الانتخابات الأميركية.. ورحيل غباء مدمر

الانتخابات الأميركية.. ورحيل غباء مدمر

– شهادات المشاركين في سياسة غبية
– أرقام تشهد على التدمير
– الغائب عن وعيه
– سياسة انتظار "الملقنين الجدد"

كان "أسوأ رئيس أميركي على الإطلاق" على حد تعبير المؤرخ الأميركي دوغلاس برينكلي، في جوابه على سؤال وجه إليه "كلا.. ليس صحيحا السؤال هل كان بوش أحد الرؤساء العشرة الأسوأ في تاريخ أميركا، بل هو الأسوأ إطلاقا، هو أسوأ حتى من جيمس بوخانان الذي أوصل عهده إلى انفصال الولايات الجنوبية، ولم يمنع نشوب الحرب الأهلية".

وبرينكلي واحد من بين 109 مؤرخين شملهم استطلاع "اختصاصي" عن عهد بوش الابن، فتلاقى 68 منهم على القول إنه الأسوأ بين سائر أسلافه، وتلاقى 106 على اعتبار كلمة "الإخفاق" عنوانا عريضا لفترة رئاسته.


"
العجرفة لا تواري درجة من الغباء لم يشتهر أحد بمثلها كما كان مع بوش الابن
"

شهادات المشاركين في سياسة غبية

لا يقتصر الأمر فيما يقال عن بوش الابن في المرحلة الأخيرة من انتخابات خلف له على ما يذكره المؤرخون، بل وصل إلى أقرب المقربين من بوش، ممن رافقوه في مشوار حروب العجرفة عالميا فترة من الزمن، ثم نأوا بأنفسهم عنه، واحدا تلو الآخر، وكان منهم الوزراء والمستشارون والمساعدون المقربون.

وقد اشتهر من بين هؤلاء وزير الخارجية السابق كولن باول، إلى درجة إعلان تأييده الآن لأوباما من الديمقراطيين ومعارضته العلنية لانتخاب ماكين من المحافظين الجدد من حزب الجمهوريين الذي ينتمي إليه.

والمثال الأعمق مغزى ما مضى إليه جون بولتون، فهو من صقور المحافظين الجدد، وهو الذي أثار الحلفاء والخصوم على السواء بمواقفه المتطرفة بتعبيرها عن حلول عجرفة الهيمنة مكان اللباقة الدبلوماسية أثناء استلامه موقع المندوب الأميركي الدائم في مجلس الأمن الدولي، وقد كان من أقواله عن نهاية عهد بوش الابن، إنه "يمثل انهيارا بغشاوة ثقافية".

وعمد آخرون إلى المشاركة في تأليف عدد من الكتب التي يجري الإعداد لنشرها في فترة "الوداع الأخير" للرئيس الأميركي جورج بوش الابن، أي ما بين يوم الانتخابات الرئاسية في 4/11/2008م ويوم تسليم السلطة رسميا في 21/1/2009م، مثل كتاب بعنوان "سقوط بوش المريع" وآخر بعنوان "انعدام الكفاءة إطلاقا".

قد يكون في بعض تلك المواقف من أقران بوش الابن، فكرا وسياسة وتطبيقا، درجة عالية من النفاق السياسي، ولكن هذا بالذات هو ما يبين أن الحصيلة التي تخلفها السنوات الثماني 2000-2008م صارخة بمعنى الكلمة، ومخيفة بالنسبة لأي سياسي يريد أن يحفظ لنفسه موطئ قدم في الفترة المقبلة.

ولن يكون هذا ممكنا لأحد من "آل بوش" تحديدا، فهؤلاء دمر هذا الرئيس سمعتهم تدميرا كاملا، كما يقول ياكوب فايسبيرغ، كاتب سيرة حياة جورج بوش الابن الذي كان أكثر المتابعين لسياساته وممارساته عن كثب طوال سنوات حكمه.

وقد بدا في تلك السيرة على غرار من نشرت عنهم "هوليوود" عالميا صفة "الشريف" (رئيس الشرطة المحلية) الذي يجول بمسدسه تحت أشعة الشمس الحارقة وقت الظهيرة في عهد رعاة البقر، ومثل هذا الوصف التهكمي اللاذع هو ما يعتبره ماثيو داود مناسبا لبيان معالم شخصية الرئيس الذي كان داود أحد المخططين الإستراتيجيين لسياسته.

على أن العجرفة لا تواري درجة من الغباء لم يشتهر أحد بمثلها كما كان مع بوش الابن، بشهادة السفير الأميركي جيمس دوبينس، وكان أحد مهندسي السياسات الأميركية في البوسنة ثم الصومال ثم أفغانستان، أثناء عهد كلينتون ثم في الفترة الأولى من رئاسة بوش الابن.

يقول "لقد عايشت في السنوات الأربع الأولى (من رئاسة بوش) قدرا كبيرا من انعدام الكفاءة والغباء، وأعني بذلك الرئيس بالذات".


أرقام تشهد على التدمير
لا غرابة أن يقضي الرئيس الأميركي بوش الابن أيامه الأخيرة في مكتبه البيضاوي في عزلة سياسية واجتماعية وشعبية لم يعرف لها مثيل مع أحد من أسلافه، حتى أصبح قادرا على الاستمتاع لمدة أكثر من ساعتين يوميا بإحدى هواياته الرياضية.

وقد دعا مؤخرا إلى لقاء يطرح فيه "رؤياه" -وما أكثر رؤاه الإلهامية- بصدد التعامل مع الأزمة المالية والاقتصادية الراهنة، وصدرت دعوة "الرئاسة" إلى زهاء خمسمائة شخص من كبار المسؤولين في الدوائر المالية والاقتصادية، فامتلأت القاعة ولكن بمن بعثوا لينوبوا عنهم، من مستوى "السكرتيرات والمساعدين".

ومن ذا يريد أن يسمع منه قوله في مثل الظروف الراهنة للشعب الأميركي "اذهبوا وتسوقوا" بمعنى أن الأمور في بلاده على ما يرام، وهو يواجه أعنف أزمة بنيوية هيكلية واجهت العالم الرأسمالي وعصفت بنهجه منذ نشأته الأولى.

بل تبدو هذه الكلمات وكأنها تشهد على انفصام في الشخصية، عند مقارنتها بما صدر عنه هو نفسه وهو يحذر من انهيار اقتصادي واسع النطاق، عندما كان يسعى لكسب أصوات أعضاء مجلس الكونغرس لصالح "برنامج إنقاذ" قد وضعت صياغته بهدف تمكين الحكومة من دعم المؤسسات المالية التي انطلقت منها الشرارة الأولى في حريق الانهيار المالي.

"
من العسير على إنسان عادي أن يتصور ذلك الرئيس الأميركي وهو يصنع ما يصنع ببلاده وبالعالم، إنسانا واعيا سليم الحواس
"

يبدو أنه يصدّق نفسه عندما يقول ذلك أو عندما يقول مثلا "الرأسمالية أفضل نظام عرف إطلاقا" وكأن مقياسه الوحيد هو ما يقول به معيار إحصائي واحد لا يريد أن يرى سواه.

إن الدخل القومي الأميركي ارتفع في السنوات الثماني 2000-2008م، ارتفاعا ملحوظا، فأصبح الوسطي النظري للدخل الفردي يعادل 26352 دولارا، وكان بحدود 21587 دولارا يوم استلم بوش الابن من بيل كلينتون منصب الرئاسة.

وبغض النظر عن انخفاض القيمة الشرائية للدولار نفسه، يبقى أن التركيز على مثل هذا الرقم لا يختلف كثيرا عن تصديق ما تصوره أفلام رامبو وسوبرمان عن حقيقة "الأبطال الأسطوريين من الأميركيين".

فخلف هذا الرقم معين لا ينضب من الشواهد على حقيقة ما يعنيه، ومن ذلك عبر السنوات الثماني الحافلة بعجرفة الغباء العسكري والسياسي والاقتصادي معا:

1- ارتفاع وسطي الدخل الفردي يتضمن ارتفاع عدد أصحاب المليارات الأميركيين من ستة ملايين إلى تسعة ملايين وثلاثمائة ألف شخص، مقابل ارتفاع عدد الفقراء الأميركيين من 31 مليونا وستمائة ألف إلى 37 مليونا وثلاثمائة ألف إنسان.

2- ارتفاع عدد العاطلين عن العمل من ستة ملايين إلى أكثر من تسعة ملايين ونصف المليون مقابل ارتفاع ميزانية وزارة الدفاع من 333 مليار دولار إلى 613 مليارا.

3- ارتفاع تكاليف الحروب إلى ألفي مليار دولار. مقابل ارتفاع عدد نزلاء السجون الأميركية (إشارة إلى ارتفاع نسبة ارتكاب الجرائم) من مليون وتسعمائة ألف إلى مليونين وثلاثمائة ألف.

4- ارتفاع حجم الديون على الدولة الأميركية من خمسة آلاف وسبعمائة مليار دولار إلى عشرة آلاف وثلاثمائة مليار. إلى جانب ارتفاع العجز التجاري السنوي من 436 مليار دولار إلى 794 مليارا دولار.

5- ارتفاع عدد المحرومين من تأمين صحي من 38 مليون إنسان إلى 47 مليون مواطن في دولة يقول رئيسها الملهم "العالم كله يحسدنا على نظامنا الصحي".

ثم يزعم من يزعم أن بوش الابن يعي ما يقول ويصنع! قد يكون لعلماء النفس رأي آخر.. ولكنه من العسير على إنسان عادي أن يتصور ذلك الرئيس الأميركي وهو يصنع ما يصنع ببلاده وبالعالم، إنسانا واعيا سليم الحواس، وهو يصرخ في وجه أحد مستشاريه:

"تقول سياسة سيئة؟.. عندما أقرر أمرا، فلتعلم أن ما أقرره هو تعريف السياسة الجيدة". أي تعريفها اصطلاحيا، وليضحك أساتذة العلوم السياسية ما سمح لهم بذلك تغييب مشاهد ضحايا هذه السياسة "الجيدة".


الغائب عن وعيه
ليس من الضروري أن يكون الرافض لممارسات جنونية على أعلى مستوى سياسي من أولئك الذين خلفت تلك الممارسات الخراب والدمار والآلام في بلادهم، وذاك ما يشهد عليه استطلاع أجراه "مركز بي إي دبليو للبحوث حول الإعلام والسياسة والسكان" في واشنطن، ونشر نتائجه عام 2008م قبل أن تتحول أزمة العقارات إلى أزمة مالية ساحقة.

كشفت النتائج أن سياسات "أسوأ رئيس أميركي" أصبحت مرفوضة عند ما لا يقل عن 58% وسطيا من العامة على مستوى الشعوب في أنحاء العالم، وكانت السياسات الأميركية مرفوضة بنسبة 30% في العام الأول من عهده.

وترتفع هذه النسبة الوسطية ارتفاعا ملحوظا في البلدان الأكثر التصاقا بالسياسة الأميركية في الأصل والأشد تأييدا لها، كاليابان إلى 63% وفرنسا إلى 70% وألمانيا إلى 72%.

"
الدرس الحقيقي والمغزى المحوري من ثماني سنوات مع بوش الابن، هو أنه قد آن الأوان لإنهاء جميع أشكال الارتباط التبعي بأي قوة دولية، ولوضع المصالح العليا الذاتية فوق كل عامل من عوامل العلاقات الخارجية
"

ولهذا يحق لجريدة فايننشال تايمز أن تقول في سياق تعليقها على الأزمة المالية الحالية "لقد سيطرت أميركا وأوروبا اقتصاديا وسياسيا وثقافيا على العالم لمدة مائتي عام دون صعوبة، ونشهد نهاية هذه الحقبة الآن".

هذا ما يرصده خبراء العالم جميعا ويبحثون عن سبل مواجهة عواقبه الوخيمة في السنوات المقبلة أو عن سبل التخفيف من وطأتها على الأقل.

أما بوش الابن فبقي عاجزا عن رؤيته أو استيعابه أو عن الاعتراف بحقيقة حجمه وهو يقول عن أوضاع بلاده مثلا "الاقتصاد ينمو والإنتاجية في صعود والتجارة في ازدهار". وذلك في شهر يوليو/تموز عام 2008م، أي بعد أن تجاوزت أزمة القروض الفاسدة العقارية مختلف التوقعات والمخاوف وامتدت إلى شرايين النظام المالي والاقتصادي في الولايات المتحدة الأميركية وعالميا.


سياسة انتظار "الملقنين الجدد"
قد يكون غياب رئيس أميركي عن وعيه وعجزه عن استيعاب ما حوله مما شارك في صنعه بنفسه شأنا أميركيا داخليا، عندما يرتبط ذلك مثلا بقوله المعبر عن حاله بعد كارثة إعصار كاترينا عام 2005 "لا أعتقد أن أحدا كان يتوقع انهيار السدود" فهو إذن جاهل بما صدر من تحذيرات الخبراء من ذلك طوال سنين عديدة سبقت الكارثة، أو متجاهل لها.

ولكن ليس من شأن الناخب الأميركي وحده أن يزعم بوش الابن لنفسه "لم يعمل أي رئيس قدر ما عملت من أجل حقوق الإنسان".

وتتزامن كلماته هذه في عام 2003 مع ما كان من ممارسات التعذيب الوحشية في سجن أبو غريب في العراق.

وليس من شأن الناخب الأميركي وحده أن يزعم بوش الابن عن بلده في عهده أن "أميركا تؤيد الحرية، والبحث عن السعادة، والحق المطلق في الحياة" وهو يصنع ما لا ينقطع من الشواهد الإجرامية على حقيقة عهده في غوانتانامو والفلوجة وأخواتهما من سجون سرية وساحات قتل علنية، وفي كل أرض وطئتها جنازير الدبابات وأحذية الجنود وأدمتها القنابل العنقودية والانشطارية والفسفورية بأمر رئيس الدولة الأميركية.

إن السنوات الثماني الماضية تحت عنوان عهد بوش الابن، درس تاريخي يضع الساسة والمفكرين والإعلاميين في بلادنا العربية الإسلامية أمام مسؤولية تاريخية في هذه اللحظة التاريخية بالذات، وهؤلاء لا صوت لهم في صناديق الانتخاب الأميركية.

فلتسفر عما شاءت الأقدار للمستقبل الأميركي، إنما يحملون هم المسؤولية في البلدان العربية والإسلامية التي استهدفتها سياسات بوش الابن أكثر من سواها، ونشرت فيها "الفوضى الهدّامة" أكثر من سواها، وعاثت فيها ولا تزال تعيث فسادا أكثر من سواها.

لا ينبغي بعد اليوم أن تكون الانتخابات الأميركية مناسبة لوداع "الملقنين السابقين" على المسرح الأميركي، لرسم السياسات وتحديد المواقف وتدبيج المقالات ونشر الكتب في بلادنا، على طريق تسويق صيغة جديدة للتلقي والانصياع. على حسب ما يصدر عن "الملقنين الجدد" على المسرح الأميركي.

إن الدرس الحقيقي والمغزى المحوري من ثماني سنوات مع بوش الابن، هو أنه قد آن الأوان بشكل قاطع لإنهاء جميع أشكال الارتباط التبعي بأي قوة دولية، ولترحيل أساليب الانصياع العلني والخفي لسياسة أي مسؤول عنها، ولوضع المصالح العليا الذاتية فوق كل عامل من عوامل العلاقات الخارجية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.