا أنه بمرور الوقت ودورية إجراء الانتخابات ومع تطور المجتمعات، تصبح ديمقراطية العملية الانتخابية نتيجة حتمية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.