الإساءات الدانماركية وإساءاتنا

الإساءات الدانمركية وإساءاتنا



– تضييع الفرص
– واقعنا يستحق الاستهانة
– موات النخب
– الجماهير جديرة بقيادات بديلة

ما الرد الواجب والمناسب على الإساءات الكاريكاتيرية الدانماركية؟ هل هو تكرار ما كان قبل ثلاث سنوات؟ هل هو التجاهل كما تدعو بعض الجهات؟ هل هو المقاطعة الاقتصادية كما بادر إليها السودان والدعوات الشعبية عبر شبكة العنكبوت؟


"
المسيئون يستهينون بالمسلمين، يستهينون بالجماهير لأنها تعبر عن غضبها فحسب، وبالنخب الداعية للتحرك لأنها تضع عناوين عريضة ولا تبين السبيل المجدية ولا الوسائل العملية للتحرك، وبالحكومات لأنها منقسمة على نفسها في كل قضية لا في قضية الإساءات وحدها
"

تضييع الفرص
قبل محاولة الإجابة ينبغي طرح السؤال الضروري من أجل إجابة صحيحة: أين نضع هذه الإساءات على صعيد العلاقات بين العالمين الغربي والإسلامي؟

هل هي صادرة عن منطلقات عدوانية مطلقة لتأخذ مكانها بين الحروب العدوانية والهيمنة الاستغلالية وجهود الغرب لحرمان المنطقة الإسلامية من أسباب القوة وأسباب التطور معا؟

هل هي صادرة عن الجهل بالإسلام نفسه وبخاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم وعن الكم الكبير المتوارث من تشويه صورة الإسلام والمسلمين لدى الفرد الغربي؟

هل هي تعبير شاذ عن انحراف كبير في تكوين الإنسان الغربي نفسه وما يفهمه تحت عنوان حرية التعبير؟

هل هي صور من صور صراع حضاري بين المدنية الغربية وهي في طور اضطراب كبير بعد انهيار القيم، وبين بذور نهضة حضارية إسلامية توشك أن تؤتي ثمارها آجلا أو عاجلا؟

قد يكون الأمر خليطا من ذلك كله، ولكن ينبغي طرح سؤال آخر يساعد على الإجابة أيضا: هل هذه الإساءات الكاريكاتيرية إساءات تمثل من صدرت عنهم من الأفراد ووسائل الإعلام ومن وجدت لديه التأييد إلى درجة التقليد، أم هي إساءات بلد هو الدانمارك ومجموعة بلدان تكوّن العالم الغربي؟ وهل هي موضع التأييد العام شعبيا على مستوى الدانمارك وعلى المستوى الغربي عموما؟

التعميم المنتشر في الإجابة على هذا السؤال بالذات، يؤكد أن جهلنا بواقعهم يقابل جهلهم بنا، ويؤكد أننا ننزلق عبر أسلوب التعميم إلى مثل ما نتهمهم به من تعميم مظاهر شاذة وممارسات شاذة على المسلمين عموما، ونسبتها إلى إسلامهم تخصيصا.

لقد كان لدى المسلمين عموما، ولدى النخب الإسلامية تخصيصا، ولدى الحكومات القائمة في البلدان الإسلامية من حيث المسؤولية عن صناعة القرار، فترة زمنية امتدت ثلاث سنوات على الأقل من أجل التوصل إلى إجابات دقيقة قائمة على دراسة منهجية لهذه الأسئلة وأمثالها، ولم نصنع ذلك على أي مستوى من المستويات، إنما اعتمدنا على:

1- كتابات إعلامية -كهذا المقال- قد تقترب من الإجابات، ولكن يظهر لنا بوضوح مدى تعدد الإجابات الإعلامية دون الحسم بينها، وفق تعدد منظور أصحاب القلم، وحجم المعلومات المتوافرة لديهم.

2- وعلى مواقف ونداءات حماسية -كالدعوات الصادرة عن اتحاد العلماء المسلمين وجهات مستقلة أخرى- وهذه تواكب حركة الجماهير وقد تثيرها، ولكن سيبقى السؤال قائما: إلى أين؟.. ناهيك عن الكيفية.

3- وعلى مواقف سياسية رسمية وقتية أقرب إلى ردود الفعل منها إلى سياسات مدروسة قابلة للتطبيق خلال فترة زمنية كافية كالموقف السعودي إبان الإساءة الكاريكاتيرية الأولى والسوداني إبان تكرارها الآن على نطاق أوسع إعلاميا.

ولا يحقق أي موقف سياسي مفعوله ما لم يرتبط بتنسيق وتكامل مع سواه من أصحاب العلاقة في المواقع السياسية المختلفة على امتداد العالم الإسلامي، وما لم يقترن بإجراءات جادة عملية مشتركة، تأخذ أشكالها المتعددة وتصل إلى مداها مع قابلية تصعيدها على حسب الحاجة، وهي الحاجة التي لا تظهر دون إجابة ما سبق من أسئلة.

جميع ذلك بكل صراحة ووضوح، يمثل مع بعضه بعضا إساءة كبرى لأنفسنا، فمن لا ينظر ويتدبر، ويدرس ويخطط، وينسق وينظم، ويقوّم ويطور، يستحيل أن يعطي جوابا فعالا مؤثرا على أي حدث من الأحداث، بما في ذلك الإساءات الغربية المتكررة في السنوات الأخيرة بشكل ملحوظ.


واقعنا يستحق الاستهانة
الثابت دون دراسة وبحث أن المسيئين أفرادا أو سوى ذلك، ومن يدعمهم، رسميا ودون المستويات الرسمية، يستهينون بالمسلمين والعالم الإسلامي، يستهينون بالجماهير الغاضبة، لأنها تعبر عن غضبها فحسب، وبالنخب الداعية للتحرك، لأنها تضع عناوين عريضة ولا تبين السبيل المجدية ولا الوسائل العملية للتحرك، وبالحكومات لأنها منقسمة على نفسها في كل قضية لا في قضية الإساءات وحدها.

"
من لم يتعلم من درس الإساءة الكاريكاتيرية الأول لم يتعلم من إساءات أصغر وأكبر سبقته ولحقته، ومن لم يتعلم من درس الإساءة البابوية الثاني لا ينبغي استغراب أن يجد نفسه الآن أمام درس الإساءة الكاريكاتيرية الثالث، وسيأتي المزيد
"

يستهينون بالمسلمين والعالم الإسلامي فيفعلون ما يفعلون، ويكررون فعلتهم، وهي موجهة في نهاية المطاف إلى أهل بلادهم أكثر منها للمسلمين، لتهيئة أجواء مناسبة لاستمرار سياسات الهيمنة والعدوان والاستغلال، دون اعتراضات داخلية لديهم، ولمحاولة الحد من ظاهرة منتشرة داخل مجتمعاتهم إقبالا على تفهم الإسلام وحقائقه بل واعتناقا له في كثير من الأحيان.

وهم يدركون أننا إذ نسيء إلى أنفسنا إساءة أكبر، نساعدهم على تحقيق أغراضهم هذه:
1- عندما نعجز عن استيعاب ما يصنعون، وعن الإجابة عليه إجابة فاعلة مؤثرة.

2- وعندما يتخذ الجواب صيغة ردود فعل تضمحل ويضمحل مفعولها قبل إقدامهم على خطوة تالية.

3- وعندما نطلق العنان لغضب جماهيري دون تنظيم، فتتخلله أعمال مسيئة لنا ولصورة الإسلام نفسه والمسلمين كعمليات ارتكاب عنف ضد بعض من يعيش في بلادنا أو يمثل بلادهم لدينا.

4- وعندما نطلق المقاطعة من عقالها دون تنسيق ولا تنظيم فلا تبلغ حدا شاملا ولا مؤثرا وإن بلغت ذلك بتأثير الغضب، تتلاشى ثانية بتأثير مرور الزمن وتراجع فورة الغضب.

5- وعندما تتخذ مواقفنا وتحليلاتنا وبياناتنا وإجراءاتنا صورة طبق الأصل من انقساماتنا وفرقتنا وتعدد منطلقاتنا وشذوذ بعضنا، فلا نبلغ موقفا مشتركا، ناهيك أن يكون موحدا، ولا نؤثر في بعضنا بعضنا، ناهيك عن التأثير في سوانا.

بكل صراحة ووضوح: هم يسيئون إلينا وإلى إسلامنا، ونحن نسيء إلى أنفسنا وإسلامنا.

ومن لم يتعلم من "درس الإساءة الكاريكاتيرية الأول" -وقد سبقه الكثير ولكن نحن من اعتبرناه الأول- لم يتعلم من إساءات أصغر وأكبر سبقته ولحقته، ومن لم يتعلم من "درس الإساءة البابوية الثاني" لا ينبغي استغراب أن يجد نفسه الآن أمام درس الإساءة الكاريكاتيرية الثالث"، وسوف يأتي المزيد، إلا إذا تعلمنا من إساءات سوانا إلينا، كيف نتخلص نحن من إساءاتنا إلى أنفسنا.


موات النخب
كثيرا ما اتخذت النخب مما أسموه "موات الشعوب" عذرا لبقاء نداءاتها دون فعالية جماهيرية، وقد أثبت التحرك الجماهيري الكبير عند الإساءة الكاريكاتيرية الأولى -كما أثبت التحرك الجماهيري إبان انتفاضة الأقصى وإبان احتلال العراق- أن حجة موات الشعوب غير صحيحة، أو أثبت على الأقل أننا لا نستوعب العوامل التي تجعل نخبنا تقول بتلك الحجة، دون أن تنظر في "المرآة" مرة واحدة.

الجماهير تحتاج إلى قيادات حكيمة مرشدة تتحرك على أرضية مشتركة تصنعها هي لنفسها كي تتحرك الجماهير عليها، معها ومن ورائها. فهل سعت تلك النخب من أجل أرضية مشتركة ومن أجل اكتساب المواصفات الضرورية لحمل مسؤولية القيادة المشتركة والإرشاد القويم؟

لندع الحكومات جانبا، فهي في قضية الإساءات وسواها، إما عاجزة تحت الضغوط الخارجية عن استرجاع سيادتها على نفسها وصناعة القرارات المشتركة فيما بينها، أو سوى ذلك.. ولكن ماذا عن النخب التي تعتبر نفسها مستقلة عن الحكومات؟

يبدو أنها تعتبر نفسها "مستقلة" -أو منفصلة- عن الجماهير أيضا، فإذا شكت من عدم سير الجماهير معها ووراءها، فواقع الحال أنها تقر بافتقادها المواصفات القيادية التي تدفع الجماهير -التي أثبتت عدم مواتها- إلى التجاوب معها، والتحرك معها ووراءها، ووضع طاقاتها الكبرى تحت التصرف.

هل وضعت نخبنا أفكارا وتصورات ومخططات وأهدافا بعيدة وأخرى مرحلية، لتستوعب طاقات الجماهير، ولتحسن توظيفها، إذا ما وضعت طاقاتها تحت التصرف؟

بكل صراحة ووضوح، في بلادنا فريق ممن يعتبر نفسه من النخب، ولا يرى في تلك الكاريكاتيرات إساءة! فهو ممن يشاركون في الإساءة إلى الإسلام دينا وحضارة ونهجا، ويدعو إلى سواه، حتى ولو وجد المواطنين من غير المسلمين في البلدان الإسلامية -وهم ذريعته في كثير من الأحيان- وقد صاروا نتيجة الممارسات الغربية، أحرص منه على التمسك بأسباب العودة إلى نهوض حضاري إسلامي، وما ينطوي عليه ذلك من ضمان حرية العقيدة وسواها.

"
لندع الحكومات جانبا، فهي في قضية الإساءات وسواها إما عاجزة تحت الضغوط الخارجية عن استرجاع سيادتها على نفسها وصناعة القرارات المشتركة فيما بينها، أو سوى ذلك.. ولكن ماذا عن النخب التي تعتبر نفسها مستقلة عن الحكومات؟
"

وفي بلادنا فريق متشنج يتحرك تحت العنوان الإسلامي وهمه أن يرد الصاع صاعين لكل مسيء، وغالبا ما لا يصنع ذلك إلا كلاما يجعله على مستوى العدو المسيء، أو عنفا -ولا نتحدث هنا عن المقاومة المشروعة- يقترب به من سلوكيات عدوه المسيء بأساليب وحشية.

وفي بلادنا فريق اعتبر الكلام في المؤتمرات هو العمل، فهو ينتظر انعقاد المؤتمر التالي ليعلن موقفا، ثم يعود إلى وظيفته أو عمله أو موقعه الرسمي أو غير الرسمي، دون أن يبني على موقفه تصرفا عمليا، ثم يتساءل أين سواه ليترجم موقفه إلى عمل؟

وفي بلادنا فريق يريد أن يكون الموقف أي موقف، والتحرك أي تحرك، والإجراء العملي أي إجراء، تحت رايته هو دون سواها، رايته التي عاش لها مثلما عاش سواه لرايته.

فأوصلنا التمزق إلى مزيد من التمزق مع الهوان: تشدد إسلامي يُقصي سواه، وقد يجعلنا إسلاميين ومسلمين ومسيحيين وسنة وشيعة ومعتدلين ومتطرفين، ولكن لا يجعلنا "أمة"، أو تعصب قومي يجعلنا عربا وأكرادا وأتراكا وباكستانيين وإيرانيين وأفغانا وأوروبيين، ولا يجعلنا "أمة"، أو أصوليةً علمانية تجعلنا حداثيين ومتنورين ورجعيين وتقدميين وليبراليين وأميركيين ومتزمتين وتطبيعيين ومقامرين ومغامرين وعقلانيين ومتهورين، ولا تجعلنا "أمة".


الجماهير جديرة بقيادات بديلة
أو لسنا نسيء إلى أنفسنا أضعاف ما يسيء سوانا إلينا، ليس بكاريكاتيرات فاحشة فحسب، بل بالقتل والتدمير في عقر دارنا، والاحتلال والاغتصاب لأرضنا وثرواتنا، واستحلال دمائنا ونفطنا ومائنا وأجوائنا وأرواح أطفالنا ونسائنا وشيوخنا وشبابنا.

إساءتنا هي الأكبر، لأن تجاوز ما نحن فيه، أول شروط مواجهة ما "يصنع" بنا من خارج نطاقنا، سواء كان بطريق المواجهة، فلا مقاومة فعالة دون أن تقوم على التكتل، ولا حوار مع الآخر يجدي إذا انعدم أو انعدم مفعوله فيما بيننا.

لن يتوقف مسلسل الإساءات على اختلاف أنواعها ودرجاتها ومصادرها، إلا عندما تتوقف عملية الانتحار الذاتي التي نمارسها منذ عقود وعقود، ونتحول إلى درب التلاقي على أرضية مشتركة وبناء النهوض المشترك.

وبداية المسؤولية عن سلوك هذا الطريق هي -بكل صراحة ووضوح- عند من يعتبرون أنفسهم نخبا، وإلا فإن صحوة الجماهير الشعبية من الموات -رغم المآخذ عليها ومع عدم إسقاط المسؤولية الفردية عن أحد- فيها ما يضمن بإذن الله أن تخرج من الصفوف قيادات أخرى، تتجاوز قيادات هذا الجيل الموشك على الرحيل.

ولا تكون هذه القيادات على غرار قيادات الجيل القديم، فتأبى التفرقة التي خلفها، والهوان الذي عجز عن رده، وتتحرك تفكيرا وتخطيطا وتنفيذا وعملا وتطويرا على الطريق الصحيح، طريق النهوض الحضاري المشترك، وطريق المقاومة الواعية، وطريق الأرضية المشتركة بين مختلف التوجهات، على قواعد للتعامل ملزمة الجميع، باقتناع الجميع.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.