سوريا بين ولايتين

سوريا بين ولايتين

 

حال النظام والبحث عن المشروعية
الإصلاح المرتجى والخوف من المجهول
تراجع الدور الإقليمي
لبنان وجع أبدي وإيران ضمانة باليد
على أبواب ولاية جديدة

عندما رحل الرئيس حافظ الأسد، توقع الكثير من الإستراتيجيين أنه بات من الصعب على سوريا بعده، وبعد أن مالت علاقات القوى وموازينها إلى غير مصلحتها أن تحقق ما لم تتمكن من تحقيقه في عصره وفي ظروف إقليمية ودولية أفضل بكثير.

كما توقع الكثيرون أن الدور والمكانة اللذين أخذتهما سوريا في عهده واللذين فاقا قدراتها الذاتية، قد أصبحا جزءاً من التاريخ المحكي والمدون لسوريا.

وفي المقابل ثمة من توقع أن سوريا في ظل قيادة جديدة وشابة لديها قدرة على تعبئة وتوجيه الموارد التي تمتلكها البلاد -إضافة إلى استثمار حيوية شعبها السياسية والاقتصادية بعد إزالة المعوقات الداخلية- قادرة على ممارسة دور إقليمي جديد له مقومات اقتصادية فاعلة تفوق المقومات السياسية المتراجعة.

فأين سوريا من كل ذلك وأين وصلت الأمور في الولاية الأولى للرئيس بشار الأسد الذي يقف على أعتاب ولاية ثانية جديدة؟

حال النظام والبحث عن المشروعية
النظام السياسي في سورية هو نظام شعبي تعبوي يستند إلى قاعدة الحزب المسيطر (القائد) الذي يتبنى من الناحية الاجتماعية التحديث كهدف مركزي، ويرتكز على الأيديولوجية القومية، ومن هنا كان التأكيد المستمر على صراع الأمة مع القوى المعادية، ومن حيث الممارسة السياسية يتسم من الناحية العملية بالانتقائية وتميل القيادة لأن تأخذ الصفة الشخصية، حيث يرى ظل القائد (الأب) الموجه، واضحاً في كافة المؤسسات.

حاول الرئيس بشار الأسد تأسيس شرعية جديدة لعهده، وكان في رأي كثير من المراقبين جاداً في سعيه هذا، وذلك من خلال تطبيق سياسة داخلية أكثر انفتاحاً وحداثة بقيادات جديدة (تكنوقراط الإصلاح والمعلوماتية)، ذات رؤية عصرية وإعداد علمي رفيع المستوى، من دون اشتراط انتمائهم الحزبي.

"
الرئيس بشار الأسد وجد نفسه بين خيارين أحلاهما مر: إما الاستمرار في السعي باتجاه خيار التحديث وهو طريق نتائجه لن تكون سريعة أو مضمونة، أو العودة إلى مشروع (الأب) القائم على الممانعة مع طرح إمكانية التفاوض مع إسرائيل
"

وبدأ في عملية تدوير النخبة وركائز السلطة، وقد حاول التكنوقراط القيام بأدوار أكبر من الأدوار المرسومة لهم أو الممكنة في إطار النسق السياسي، وترجم هذا التطور في عملية تحديد الأهداف التي تمت عن طريق الدمج بين الأهداف الإيديولوجية والتقنية.

وأدى تعاظم دور التكنوقراط في هذه العملية إلى وقوع صراع بينهم وبين القيادة السياسية (حالة الوزير السابق عصام الزعيم)، كما أن الاتجاه نحو التنمية والتحديث أدى إلى نمو في الطبقة المتوسطة التي تعددت حاجاتها ومطالبها.

الأمر الذي استدعى إعادة مركزة السلطة وإعادة تحديد الأهداف، بحيث باتت تركز بشكل أكبر على حماية النظام نفسه أكثر من تركيزها على عملية التنمية مقابل زيادة حالة الانغلاق وتقليص عملية الاتصال (نهاية حالة ما سمي بربيع دمشق).

ولا شك في أن الرئيس بشار الأسد يدرك أن المشروعية في شرقنا طالما ارتبطت بنوع المشروع الذي يحمله من يجلس في سدة الحكم، وهو قد ربط مشروعيته بعملية التطوير والتحديث، أو يمكن القول إن هم الدولة الحديثة قد فرض نفسه على سلوك وسياسة الرئيس الأسد، تحديث الدولة السورية بكل قطاعاتها وعلى مختلف مستوياتها وأجهزتها.

لكن هذا الهدف وقفت دونه معوقات ذاتية وموضوعية عدة بعضها يتعلق بإمكانات سوريا الاقتصادية ومستوى الكادر البشري وسيطرة الكادر الإداري، وبعضها يتعلق بالتحديات الخارجية التي واجهتها سوريا، كالحصار الاقتصادي والعقوبات المفروضة عليها خاصة من قبل الدول الفاعلة والمؤثرة في المجال التكنولوجي والتطوير والتحديث الإداري، أو باختصار الجهات التي تملك آليات التطوير (تكنولوجيا ونظم إدارية متطورة).

وهكذا فإن الرئيس بشار الأسد قد وجد نفسه بين خيارين، أحلاهما مر: الاستمرار في السعي باتجاه خيار التحديث، وهو طريق نتائجه لن تكون سريعة أو على الأقل مضمونة، أو العودة إلى مشروع (الأب) القائم على الممانعة، مع طرح إمكانية التفاوض في سبيل استرجاع الأراضي المحتلة من سوريا.

من هنا يمكن ملاحظة أنه في السنوات التالية من ولاية الرئيس بشار الأسد الأولى كان ظل الرئيس الأب حاضراً بقوة، وكانت سياسة الرئيس الابن بالرغم من اختلاف المعطيات والظروف تبدو كأنها استكمال لخطط معينة أو تعديل لخطط أخرى، ولم تخرج على الإطلاق بحل اجتراحي بالرغم من حاجة البيئة السورية وظروفها إلى مثل ذلك.

وصارت السياسة السورية مسكونة بشبح الرئيس الأب وسياساته التي شكلت المعيار وخاصة في السياسة الخارجية، بحيث أصبح مدى قربها أو بعدها عن سياسة الرئيس الأب هو المعيار لنجاحها أو فشلها.

صحيح أنها اختلفت عنها في قليل أو كثير من التفاصيل، لكنها في الغالب كانت اختلافات بنت لحظتها أو فرضتها ظروف ومتغيرات راهنة.

الإصلاح المرتجى والخوف من المجهول
في بداية ولايته الماضية وعد الرئيس بشار الأسد بالقيام بإصلاحات مهمة على أكثر من مستوى، ويؤكد الخطاب السوري وجود إنجازات إصلاحية مهمة تحققت في ولايته، غير أن الواقع يثبت الآتي:

ـ لم يشهد الإطار الدستوري أي تعديل يذكر فقد بقيت سوريا تعيش في ظل دستور 1973 الذي أقره الرئيس حافظ الأسد باعتباره الدستور الدائم للبلاد، وكان محامون سوريون قد طالبوا في بداية حكم الرئيس بشار الأسد بمراجعة دستورية شاملة، وبإلغاء القوانين والمحاكم الاستثنائية وإطلاق الحريات العامة.

كما طالب نشطاء المجتمع المدني بتعديل بعض نصوص هذا الدستور، وخاصة المادة 8 التي تنص على أن حزب البعث هو الحزب القائد للدولة والمجتمع، وكذلك المادة 84 التي تعطي للقيادة القطرية حقاً حصرياً في اقتراح المرشح لرئاسة الجمهورية على أن تحوله إلى مجلس الشعب الذي يعرضه بعد الموافقة عليه على المواطنين لاستفتائهم فيه.

ونتيجة لهذا الواقع لم تشهد الحياة السياسية في سوريا أي تطور يذكر خاصة فيما يتعلق بالترخيص لأحزاب سياسية جديدة بالرغم من الوعود بإقرار قانون جديد ينظم هذه الحالة.

ـ لم يشهد الواقع الاقتصادي في سورية تطوراً مهماً، فبالرغم من الحديث عن ارتفاع نسبة النمو في الاقتصاد السوري مقارنة بالمرحلة السابقة، حيث بلغ في سنتي 2005 و2006 حسب الأرقام الحكومية حوالي 5%، فإن هذا النمو تميز بأنه:

"
الإصلاح بقي رهين المخاوف من عدم السيطرة عليه أو الإضرار بمصالح شرائح وفئات اجتماعية معينة، أو الخوف من الفوضى السياسية، على نحو ما سماه نائب الرئيس السابق عبد الحليم خدام بـ"الجزأرة" في توصيفه لواقع المنتديات
"

أ – نمو وهمي لم ينعكس على الشرائح الدنيا في المجتمع، ويدلل على ذلك ارتفاع نسبة ووتيرة التهميش في هذه الشريحة نتيجة تخفيض الدولة للدعم الحكومي المقدم في مجالات كثيرة، وفي القطاع العام تمهيداً للانسحاب من هذا القطاع في مرحلة مقبلة، وذلك نتيجة تبني برنامج إصلاحي يقضي بذلك.

وقد حصل هذا النمو نتيجة الارتفاع الراهن لأسعار النفط، ولتدفق الاستثمارات الخليجية (الناتجة أيضاً عن ارتفاع أسعار النفط، والتحول الحاصل في مزاج المستثمر الخليجي بعد 11 سبتمبر/أيلول 2001 إلى الاستثمار في الدول العربية) غير أن هذه الاستثمارات انصرفت كليا إلى القطاع العقاري دون سواه، ولم يتم توظيفها في مجالات التنمية الحقيقية.

ب -وبأن الحراك الذي حصل في إطار الطبقة الوسطى كان حراكاً مضبوطاً إلى درجة كبيرة. صحيح أن هذه الطبقة شهدت ارتفاعاً في مداخيلها نتيجة الانفتاح النسبي وخاصة في قطاع الاتصالات، الأمر الذي استفادت منه الكوادر المتعلمة في هذه الطبقة، إلا أن ارتفاع الأسعار وثراء الأنماط الاستهلاكية بعد السماح للسوق السورية بتنويع مستورداتها، أتى على الزيادة الحاصلة في المداخيل، وبالتالي لم يؤسس هذا لتراكم مهم على الصعيد الاقتصادي، ومن ثم لم يؤسس لتراكمات في الواقع الاجتماعي والسياسي لهذه الطبقة.

وهكذا بقي الإصلاح رهين المخاوف من عدم السيطرة عليه أو الإضرار بمصالح شرائح وفئات اجتماعية معينة (الإصلاح الاقتصادي)، أو الخوف من الفوضى السياسية على نحو ما سماه نائب الرئيس السابق عبد الحليم خدام بـ"الجزأرة" في توصيفه لواقع المنتديات التي انتشرت في بداية عهد الرئيس بشار الأسد.

تراجع الدور الإقليمي
لم تنجح سوريا في بلورة أوراق قوتها في المرحلة السابقة، فبالرغم من كثرة تلك الأوراق وتعدد أشكالها، من مقاومة في لبنان وأطراف سياسية حكومية في فلسطين، وجزء من مكونات الحالة العراقية (السنة)، فإنها لم تشكل في مجملها دينامية واحدة فاعلة قادرة على رسملة الدور السوري وتظهيره كدور فاعل ومؤثر وجزء من اللعبة الإقليمية.

وحسب بعض المراقبين فإن الرفض الأميركي المتواصل للحوار مع سوريا، ليس معناه عنت إدارة بوش أو تسلطها على ما يقول الخطاب السوري، بقدر ما يعبر عن حقيقة أن أميركا بالفعل لم تصل بعد للاقتناع بجدية هذا الدور.

وهنا لابد من الحديث عن متغيرين كان لهما الدور الأكبر في تقليص فاعلية الدور السوري وأثره هما:

ـ تداخل هذا الدور مع الدور الإيراني في أغلب الساحات الإقليمية، وقد بدا الدور الإيراني مؤثرا بشكل أكبر، سواء بالنسبة لمرجعيته الإيديولوجية لبعض الأطراف المتفاعلة مع هذا الدور في المنطقة كحزب الله والأحزاب الشيعية العراقية، أو لقدرته المالية في حالة حماس، وهنا طالما جرى الحديث عن تبعية سورية، وعن ضرورة البحث عن حل أو التوجه للتفاوض مع إيران بدل سوريا.

ـ المتغير الثاني هو انتصاب صراع الأدوار في المنطقة بقوة، ومحاولة أطراف إقليمية الانقضاض على مساحة الدور الذي كانت تملكه سوريا في عملية تشبه المحاصصة على اعتبار أن هذا الدور هو وليد ظروف إقليمية ودولية انتهت وذهبت، وفي إطار إعادة ترتيب الأدوار وصياغتها يجب أن تتموضع الأدوار بطريقة مختلفة.

لبنان وجع أبدي وإيران ضمانة باليد
شكل لبنان وجعاً سياسياً كبيراً لسوريا في المرحلة الماضية، فقد نزفت في سبيله طاقات سياسية عزيزة، وانشغل النظام السياسي كليا بالتطورات الدراماتيكية التي شهدها لبنان.

فالمصالح السياسية السورية في لبنان واحدة من ركائز النظام في دمشق، ولبنان بقي في مدرك صانع القرار السوري وتصوراته الجيوسياسية يشكل "الخاصرة الرخوة السورية" التي لا تبتعد عن العاصمة دمشق أكثر من 20 كيلومتراً.

كما ظلت القيادة السورية عند نصيحة ذلك الإستراتيجي السوفياتي الذي نبه دمشق أيام حكم الرئيس الراحل حافظ الأسد على أن "أي هجوم على دمشق سيتم عبر سهل البقاع اللبناني".

"
لبنان شكل وجعاً سياسياً كبيراً لسوريا في المرحلة الماضية، غير أن العلاقة بينهما تجاوزت قضايا الجيوبولتيك والمصالح وسواها، بينما طورت سوريا العلاقة مع إيران حتى أصبحت الضمانة الوحيدة بالنسبة لصانع القرار في سوريا
"

لقد رأت القيادة السياسية السورية أن القرار 1559 أنهى حالة وحدة المسار والمصير بين البلدين، وأخذ لبنان بعيداً عن سورية ليدخلهما في تفاصيل أي علاقة بين دولتين لهما جغرافيا وظروف ومصالح مختلفة، بغض النظر عن شكل العلاقة بينهما.

غير أن العلاقة مع لبنان تجاوزت قضايا الجيوبولتيك والمصالح وسواها، ليصبح لبنان الجهة التي تحدد شكل علاقات سوريا مع بيئتها الإقليمية والدولية وخاصة بعد صدور القرار 1757 بشأن المحكمة الدولية في قضية رئيس وزراء لبنان السابق رفيق الحريري.

أما مع إيران فقد نجح الرئيس الراحل حافظ الأسد في إقامة علاقة متوازنة, استطاع من خلالها منح البلدين قدراً أعلى من التعامل مع القوى الإقليمية والدولية، وطورت سوريا في عهد الرئيس بشار الأسد هذه العلاقة إلى إقامة روابط وعلاقات خاصة مع إيران، لمواجهة المتغيرات المستجدة المتسارعة واستحقاقاتها.

وهي علاقة وصفها البعض بـ"الرابطة التامة" وذلك في ظل عدم وجود بدائل على الساحة الإقليمية، وفي ظل ما تعتبره سوريا انهياراً للنظام الإقليمي العربي، حيث تصبح العلاقة السورية الإيرانية -بالرغم من ارتياب بعض الأطراف الإقليمية وانزعاج أطراف دولية من هذه العلاقة- هي الضمانة الوحيدة بالنسبة لصانع القرار في سوريا، الذي لم ير في العروض البديلة سوى نوع من الاستدراج نحو تنازلات أكبر.

على أبواب ولاية جديدة
لطالما عمد المحللون السياسيون إلى قراءة السياسة السورية في عهد الرئيس بشار الأسد عبر مقاربتها بالحقبة التي سبقتها، وذلك في حد ذاته خطأ وظلم تاريخي لاعتبارات متعددة أهمها، اختلاف المدة والزمن، ثم اختلاف المعطيات والظروف التاريخية التي تغيرت في منطقتنا بشكل انقلابي فتغيرت معها منظومة القيم الحاكمة للسياسات العالمية، وليست التكتيكات السياسية فحسب.

ناهيك عن الانهيار الحاصل في النظام الإقليمي العربي الذي شكل في فترات سابقة شبكة الأمان لسوريا، وعدا عن هذا وذاك فثمة متغيرات شهدها الداخل السوري، الذي يشهد انفجارا سكانياً هو الأعلى في العالم حيث تصل نسبة الزيادة الديموغرافية في سوريا حسب أطلاسكو Atlasco إلى 3.4%، في ظل نضوب الموارد وتقلصها خاصة النفط منها، وما يعينه ذلك من ارتفاع نسبة الفقر وزيادة خطورة مفرزاته.

في ظل هذه المعطيات وانسداد حال الأفق السياسي في المنطقة، وسياسات التصلب التي تمارسها بعض القوى الدولية والأطراف الإقليمية تجاه سوريا لا يتوقع أن تشهد الفترة المنظورة من ولاية الرئيس بشار الأسد الثانية تغيراً كبيراً سواء على صعيد التحول الداخلي، أو على صعيد علاقات سوريا الخارجية.

ذلك أنه من الطبيعي لأي نظام سياسي في ظل هذه الظروف أن تتوجه طاقاته صوب حماية النظام وأمنه، على حساب الأهداف والغايات الأخرى مهما كانت درجة إلحاحها والحاجة إليها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.