عشرون عاما من الجمهورية الثانية في تونس

عشرون سنة من الجمهورية الثانية في تونس- عادل لطيفي



عادل لطيفي

في طبيعة التغيير
الانقلاب على الجمهورية
آفاق عشريتي التغيير

عشرون سنة مرت على التغيير الذي مس هرم السلطة في تونس فجر السابع من نوفمبر/ تشرين الثاني 1987. تجربة يكون من السذاجة اليوم طرح سؤال حول تقييمها لأن ذلك بات من البداهة بمكان في ظل العيوب التي ما انفكت السلطة تكشف عنها من حين إلى آخر، خاصة عند اصطدامها بعمليات نضالية ولو محدودة.

لكننا سنطرح السؤال رغم ذلك بهدف فهم نقطتين أساسيتين على الأقل، تتعلق الأولى بفهم طبيعة التحول وبمكان المجتمع فيه، في حين تتعلق الثانية باستشراف مستقبل الوضع الحالي.

وكمؤشر أولي للتقييم نذكِّر بأن انطلاق ما سمي بالتغيير في تونس كان قد تزامن تقريبا مع خروج إسبانيا والبرتغال وكذلك الأرجنتين من تجارب الدكتاتورية العسكرية المريرة، فأين تونس والتونسيون اليوم من تجربة هذه الشعوب؟

في طبيعة التغيير
تم التغيير عام 1987 في ظل وضع داخلي مترد وصلت فيه سلطة الرئيس السابق لحبيب بورقيبة مرحلة التهرؤ والانحلال، وأصبحت فيه رموز الحكم انعكاسا كاريكاتيريا لذاتها. كان لا بد لهذه السلطة من إنقاذ نفسها قبل أن يتغلغل صدى ضعفها في أوساط المجتمع.

تم التغيير إذن من داخل دائرة النظام القائم آنذاك، وكان رهانه الأساسي هو استعادة يد السلطة على المجتمع إثر توالي مؤشرات التململ، خاصة بعد ما عرف بثورة الخبز مطلع العام 1984 وتنامي دور الإسلاميين وتصاعد العمل النقابي.

كان وضعا شاذا في دولة عرفت تقاليدها التاريخية في العصر الحديث والمعاصر هيمنة مطلقة لمؤسسة الدولة على المجتمع. ولتحقيق هذا الهدف اعتمدت السلطة الجديدة إستراتيجية انفتاحية تجاه المجتمع صاحبتها دعاية مكثفة لشخص الرئيس الجديد زين العابدين بن علي، من خلال شعارات واعدة مثل: لا مجال لرئاسة مدى الحياة، ودولة القانون والمؤسسات وحقوق الإنسان.

كان لا بد كذلك من تجاوز البعد الرمزي لحقبة بورقيبة عن طريق تجاوز الشرعية النضالية المبنية على دور المجاهد الأكبر (الرئيس بورقيبة) رمز الاستقلال، وتوجيه العامة نحو مستقبل براق لكسب رهان التقدم والحداثة.

"
ما حصل عام 1987 هو إعادة هيكلة رمزية داخلية للسلطة تمحورت حول المحتوى الرمزي للسلطة السابقة وتعويضها بمحتوى رمزي جديد وبقاعدة اجتماعية أكثر حيوية وديناميكية. لقد حل لقب رجل التغيير والتحول محل لقب المجاهد الأكبر
"

غير أن مثل هذه القطيعة المعلنة في الخطاب الرسمي الجديد لم تكن لتتجسد كواقع مجتمعي وسياسي ملموس، وذلك لأن عملية التحديث (المبتور) كانت قد بدأت بالفعل في السنوات الأولى من الاستقلال وارتبطت نهائيا بشخص الرئيس التونسي الأول.

تم هذا التغيير الفوقي كذلك في ظرف عالمي تميز بركود اقتصادي وبروز الوصفة السحرية للبنك العالمي وصندوق النقد الدولي والتي تتلخص في انسحاب القطاع العام من مجال المبادرة والتسيير الاقتصاديين وفتح المجال أمام القطاع الخاص دون أي حدود.

في هذا السياق نفهم انخراط السلطة الجديدة في سياسة اقتصاد منفتح دون حدود اعتمادا على دعاية تمجد العمل والبذل والعطاء في سبيل الوطن وتكاد تجرم العمل المطلبي النقابي.

كما انتشرت بالتزامن مع ذلك ثقافة الاستهلاك السريع بالتوازي مع تنامي ظاهرة الربح السريع وبروز فئة جديدة من الأثرياء سيمثلون قاعدة اجتماعية فاعلة للسلطة الجديدة. ستلعب هذه الفئة دورا مهما في تأطير ومراقبة المجتمع، خاصة في المدن حيث انخرطت بكثافة في صفوف الحزب الحاكم.

كان ما حصل عام 1987 إعادة هيكلة رمزية داخلية للسلطة تمحورت حول المحتوى الرمزي للسلطة السابقة وتعويضها بمحتوى رمزي جديد وبقاعدة اجتماعية أكثر حيوية وديناميكية. لقد حل لقب رجل التغيير والتحول (الرئيس بن علي) محل المجاهد الأكبر (الرئيس بورقيبة) معلنا بذلك نهاية شرعية الاستقلال.

على المستوى السياسي سجلت السنوات الأولى من التغيير انفتاحا على كل مكونات المجتمع المدني والسياسي الفاعل، كما تم تسجيل مناورة من الانفتاح الإعلامي خلال نهاية التسعينيات أعطت الانطباع بأن التغيير حقيقة ملموسة.

وفي هذا السياق تبنت السلطة الجديدة كل القضايا المطروحة في الداخل والخارج من حقوق إنسان وبيئة وفقر ومرض وغيرها، أي في النهاية كل القضايا التي يمكن أن تصلها الأحزاب ومكونات المجتمع المدني، وهو ما قيد إلى حد بعيد فضاء فعل هذه المؤسسات وقوّى من قبضة السلطة على المجتمع.

لكن سرعان ما تبين أن هدف السلطة الجديدة كان إذابة هذه القوى في توجهاتها الجديدة ضمن إطار ما عرف بالميثاق الوطني الذي رفضه الإسلاميون وتيارات اليسار والقوميين، نظرا لما يقره من ترسيخ لهيمنة شخص الرئيس على جهاز الدولة وهيمنة الحزب الدستوري الحاكم على المجتمع.

الانقلاب على الجمهورية
لم يدم انفتاح السلطة الجديدة طويلا، إذ بمجرد ترسخ قدمها والتأكد من انسياب المجتمع وراء ضخ الدعاية الإعلامية، بدأ العد التنازلي باتجاه سياسة العصا الغليظة. كان التبرير المعلن هو مقاومة الخطر الإسلامي، خاصة أمام ما بدأت تشهده الساحة الجزائرية من انفلات مأساوي.

لكن واقع الأمر أن السلطة اتجهت نحو التشديد على كل قوى المجتمع التي لم تنخرط في سياق الخيارات المحددة ولم تدخل بوتقة الحزب الحاكم.

كانت حركة النهضة هي التي دفعت الثمن الباهظ لارتداد التغيير، لكن هذا الارتداد شمل كذلك اليساريين والقوميين سواء في اتحاد الشغل أو في رابطة حقوق الإنسان أو في الأحزاب.

وقد تقوت هذه القطيعة مع القوى الفاعلة في المجتمع مع أواسط التسعينيات، حين بدأ يخفت بريق شعارات التحول وتنفذ خيارات سلطة السابع من نوفمبر/ تشرين الثاني.

فقد بدأت تبرز مظاهر الأزمة الاجتماعية الناتجة عن انخراط العائلات في نسق استهلاكي دفعها نحو التداين، كما بدأت تتعمق الأزمة مع استفحال ظاهرة بطالة خريجي الجامعات، بالإضافة إلى انتشار ظاهرة الطرد التعسفي في قطاعي الصناعة والسياحة.

"
جملة التراجعات التي شهدتها تونس جعلت من عشريتي التغيير مجرد عشريتين من الفرص الضائعة في بلد طالما افتخر بترسخ تقاليده من حيث هياكل الدولة وحيوية المجتمع ومؤسساته
"

وبالتوازي مع انعزال السلطة تجاه قوى المجتمع -بما فيها المعارضة- ازداد تراجع الدور التونسي على الصعيد الإقليمي والعربي والعالمي. ووصلت هذه الحساسية تجاه التواصل الخارجي حدا تراجيديا بإلغاء قمة عربية كانت الوفود المشاركة فيها قد حلت بالبلاد.

ما شفع للوضع في تونس خلال النصف الثاني من التسعينيات كان وضع الدول المجاورة، حيث لم يتضح بعدُ التوجه السياسي لليبيا بعد انهيار حلفائها الشرقيين، كما لم تتضح بعد ملامح الوضع في الجزائر أمام استمرار عنف الجماعات الإسلامية المسلحة.

ولتغذية عزل المجتمع وانعزال السلطة، تم الاعتماد على سياسة إعلامية قوامها مراقبة وتوجيه المعلومة. لهذا السبب تدحرج الإعلام التونسي إلى وضع غير مسبوق من التدني حتى بالمقارنة مع السنوات التي سبقت تغيير السابع من نوفمبر.

لكن الأخطر في كل هذا لم يكن التشدد ضد المعارضة أو سياسة التوجيه الإعلامي التي ولدت حالة من التصحر في وسائل الإعلام، بل الأخطر من ذلك كله ذلك الانقلاب على جمهورية أعلن وجودها في النصوص بعد الاستقلال دون أن توجد فعليا.

وزاد دعمها من حيث المبادئ بإعلان السابع من نوفمبر/ تشرين الثاني الذي بشر بزوال حكم الفرد وحلول دولة القانون والمؤسسات. لقد تم خنق "الجمهورية-النص" (لأنها لم توجد خارج النص الدستوري) تحت وطأة الهيمنة المطلقة لمؤسسة الرئاسة على باقي هياكل الدولة سواء من حيث الممارسة أو من حيث الإطار القانوني.

فعلى مستوى الممارسة تعطي الدعاية الرسمية صورة غير تاريخية عن سير بلاد أضحى كل شيء فيها رهن المبادرة الرئاسية، فقد غطى الحضور الخارق للعادة للرئيس على كل مؤسسات الدولة وكل هياكل المجتمع، ما أدخلها في مرحلة من العقم التام.

تم تقزيم الجمهورية وتحجيم المجتمع كذلك من خلال التحويرات المتعددة للدستور والتي أفضت في مجملها إلى تقليص دور البرلمان أمام الحكومة وخاصة أمام شخص الرئيس.

كما تمت استعادة الرئاسة مدى الحياة كواقع دستوري قسمها إلى فترات نيابية متتالية راكمت اليوم عشرين عاما من عمر الرئاسة الحالية.

إن جملة هذه التراجعات جعلت من عشريتي التغيير مجرد عشريتين من الفرص الضائعة في بلد طالما افتخر بترسخ تقاليده من حيث هياكل الدولة وحيوية المجتمع ومؤسساته.

ففي الفضاء العربي على الأقل مثل العمل النقابي التونسي مكسبا تاريخيا منذ عهد الاستقلال، كما أن رابطة الدفاع عن حقوق الإنسان تعد تجربة نوعية، كل هذا التراث ما انفك يشهد خنقا متواصلا منذ بداية التسعينيات يهدد بزواله.

آفاق عشريتي التغيير
أي آفاق للوضع الحالي في تونس بعد هذه التجربة؟ تبقى هذه الآفاق مرتبطة بطبيعة الأطراف الفاعلة في الوضع سواء على الصعيد الداخلي، أي السلطة والمعارضة والمجتمع أو على الصعيد الخارجي.

– يبدو أن السلطة استنفذت كل أوراقها سواء لتدجين المجتمع أو لمحاصرة المعارضة، وقد أصبح وضعها الحالي يذكر إلى حد بعيد بوضع السلطة البورقيبية أواسط الثمانينيات.

إن التعنت الحالي لهذه السلطة مع المعارضة ولأسباب مخجلة أحيانا -مثل الطرد من الشغل أو المنع من السفر أو رفض مقر لحزب قانوني- يفسر بانعدام موارد تضمن إعادة ديناميكية السلطة.

نضيف إلى هذا أن الوضع الإقليمي قد تغير وبدأت تتضح المعالم السياسية والاقتصادية في كل من الجزائر وليبيا، ما يقلل من مكانة تونس كواحة للسلم والتقدم في منطقة كانت بالأمس مضطربة.

"
المؤكد أن بوادر الانعزال عن السلطة بدأت تظهر شيئا فشيئا, والخطر أن مثل هذا الانعزال قد يعطي نتائج غير متوقعة مثل ظاهرة الحركات الجهادية التي اصطدمت مع أجهزة الأمن في السنة الماضية
"

ومع تنامي المعارضة وتراجع المبررات الإقليمية للتشدد السياسي ستقبل هذه السلطة على مراحل صعبة مستقبلا، خاصة مع الاتحاد الأوروبي الذي بدأ يتجاوز ملف الإرهاب إلى الاهتمام بملف الحريات.

– المعارضة تبقى دون مستوى تقاليدها النضالية ومستوى متطلبات المرحلة، فهي إلى اليوم عاجزة على جبهتين رئيسيتين هما القاعدة الجماهيرية والإعلام.

فإن بررنا غياب القدرة على تحريك فئات أوسع من المجتمع بالحصار الخانق المفروض عليها من طرف السلطة، فإن عجزها عن الاختراق الإعلامي يعود أحيانا إلى غياب القدرة على ابتكار أشكال نضالية متميزة قادرة بأقل التكاليف أن تصنع الحدث.

لكن في نفس الوقت علينا أن نقر ببعض نجاحاتها في هذا الميدان، خاصة من حيث ترسيخ إضراب الجوع كتقليد تونسي بامتياز أدى في أحيان عديدة إلى فرض تراجع السلطة.

يمكن لهذه المعارضة أن تستفيد كذلك من تنوعها ونضجها وتقارب رؤيتها المرحلية على الأقل بين الإسلاميين واليساريين والديمقراطيين.

– أما المجتمع ففي ظل يأس شرائح عديدة من فئاته وخوفه من التعامل مع قوى التغيير من أحزاب وجمعيات، فقد فضل إما الاستسلام للعزوف عن السياسة وخلق عالم موازٍ في إطار تدين متصاعد، أو الحلم بترك البلاد نحو عالم الهجرة. لكن لا يمكننا أن نتنبأ بطبيعة تعامله المستقبلي مع المعطيات.

المؤكد أن بوادر الانعزال عن السلطة بدأت تظهر شيئا فشيئا، والخطر أن مثل هذا الانعزال قد يعطي نتائج غير متوقعة مثل ظاهرة الحركات الجهادية التي اصطدمت مع أجهزة الأمن في السنة الماضية.

كان ذلك ناقوس خطر للسلطة لمراجعة موقفها من قوى المجتمع المدني والأحزاب، غير أن الظاهر أن ذلك لم يزد السلطة إلا تعنتا.
ـــــــــــــ
كاتب تونسي

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.