الدول الصناعية وثروة المناخ الكونية

الدول الصناعية وثروة المناخ الكونية

 

دعت الأمم المتحدة مؤخرا للمرة الثانية دول العالم إلى مؤتمر دولي لمعالجة أزمة الانحباس الحراري وانهيار التوازن الطبيعي في الأرض. الدعوة الأولى كانت في مؤتمر كيوتو عام 2000 حين فاضت قريحة الأمم المتحدة ببرامج الألفية لما أسمته القضاء على الفقر والجوع وحل باقي الأزمات العالمية الأخرى كأزمتي الطاقة والمياه وأزمة الغذاء.

لبّت الدعوة الثانية 141 دولة قبيل أعياد الميلاد، على أبواب توزيع هدايا الدول الصناعية الثمينة، في مؤتمر كوبنهاغن فأعربت كلها عن خشيتها من المخاطر الجمّة التي تهدد البقاء إذا لم تتعاون دول "المجتمع الدولي" على تخفيف انبعاث الغازات المسبّبة لاحترار المناخ، لاسيما غازات ثاني أوكسيد الكربون الناتجة عن استهلاك الطاقة الصناعية.

"
تسابقت 141 دولة في كوبنهاغن إلى التعبير عن اهتمامها بحل هذه الكارثة المحدقة بمصير الكون، لكنها أبت تغيير الحد الأدنى من نشاطها الصناعي المحموم في تبديد ثروة طبيعية منقولة من الأجيال السابقة إلى الأجيال اللاحقة
"

تسابقت كلها إلى التعبير عن اهتمامها بحل هذه الكارثة المحدقة بمصير الكون، طيلة 11 يومًا من الدعاية الصاخبة، لكنها أبت تغيير الحد الأدنى من نشاطها الصناعي المحموم في تبديد ثروة طبيعية منقولة من الأجيال السابقة إلى الأجيال اللاحقة ثروة عمومية، إذا اعتدى أحد عليها يعتدي على حقوق الإنسانية جمعاء. ولم تستطع حفظ ماء وجهها بأكثر من إعلان ختامي وصفه مسؤولو الدول المشاركة في المهرجان بصفات الحزن المأساوي زيادة في الطين بلّة.

لقد نفث خلال 11 يومًا في كوبنهاغن41000 طنًّ من انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون هي مقدار انبعاثات مدينة يسكنها 142000 شخص خلال سنة كاملة. وعادت بخفي حنين لأنها أجمعت على أن المشكلة التي ينبغي علاجها هي مشكلة المناخ حيث مصب الانبعاثات، لا مشكلة منبع الانبعاثات في النشاطات الاقتصادية ونموذج الحياة المفرط في الاستهلاك البذيء وفي تبديد الثروات الطبيعية.

ولأن الدول الصناعية تسعى إلى تحميل بقية العالم كلفة ونتائج هذا التبديد وترفض أن تدفع ديونها مقابل الأضرار التي سبّبتها في الانحباس الحراري وتخريب المناخ.

حتى بداية التسعينيات ظل خبراء الشركات الصناعية العملاقة المبدّدة للثروة الطبيعية، وظل علماء الدول الصناعية على وجه الخصوص وعلماء الهيئات الدولية عمومًا، يكابرون باستهزاء في نتائج أبحاث علماء الطبيعة والبيئة والمناخ التي دقّت ناقوس الخطر منذ السبعينيات.

اتهموا العلماء المستقلين بشتى أنواع التهم وأسموهم "مالتوسيين" أو "تأبطوا شرًّا" بحجة أن الطبيعة تصحح نفسها بنفسها حتى لو خرّبت النشاطات الصناعية توازن الطبيعة "خدمة لرفاهية إنسان العصر الحديث".

وابتداء من التسعينيات أخذت الدول الصناعية تعيد حساباتها في كلفة العبث بتبديد توازن المناخ على أعباء ميزانيات مستقبلها في المدى المتوسط والبعيد. ثم بدأت ترى أن التقنيات الصناعية الحالية المبدّدة للبيئة والمناخ، يمكن أن تسمح للدول الصناعية الناشئة مثل الصين والهند والبرازيل باللحاق بها إذا بقيت على وتيرة نموها الحالي في استهلاك طاقة العالم من النفط والغاز والفحم الحجري، مما يهدد الدول الصناعية في سلطانها الحالي وتقاسم الأسواق العالمية.

لذا بدا للدول الصناعية أنه من المستحسن إعاقة الدول الفتية عبر إدخال تقنيات جديدة نظيفة قبل انتهاء مدة صلاحية تقنياتها الحالية لزيادة كلفة انتقالها إلى التقنيات النظيفة. وبدأ الرأي العام في أوروبا على وجه خاص يتأثر بالمتغيرات الطبيعية ويلتف حول تيارات البيئة وأحزاب الخضر المنافسة للأحزاب التقليدية. وآلت كل هذه العوامل وغيرها إلى انعقاد أول مؤتمر للمناخ تشارك فيه الدول الصناعية رسميًّا عام 1992 في ريو دي جانيرو.

وبعد السلام وفصاحة الكلام عن مصيبة المناخ والأضرار الجسيمة التي ألحقها بنفسه جراء عدم قدرته على التصرف ببلايين بلايين الكيلومترات المكعبة من انبعاث غازات الاحترار، سرعان ما انقسم الجمع إلى قسمين:

أ- مجموعة الثمانية الكبار في جهة الناصح الراشد العالم في شؤون الخليقة والكون.
ب- مجموعة الـ77 ومن ضمنها الصين والهند والبرازيل في جهة المدرك لأن وراء الأكمة ما وراءها وأن الدول الصناعية تقرض المديح في المناخ لا حبًّا لزيد بل كرهًا لعمرو. وفي خضم مصيدة المكائد ومجاملات الأعراف الدبلوماسية تباينت مداولات المجموعتين في ثلاثة ملفات رئيسة:

1- حجم تخفيض انبعاثات غازات احترار المناخ لاسيما غازات ثاني أوكسيد الكربون المنبعثة من استهلاك ثمانين مليون برميل من النفط في اليوم. وفي هذا الأمر رأت مجموعة الثمانية أن حجم التخفيض ينبغي أن يشمل كل دول العالم بالتساوي كأسنان المشط. لكن المجموعة الثانية رأت أن الدول الفتية تحتاج إلى فترة سماح قبل أن تتساوى في التخفيض مع الدول الصناعية على الرغم من استعدادها لتخفيض حجم انبعاثاتها تدريجيًّا.

"
في كيوتو وفي أجواء الوعود العرقوبية نجحت الأمم المتحدة في جمع الدول على بروتوكول يقضي بخفض الانبعاثات بـ5.2% حتى عام2012 قياسًا لانبعاثات عام 1990 وتركت أمر التخفيض إلى تعهد شرف كل دولة!
"

2- كيفية توزيع خفض الانبعاثات والحد المرجعي لهذا التخفيض. وفي هذا الأمر أيضا تباينت المجموعتان فقالت المجموعة الأولى بتوزيع التخفيض على الدول على أن يكون الحد المرجعي هو حد ما قبل الثورة الصناعية، وقالت المجموعة الثانية بتوزيع الخفض على حجم عدد السكان في الدول وأن يكون الحد المرجعي عام 1990.

3- التمويل وهيئات المراقبة على التمويل وعلى الالتزام بتخفيض انبعاثات الاحتباس الحراري. وهنا تفرّق الجمع أيدي سبأ فكشفت مجموعة الكبار عما ظنّ المناخ المصاب بعلة الاحترار أنه الليث يبتسم. فقالت بتمويل كل دولة خفض انبعاثاتها بإشراف البنك الدولي وصندوق النقد على التمويل على أن يُترك أمر مراقبة الخفض على ذمة تعهدات الشرف.

وقالت المجموعة الأخرى "كأننا يا سلمى لا رحنا ولا جئنا" في تسليط البنكين على ديون جديدة في "العالم الثالث"، وفي تعهدات شرف خبرتها جيدًا "الدول النامية" في إعاقة لحاقها بالدول الصناعية. واقترحت تمويلاً دوليًّا تساهم فيه الدول بحجم الأضرار التي تلحقها بالمناخ، وهيئة مراقبة دولية حيادية قادرة على المحاسبة على أن تستعين بالبنكين ومؤسسات أخرى إذا دعت الحاجة.

طال الفراق حتى دعت الأمم المتحدة إلى مؤتمر كيوتو عام ألفين. فالسنة كانت لها رمزيتها في خشية قيام الساعة ولا بأس في إطلاق الوعود السخية قبيل الحساب العسير. خطر للأمم المتحدة في تلك السنة خاطر التكفير عن كل الذنوب في برامج أسمتها "برامج الألفية" لحل كل مشاكل الكون بطيبة خاطر.

ووعدت بالعمل على القضاء على الفقر والجوع خلال أقل من عقدين وعلى أزمة الغذاء في بضع توصيات وعلى تلوّث البيئة وأزمة المياه.. بالثقافة والآداب العامة. لكنها ذهبت على مذهب قول: "وداوني بالتي كانت هي الداء"، فزادت من نشر "ثقافة" أن الطبيعة تصحّح نفسها بنفسها وأن العلة التي ينبغي معالجتها هي علة الجوع والبيئة والمياه.. لا علة منظومة النشاطات الاقتصادية الجائرة ومنظومة الاستهلاك البذيء التي تسبب في الجوع وهدر البيئة وتخريب المناخ.

وفي كيوتو وفي أجواء الوعود العرقوبية نجحت الأمم المتحدة في جمع الدول على بروتوكول يقضي بخفض الانبعاثات بـ5.2% حتى عام 2012 قياسًا لانبعاثات عام 1990 وتركت أمر التخفيض إلى تعهد شرف كل دولة وأمر المراقبة إلى الإدارة في كل دولة. لكن الدول الأوروبية أنشأت بنك تمويل خاص يتموّل بالضريبة على التلوّث لتمويل إنتاج الطاقة المتجددة. وعلى الرغم من ذلك رفضت الإدارة الأميركية التصديق على المعاهدة لسببين:

أ- أنها أكبر ملوث في تبديد الثروة الكونية في المناخ ومسؤولة عن أكثر من ربع التبديد وحدها، مما يجعل كلفة الانتقال إلى الطاقة النظيفة في صناعاتها عالية ولا تتوافق مع "الحلم الأميركي" في الاستهلاك والتبذير.

ب- أن التقنيات الصناعية الأميركية هي تقنيات شرهة في تبذير الطاقة وتخريب البيئة والمناخ، دون حساب كلفة التبذير أو دون أن تدفع هذه الكلفة من حسابها على الأصح. فإذا دخل حساب التبذير في كلفة صناعاتها يصبح وضعها صعبًا حتى بالنسبة للصناعات الأوروبية واليابانية الأقل شراهة في تبذير الطاقة كصناعة السيارات على سبيل المثال.

"
إذا كان البشر يعتادون أحيانًا على هدر الحقوق ومناظر القتل بالسيف أو بغيره، فإن الطبيعة تمهل طيش أبنائها إلى حين لكنها لا تهمل غيّهم في الافتراء الجحود على نعمة التوازن على نحو يرضي خالقها
"

وعادت مصيبة المناخ في كوبنهاغن عودا على بدء، فلم تؤد وعود الأمم المتحدة إلى القضاء على الجوع بل أدت إلى مزيد من القضاء على الجائعين. ولا أدى بروتوكول كيوتو إلى خفض الانحباس الحراري وهدر البيئة والمياه. وإذا كان البشر يعتادون أحيانًا على هدر الحقوق ومناظر القتل بالسيف أو بغيره، فإن الطبيعة تمهل طيش أبنائها إلى حين لكنها لا تهمل غيّهم في الافتراء الجحود على نعمة التوازن التي استغرقت مئات ملايين السنين على نحو يرضي خالقها. لقد بدأ غضب العدالة ينذر بقلب الأرض وبحارها وجبالها الثلجية، واطيها عاليها. وما زال حكام الناس في الأرض لا يفقهون.

في كوبنهاغن انقسم قوم الحكام إلى مجموعات على رأسها 27 دولة صناعية تعد الأكثر تبذيرًا وتبديدًا، وقّعت على إعلان حبر على ورق من النوايا الطيبة، وإلى جانبها مجموعة الدول المنتجة للنفط التي رفضت أن تتحمل وحدها "ضريبة الكربون" بحوالي نصف كلفة خفض الانبعاثات العالمية.

وبينهما مجموعة الدول "النامية" الواقعة بين فكي كماشة الدول الصناعية التقليدية وعلى رأسها الولايات المتحدة، والدول الصناعية الجديدة وعلى رأسها الصين والهند والبرازيل.

وفي الضفة المقابلة عقد حوالي خمسين ألف مندوب من منظمات حماية المناخ والبيئة، منتدى عالميًّا لم يحظ بتغطية إعلامية عربية على وجه الخصوص على اعتبار أن الإعلام العربي لا يرى من المناهضة غير المظاهرات والاشتباك في الشوارع. لكن خبراء وناشطي حركة الدفاع عن البيئة وفي مقدمتها منظمة "الحركة من أجل العدالة في المناخ"، كان لهم الباع الأكبر في الدفاع عن حقوق البلدان "النامية" دفاعًا عن العدالة في ملفات مؤتمر كوبنهاغن.

الملفات هي نفسها التي تم تداولها عام 1992 في ريو دي جانيرو: حجم التخفيض ومرجعيته، توزيع التخفيض، التمويل وهيئات المراقبة، لكن أمرًا جديدًا دخل على مقاربة هذه الملفات نتيجة تأثير خبراء الدفاع عن البيئة على خبراء الدول الصناعية والهيئات الدولية الذين يحضرون المؤتمرات الرسمية إلى جانب ممثلي الدول.

فقد بات خبراء العدالة يبزّون زملاءهم الرسميين ويحرمونهم من تأويل الأرقام والتلاعب بالحقائق لمصلحة الدول الصناعية، وهو أمر لم يقم فيه خبراء ومستشارو الدول "النامية" حتى اليوم. وإلى جانب ذلك أدخل خبراء العدالة إلى المباحثات كلفة الديون الإيكولوجية (البيئية) القديمة في ذمة الدول الصناعية نتيجة إلحاقها الأذى بالثروة الكونية منذ بداية العصر الصناعي حتى عام 1990، عام الحد المرجعي. ثم نشروا فكرة محكمة دولية مستقلة للمراقبة والمحاسبة وفكرة ضريبة التبديد عن كل شخص بحجم مسؤوليته في التبديد.

وقد أفادت الصين والهند والبرازيل من هذه الفكرة الأخيرة ردًّا على اتهام الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بأن الصين أصبحت أكبر ملوّث في العالم تليه الولايات المتحدة ثم الهند. وتبين أن الفرد الأميركي يبدد ما يعادل أربعة أضعاف الفرد الصيني وثمانية أضعاف الفرد الهندي وعشرة أضعاف الفرد البرازيلي ولا يبعد تبديد الفرد الأوروبي عن ذلك كثيرًا.

"
لم يصدر عن مؤتمر كوبنهاغن اتفاق أو حتى بروتوكول, لكن أحداث المؤتمر برهنت أمام الملأ على أن الدول الصناعية تسعى إلى تحميل العالم كلفة تبديدها للثروة الكونية في المناخ
"

كما أفادت الدول "النامية" الأخرى من الفكرة حيث يمكن لها استعادة حقوق قديمة من ديونها الإيكولوجية في ذمة الدول الصناعية وحقوق جديدة في ذمة الدول الصناعية القديمة والناشئة على السواء، إذا ما أُخذ حجم تبديد الفرد في الحسبان.

لذا رفضت الدول الصناعية في كوبنهاغن كشف الحساب في عدالة المناخ وأصرت على مقاربتها القديمة في خفض الانبعاثات وأصرت على توزيعها حسب مصالحها وعلى مراقبتها وفق تعهدات شرف. وفي آخر ربع من الساعة الأخيرة حاولت ذرّ الرماد في العيون فاقترحت تخفيض الانبعاثات 80% حتى عام2050 لكنها أصرّت على عدم الالتزام بأي رقم في المدى المنظور ورفضت الولايات المتحدة الالتزام باستكمال كيوتو في خفض 5.2% حتى عام 2020.

لم يصدر عن مؤتمر كوبنهاغن اتفاق أو حتى بروتوكول. لكن أحداث المؤتمر برهنت أمام الملأ على أن الدول الصناعية تسعى إلى تحميل العالم كلفة تبديدها للثروة الكونية في المناخ. ولعلها المرة الأولى التي يشعر فيها العالم بضعف القوة الجائرة أمام العدالة. وهو مسار لن يكون مؤتمر كوبنهاغن فيه آخر المطاف بل بدايته.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.