تراجعات الجنرال

تراجعات الجنرال - نبيل الفولي


استنساخ سياسي
القفز على الهوية
بدء التراجع

يبدو أن استنساخ التجارب السياسية أصعب بكثير من استنساخ الكائنات الحية، ومع أن الإنسان عاش عددًا لا نحصيه من الدول والكيانات السياسية منذ نشأت المجتمعات البشرية، إلا أن الفروق بين كيان منها وآخر قد لا تكون أقل من التوافقات في أغلب الأحوال, وذلك لأن كل حدث تاريخي له شخصيته المستقلة التي تجعل التاريخ مختلفًا بطبيعته عن الظاهرة الفيزيائية اللاتاريخية.

وفي العادة نحن نغفل عن طبيعة الحدث التاريخي هذه خاصة حين تؤثر في مشاعرنا عناصر التشابه بين حدث تاريخي وآخر، فتنطلق حناجرنا بالجملة الشهيرة التي تختفي الحقيقة في ظلال ألفاظها الرنانة: ما أشبه الليلة بالبارحة!

وأهم ما ينبغي أن يلفت أنظارنا في المقارنة بين حدث تاريخي وآخر، ليس مسار الحدث وإنما هو السنن العامة الحاكمة له, إذ أنها تمثل الجانب الثابت في جميع ما يشهده التاريخ من أحداث.

استنساخ سياسي
على كل حال، فقد شهدت باكستان خلال السنوات الثماني الماضية محاولة لاستنساخ تجربة تاريخية ترجع إلى الثلث الأول من القرن العشرين، وهي تجربة علمنة الدولة في تركيا على يد كمال أتاتورك استنادًا إلى منطق حماية القرار من معارضيه بالقوة القصوى للدولة، وتجميع المتحمسين للتجربة في قمة سلطات الدولة ضمانًا للوصول بالقرار إلى منتهاه.

وإذا كنا ندرك بسهولة اختلاف عناصر الحالة في المرتين سواء بالنسبة لموقع أتاتورك كمؤسس لدولة بدت كالمنتصر على الأعداء الخارجيين عقب الحرب العالمية الأولى مما حشد لها التأييد الداخلي والإسلامي في المنعطفات الصعبة، أو بالنسبة للظرف التاريخي الذي تنفست فيه التجربة السياسية في كل مرة -إذا كنا ندرك هذا بسهولة، فلابد أن نضع في الحسبان أيضًا علاقة المجتمع والدولة بالدين وبالتحديث في الحالين, إذ أنهما من العناصر الفارقة في مصير التجربتين- في المدى الزمني المتوسط على الأقل.

"
رغم اشتراك تركيا وباكستان في الدين فإن الدولة إبان التجربة التركية بدت للمتابع وكأنها تتجه إلى بناء سياسي جديد انتهى بإجراءات أتاتورك العنيفة, في حين أن تجربة الدولة في باكستان (مشرف) كانت تتجه في علاقتها بالدين اتجاهًا إيجابيًا في الغالب ولو بشكل نسبي
"

أما الدين فيمثل للمجتمعين الباكستاني والتركي المعايشين لتجربتي أتاتورك ومشرَّف العنصر الرئيس من عناصر الهوية، إلا أن الدولة إبان التجربة التركية بدت للمتابع وكأنها تتجه إلى بناء سياسي جديد يتلاشى المشكلات التي صاحبت مرحلة الهرم في الكيان العثماني، دون أن يمس شيئًا من عناصر الدولة الأصلية التي تمثِّل بها دار الخلافة الإسلامية؛ حتى فوجيء الجميع بالإجراءات العنيفة لأتاتورك.

في حين أن تجربة الدولة في باكستان كانت تتجه في علاقتها بالدين اتجاهًا إيجابيًا في الغالب وبشكل نسبي, وذلك لأن الدين –كما هو معروف– قد مثَّل أساسًا لقيام الدولة الباكستانية، فبدا أن الوصف بالإسلامية ينطبق على كل شيء في الدولة وإن لم تكن له حقيقة إسلامية، كما هو الحال في حزب الرابطة الإسلامية؛ وذلك لأنه المقابل الوحيد الذي يمكن أن ترفعه الدولة الجديدة ذات الأعراق واللغات والمذاهب الكثيرة في وجه خصمها اللدود: الهند الهندوسية.

وأما الحداثة في تركيا فقد كانت تيارًا يزحف على المجتمع بقوة قبل أتاتورك بعقود طويلة، ولعل أتاتورك وأنصاره وشتى التوجهات القومية التركية خلال هذه الفترة كانت من أخطر نتائج هذا التحديث نفسه.

وقد بدا أن التصالح بين الإسلام والتحديث المقترح بعيد في الظروف التي عاشتها التجربة التركية حينئذ, خاصة بعد أن فقدت الدولة والمجتمع قبل ذلك بزمنٍ حيويتهما "ولخلو الإمبراطورية العثمانية طيلة ثلاثة أو أربعة قرون من زعيم فكري أو مصلح اجتماعي كبير وأصيل".

فقد تُرِك المجال للدبلوماسيين السطحيين المنبهرين بالغرب والمقلدين له – كما يقول نجيب فاضل (أورخان محمد علي: السلطان عبد الحميد الثاني.. حياته وأحداث عصره ص 43).

وفي مقابل هذا، بدا أن باكستان تعيش منذ نشأت الدولة عام 1947 تحديثًا هادئًا يتجاور مع الدين –خاصة من جهة الأكثرية في الصفوة الاجتماعية- ولم ير العقل الباكستاني تعارضًا في هذا, لأنه تحديث انتقائي، فلا يلزم عند إدخال الآلات والعلوم الحديثة تغيير العقائد ولا تبديل العادات من جذورها.

ولعل الشعب باكستاني -لهذا السبب- هو من أطول الشعوب الإسلامية والشرقية احتفاظًا بعاداته في اللباس والطعام، فما زالت أغلبية الشعب رجالاً ونساءً، حتى في العاصمة والمدن الكبرى، تلبس "الشلوار قميص" وتتناول ألوانًا من الأطعمة الوطنية البعيدة عن البذخ والتكلف، والتنوع كذلك.

القفز على الهوية
في هذه الظروف تقدم الجنرال برويز مشرف الذي ينتمي إلى أسرة هاجرت من الهند إلى باكستان بعد الانفصال، بمشروعه الاستنساخي الأتاتوركي عقب انقلاب عسكري نفّذه ضد الوزارة المدنية بقيادة نواز شريف في أكتوبر/تشرين الأول 1999.

وقد لا يكون طرح الجنرال جديدًا على باكستان في أغلب جوانبه، إلا أنه كان أكثر من غيره ممن قادوا باكستان صراحة في المواجهة ومساسًا بالهوية الباكستانية.

وبدا في المراحل الأولى أن أنصار المشروع في الداخل ليسوا كثيرين، فأسهمت سياسة الإحلال والإبدال في الجيش وتكنوقراط الدولة في تجميع أنصار له من أبناء الأقليات المذهبية وأصحاب الميول الثقافية تجاه الغرب وغيرهم، حتى أصبحوا قوة توجه دفة الدولة في الصغير والكبير من الأمور.

"
العجز عن التوافق والاتفاق على موقف شعبي أو حزبي معارض، وخضوع بعضهم للإغراءات الحكومية وبعضهم الآخر لمنطق الترهيب قد أجهض كل إمكان لتعطيل مشروع الجنرال في التغيير إلى وقت متأخر
"

وبدا أيضًا أن الشعب الباكستاني في أغلبيته يؤدي دور المتفرج الأكبر على التغييرات العميقة والواسعة التي تشهدها الدولة والمجتمع، بل إن التغييرات مست حياة الناس في إعلامهم وتعليمهم وملابس أبنائهم وطعامهم بما كان يجرح مشاعرهم الدينية التي قد تكون سطحية في عناصرها، إلا أنها أساسية في تعبيرها عن تكوينهم الثقافي.

وتعدى الأمر ذلك الجانب الاجتماعي إلى القضايا السياسية الأصلية، فتغير موقع قضية كشمير المركزي من سياسة الدولة، وظهرت باكستان باعتبارها أكبر حليف في المنطقة للمشروع الأميركي في الحرب على ما سُمِّي الإرهاب، دون أن يكون هناك حد أقصى في استجابة الحكومة للمطالب الأميركية إلا في أحوال نادرة.

كل هذا كان يتم والناس يرقبون حياتهم وهي تتغير أمام أعينهم؛ وفي نفوسهم سخط عميق، ولكن لا عمل، يعرفون ما يجري حولهم ولهم ويتوجسون خوفًا على مستقبل الدولة والأجيال القادمة، إلا أن الطبيعة الهادئة للناس والعجز عن التوافق والاتفاق على موقف شعبي أو حزبي معارض، وخضوع بعضهم للإغراءات الحكومية وبعضهم الآخر لمنطق الترهيب قد أجهض كل إمكان لتعطيل مشروع الجنرال إلى وقت متأخر.

بدء التراجع
كانت لاءات الجنرال كثيرة في وجه معارضيه؛ فلا عودة لرئيس المحكمة العليا المقال على الرغم من احتجاج المحامين، ولا تراجع عن الاحتفاظ برئاسة الجيش والدولة على الرغم من مخالفة ذلك للدستور، ولا هوادة في التعامل مع "المتشددين" ولا تفاوض معهم ولو تحصنوا بالمساجد.

وقد جاء التصعيد الحكومي في إجراءت المواجهة مع مخالفي مشروع الجنرال؛ سواء في وزيرستان ومناطق القبائل أو في المسجد الأحمر ومع جيش الشريعة في سوات أو مع قطاع القضاء وغيرها من المناطق والموضوعات الحساسة، ليستنفر مع الوقت مزيدًا من الأصوات المعارضة ويصنع منها قوة ذات شأن؛ في إمكانها تعطيل المشروع أو الضغط عليه على الأقل حتى أصبح للجمر بل للرماد ضرام واشتعال:

أرى خلل الرماد جمرا
فيوشك أن يكون له ضرام
فإذا النار بالعودين تذكى
وإن الحرب أولها الكلام
فإن لم يطفها عقلاء قوم
يكون وقودها جثثا وهام

وعلى الرغم من هذا، بدا الجنرال مصرًا على المضي في مشروعه إلى آخره مع الاحتفاظ بالقرار السياسي كاملا في يده، وبلغ الأمر أقصاه بفرض قانون الطوارئ والذي بدا أنه محاولة للسيطرة على مركب يهتز به الموج بقوة، وقائده مصرٌّ –مع هذا- على اتباع نفس سياساته السابقة.

والحقيقة أنه ينبغي ألا نضخم من تأثر النظام وسياساته بالمعارضة الشعبية التي بدت كجزر متناثرة أكثر منها قوى متحدة؛ إذ شاركت أطراف أخرى في الضغط على النظام، فدخل الغرب على خطوط الاختلاف مع مشرف.

"
لاءات الجنرال بدأت تتساقط أو تضعف وتراجع إلى مواقع ومواقف كان بالأمس مصرًا على غيرها, فعاد رئيس المحكمة العليا إلى منصبه ولو إلى حين وخلع الجنرال زيه العسكري ووعد بإلغاء الطوارئ وإجراء الانتخابات في أجواء طبيعية
"

وبدا لواشنطن أن نهج الجنرال مستفز للخصوم في بلد يحتوي على قوى اجتماعية هائلة لا يقلل من قيمتها إلا الخلافات المذهبية والتهم العقائدية المتبادلة بينها، وأنه لا ينبغي أن تشارك سياسات النظام في تجميع هذه القوى أو على الأقل لا ينبغي أن تصنع مناطق قلق أخرى للأميركيين في المنطقة تضاف إلى طالبان ومن يتعاطف معها في أفغانستان وفي مناطق الحدود بين باكستان وأفغانستان.

وبدأت تتساقط لاءات الجنرال أو تضعف، وتراجع إلى مواقع ومواقف كان بالأمس مصرًا على غيرها؛ مرة بتأثير المعارضة الداخلية، وأخرى بتأثير الضغوط الخارجية أو بهما معًا؛ فعاد رئيس المحكمة العليا إلى منصبه ولو إلى حين، وخلع الجنرال جلده –كما عبر هو بنفسه عن زيه العسكري– ووعد بإلغاء الطوارئ وإجراء الانتخابات في أجواء طبيعية.

والجديد في هذا الوضع الباكستاني هو أن الزعيم لم يعد يمسك بكل الخيوط في يده، كما كان حريصًا دائمًا منذ انقلاب أكتوبر/تشرين الأول 1999، فهو لم يعد قائدًا للجيش وإن بقيت القيادة في يد من اختارهم على عينه، كما يُحتَمل أن تدخل حكومة معارضة له -بعد الانتخابات التشريعية القادمة- على خطوط المواجهة المباشرة معه في قمة السلطة، إلا أن هذا رهن بمدى نزاهة الانتخابات المرتقبة.

وفي تعليق لأحد الكتاب بصحيفة داون الباكستانية على دموع الرئيس التي تحدَّرت وهو يسلم قيادة الجيش إلى أحد صنائعه وهو الجنرال "كياني" ذكر الكاتب أن الموقف كان مؤثرًا بحق، فبعد هذا العمر الطويل يودع الجنرال بزته العسكرية.

غير أن الشيء الذي كان أكثر تأثيرًا –كما يضيف الكاتب– هو دماء الضحايا الذين قُتلوا في لال مسجد، وحسرات الأهالي على عشرات المختفين من المعارضة والذين لا يدري أهلهم عنهم شيئًا، ومئات الضحايا الذين سقطوا في مناطق القبائل بقذائف الجيش ورصاصاته ومنهم أطفال وطلاب ماتوا وهم في مدارسهم.

ولعل هذا لا يلهينا عن أخطر نقطة تتعلق بالوضع الباكستاني المضطرب، فقد نشرت صحيفة غارديان مؤخرًا تقريرًا مطولا حول خطة أميركية بريطانية للسيطرة على السلاح النووي في باكستان تحسبًا للاستيلاء عليه من قبل أي قوة مناوئة للغرب (وهو ما تلخصه واشنطن ولندن في كلمة الإرهاب أو التشدد) بسبب الوضع غير المستقر في باكستان.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.