الأردن.. إلى أين؟

الأردن إلى أين؟

خلال السنوات الست الأخيرة من عمر المملكة, تعاقبت عليها سبع حكومات لا أقل, شكلها خمسة رؤساء وزارات, كما تعاقب عليها أربعة مديري مخابرات عامة, وأربعة مشاريع وخطط مركزية شاملة لكل شأن من شؤون الدولة.

ولا يوازي تراكب (البدء بوضع واحدة مع وجود الأخرى) هذه المشاريع والخطط وتناقضاتها إلا تناقضات وتراكب وتنافس رؤساء وأعضاء اللجان التي وضعتها.

كل هذه الحكومات أخذت ثقة من مجلس النواب, أدناها في حدود ثلثي أعضاء المجلس، وهي نسبة عالية جدا حتى بالمقاييس الأردنية, حيث إن عددا لا بأس به من النواب موافقتهم محسومة على كل ما يأتي من أعلى، إما بحكم قانون انتخاب يفصل عددا من المقاعد على مقاس مرشحين بعينهم, أو عبر إجراءات تزوير أصبحت من "التراث" الأردني لدرجة أن رؤساء حكومات أشرفت على العديد من هذه الانتخابات يروون طرائفه في جلسات عامة!

أما كيف أصبح أخذ هذه الثقة العالية والمحسومة يتم, فإن اقتباسا من مقالة السيد سميح المعايطة في صحيفة الغد يؤشر إلى معلومة شائعة مدعومة باعتراف رسمي.

فمما قاله الكاتب "رئيس الوزراء السابق د. عدنان بدران أعلن في فترة حكومته أن حكومته لن تدفع, في إشارة إلى استخدام حكومات سابقة للمال في إدارة علاقاتها مع مؤسسات وأفراد سياسيين وإعلاميين.. فالأمر ليس قناعات سياسية أو ائتلافات فكرية أو حتى علاقة صداقة بل معادلة المكسب".

ويضيف الكاتب في مقالته المنشورة قبل يوم واحد فقط من التصويت على الثقة بالحكومة الحالية "نذكر الحكومة الحالية بأن عليها أن تستمر في سياسة الحكومة السابقة بعدم الدفع, كما نذكرها أيضا بألا تدفع بالطرق غير المباشرة، فالقرارات الإدارية التي يتم تفصيلها من قبل الحكومات لخدمة أشخاص قرارات مالية أيضا".

"
ما سمي "المناطق المؤهلة" تستفيد منه إسرائيل أكثر منا باسم جذب الاستثمار إلينا.. وهو ما انتقدته المعارضة منذ سنوات دون أن تستجيب له الحكومات المنفردة بالقرار
"

وفي ذات الشأن يخاطب أحد النواب الحكومة الحالية بقوله "أطلب من الحكومة الحالية ألا تتشجع للقوانين المؤقتة التي ردها مجلس النواب".. ومن بينها قانون ضريبة دخل يزيد الأعباء الضريبية أكثر فأكثر على الطبقة المتوسطة والمتدنية الدخول مع استمرار إعفاء الدخول الكبيرة, خاصة الرأسمالية منها من الضرائب, وهو ما يناقض تماما حكم الدستور بوجوب أن تكون الضرائب تصاعدية.

والأهم أن ملاحظات كهذه تبين من يدفع ومن يقبض بأبعد من الرشى المباشرة مقابل الصوت والموقف!

ولكن هل تحتاج هذه الحكومة للدفع مقابل الثقة؟ يقول النائب المعارض الدكتور عبد الرحيم ملحس (في إشارة إلى خطاب الملك للنواب الذي قال فيه إنه إذا كان النواب غير راضين عن أداء الحكومة فإن الشعب غير راض عن أداء النواب) "محظوظة هي هذه الحكومة, لأنها في طلبها للثقة تواجه مجلسا استمع إلى نصائح قوية بضرورة التعاون معها.. نصائح سمعها المجلس بالأذن اليمنى, وهو يسمع همسا بحله, في الأذن اليسرى، لقد أصبحت أصوات الثقة بلا معنى..".

هذا عن الحكومات.. أما البرامج والخطط التي يفترض أن تنتجها وتطبقها هذه الحكومات فقد كلفت الدولة مبالغ مالية وجهودا كبيرة وانتهت كلها, باستثناء واحدة أعدت بتكتم وقدمت حديثا, إلى لا شيء!!

ونبدأ بأولها, وهي ما سمي بوثائق "الأردن أولا", ورافقتها حملة إعلانية ضخمة على مساحة صفحات كاملة من الصحف اليومية وبعض الأسبوعية المرضي عنها, واليافطات الإعلانية الضخمة في الشوارع الداخلية والخارجية وعلى أسطح البنايات, والملصقات وغيرها.

ومع ذلك لم يفهم الشعب الأردني ما المقصود منها حتى الآن.. وإن فوجئ بإحياء اسم "لجان الأردن أولا" في حملة إعلانية مكثفة جديدة لحشد مسيرات واستخلاص بيانات إدانة وتأييد لتفجيرات الفنادق في عمان, ذات نمط موحد!!

مجمل موقف الأردنيين من شعار وحملة "الأردن أولا", يجسده الدبلوماسي الأردني السابق فؤاد البطاينة في كتابه "المشهد الأردني" (وهو ليس معارضا بل رجل دولة, وكتابه ليس ممنوعا ويباع في السوق الأردنية).

ففي فصل بأكمله يحاول الكاتب دون جدوى فهم الشعار وتفسير الدولة له. ويؤشر على الفهم الشعبي له فيقول إن "التوقيت الذي جاء فيه إطلاق الشعار.. قد يكون حمل الشعار حمولة زائدة, ولكنه تحميل مبرر من حيث الاستنتاج والربط المنطقي, حيث إنه توقيت بدد الكثير من التعاطف مع فكرة ومصداقية هدف الشعار.

استنتاجات تتصل بتنازلات لها مساس بنسق المواقف القومية والوطنية الشعبية والرسمية التقليدية في الأردن بشأن ما قد يؤول إليه الوضع في كلا البلدين العربيين المجاورين فلسطين والعراق, وبكل جزئيات واستحقاقات الحرب التي تشنها الولايات المتحدة على الساحة العربية والإسلامية.. بحجة مكافحة الإرهاب".

وثانيا خطة "التنمية السياسية" التي اختلقت لها وزارة تكررت, مهمشة, في حكومات لاحقة بضمها لحامل حقيبة أخرى في الوقت نفسه, دون وصف وظيفي لها سوى أن تتحدث مع من هب ودب ولا تصل إلى نتيجة أو قرار أو توصية حتى يومنا هذا.

وآخر من آلت إليه مرفقة بحقيبة الشؤون البرلمانية رجل بلا خلفية سياسية أو حزبية أو برلمانية, رجل أمن متقاعد, كرئيس الحكومة, ويحمل دكتوراه في "علم الجريمة"!

وثالثا، "الأجندة الوطنية "التي قيل في كتاب التكليف الملكي للجنتها إنها ستكون "ملزمة لكافة الحكومات الأردنية لعشر سنوات قادمة".. فأنتجت لجانا فرعية عديدة كلها, كاللجنة الأصلية, غير منتخبة ولا سلطة ديمقراطية لها لتقرر سياسات البلد "لعشر سنوات", بكل ما يعنيه هذا من تعد على صلاحية مجلس النواب الحصرية في قبول أو رفض سياسات تلك الحكومات التي تتقدم بها للنواب في بيان طلب الثقة.

وبعد مداولات اللجان لما يزيد على السنة, وحين قاربت في توصياتها أمورا تم الترحيب بها شعبيا, كالتوصيات بشأن القوانين الناظمة للحريات العامة والقائمة النسبية في قانون الانتخاب, أعلن أن توصياتها لم تعد ملزمة.

هذا الإعلان جعل "احتفال" رفعها للملك في 2500 صفحة, مثقلا بكآبة مشروع هوى من الصدارة للقاع, ومؤذنا برحيل نائب رئيس الوزراء رئيس لجنة الأجندة الذي كان لأكثر من عقد ونصف مضيا, رجل السياسة الأردنية الخارجية الأول دون منازع!

ولعل تقديم توصيات "لجنة الأقاليم" التي صيغت في جو من التكتم, في نفس الاحتفال, مؤشر على طبيعة المرحلة ودور تلك التوصيات التي تدور حول تقسيم المملكة إلى ثلاثة أقاليم في فترة ينظر فيها نظرة متشككة إلى مخططات التقسيم الداخلي لأقطار هي ناتج تقسيمات سوريا الكبرى في اتفاقية سايكس بيكو.

"
إذا صدقت الحكومة في تحقيق معادلة الأمن والديمقراطية دون أن يكون أحدهما على حساب الآخر, فإن أحوج ما تكون إليه هو التفاف الناس حولها وإيمانهم بأنهم شركاء في الغنم لا في الغرم فقط
"

ودون استباق لما حوته توصيات لجنة الأقاليم أو تكهن بمصيرها, نورد ما قيل عند تشكيل تلك اللجنة من أن تلك الأقاليم ستكون ذات مجالس إدارة أشبه بحكومات محلية ومجالس تمثيلية منتخبة, وهو ما يسميه البعض, ومنهم رئيس الوزراء الأسبق عبد الرؤوف الروابدة عضو اللجنة بالولايات المتحدة الأردنية.

وهي تسمية باتت تعكس الآن كثيرا من الهواجس التي ترافق مجمل التغيرات المتسارعة غير المفهومة عند الشعب الأردني وحتى لدى النخب السياسية، وهي هواجس تتعلق بما إذا كنا نسير أبعد مما يجب في ركاب حليفتنا أميركا, وحتى باحتذاء نموذجها.

ولعل انتقال تفجيرات 9-11 إلينا على هيئة تفجيرات 11-9, مصدر تلك الهواجس الأكبر.

فالأمر لا يخلو من رمزية تعكس نهج الولايات المتحدة في عنونة مشاريعها السياسية المأخوذ من التراث الهندي (كتسميات حملاتها العسكرية) والممزوج بفكرة مسطحة من الإعلام الهادف لتغيير أو تجيير الرأي العام بما يخدم سياسة بعينها.

ونتاج هذا المزج اختصار وترميز أي مخطط بشعار يكرر حتى يلتصق بعقول العامة ويصبح بحكم الحقيقة التي لا تناقش لبديهيتها.

ومنه مثلا "معسكر الخير ومعسكر الشر" الذي يمتد على مساحة واسعة من الأنشطة الطوعية إلى أفلام المغامرات والخيال العلمي إلى جميع حملات أميركا العسكرية وحربها الباردة, وصولا إلى إعلان بوش حربه "المقدسة" على الإرهاب.. وهي ما تقول أميركا وتكرر حكوماتنا أننا من أفضل حلفائها فيه!

وكل ما يحوم حول 9-11 يحوم حول 11-9, وليس أقله المواقف والسياسات التي بنيت عليهما في كلا البلدين.

وقد يكون هذا المؤشر الوحيد لمحاولة فهم تغيير قيادات الأجهزة الأمنية في الأردن, خاصة جهاز المخابرات أربع مرات, لكون هذا التغيير إجراء سري مغلق حتى على غالبية أقطاب هذه الحكومة وسابقاتها.

ويمتد التشابه في المواقف والسياسات, إلى السرعة التي يتم بها هذا البناء على حادثة التفجيرات, بل وتسرعه, إضافة لتمحوره حول إجراءات استباقية، الفارق بيننا وبين أميركا فيها هو في الحجم والمدى وليس في النوع، "فمكافحة الإرهاب" و"حفظ الأمن" تتمان بنفس الوسائل.

فعلى الصعيد الخارجي, يبدأ تصدير مشكلة السياسة الداخلية (أو المصلحة الداخلية) لتصبح صراعات خارج الحدود مع قوى إرهاب حقيقية أو مفترضة, هي لكليهما الآن, أسامة بن لادن والزرقاوي.

وهو تصدير قد لا تكون نتائجه سليمة, بدليل أن أميركا نفسها تورطت في أكثر مما تستطيع حمله حين جعلت جبهتها في العراق لا على حدودها هي.

"
غياب الثقة في المسؤولين نتيجة الفساد, والتغريب جعل المواطن يؤمن بألا نصيب له في أي غنم، بل إن عليه أن يحمل المزيد من الغرم حتى حين تهل خيرات وطنه, بدءا من ماء سمائها وانتهاء بزرع ثراها
"

وعلى صعيد الداخل في البلدين الحليفين, تبدأ تلك الإجراءات بالتراجع عن إنجازات "ديمقراطية" وعن "حريات" شخصية وسياسية, تصل حد خرق ثوابت الدستور, مما كنا نشكو منه أساسا قبل أن تقتنع حكوماتنا بمزاياه الجديدة التي جرى تصديرها لأميركا في الظاهر, في حين يعتقد الكثيرون أن كل هذا جرى تصديره من أميركا إلينا!

وعند الحديث عن الاستيراد والتصدير, ولصلة عضوية بموضوع مقالتنا هذه وليس مجرد تداع لفظي, يتزامن كل ما سبق مع ما أسمته صحافتنا وشارعنا الاقتصادي "بطفرة العجز التجاري"، ويتمثل في ارتفاع العجز بنسبة 48.1% عن نفس الفترة من العام الماضي, وهو ما لا يمكن تبرير أكثر من ثلثه بفاتورة النفط.

ويكاد خبراء الاقتصاد الأردنيون يجمعون على أن السبب ليس لزيادة في مداخيل المواطن الأردني, بل في زيادة الاستهلاك الترفي لبضائع مستوردة لفئة حققت أرباحا سريعة في مضاربات وطفرات في السوق لا تحقق نموا حقيقيا في القطاعات الإنتاجية, أقلية من هؤلاء أردنيون والغالبية من غير الأردنيين ويسمون مستثمرين.

يضاف لهذا عدم الاستفادة من الأسواق التي فتحتها لنا اتفاقياتنا مع الولايات المتحدة واتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي, خاصة أن ما سمي "بالمناطق المؤهلة" تستفيد منه إسرائيل أكثر منا باسم جذب الاستثمار إلينا.. وهو ما انتقدته المعارضة منذ سنوات دون أن تستجيب له الحكومات المنفردة بالقرار!

قد يكون من المبكر لأسباب الالتزام بالموضوعية والحياد الحكم منذ الآن على الحكومة الجديدة وتوجهاتها.. ولكننا نقرأ عناوين رئيسة لا يمكن إغفالها, ناهيك عن أن الاتعاظ بالتجربة من شيم العقلاء.

ولكن, إذا صدقت الحكومة في تحقيق معادلة الأمن والديمقراطية دون أن يكون أحدهما على حساب الآخر, وحتى إن صدقت في هاجس الأمن وحده, فلم يكن مجرد ذريعة, فإن أحوج ما تكون إليه لإقراره, هو التفاف الناس حولها وإيمانهم بأنهم شركاء في الغنم لا في الغرم فقط.

ولسنا نشكك في انتماء أي أردني لوطنه, ولكن حالة تغريب المواطن وصلت حدا يمكن أن نقرأه في أدق معيار لقناعات الشعوب, وهو النكتة التي تضحك لها أو تغلف بها رسائلها السياسة الممنوعة.

ففي كاريكاتير رائج جدا للفنان عماد حجاج الأكثر شعبية من نجوم الرياضة والفن وحتى السياسة في الأردن, يرد بطل رسوماته "أبو محجوب" على قول صديقه إن انحباس المطر غضب, غضب على "بياعين الغاز" ورحمة للفقراء! وعبارة "بياعين الغاز" جاءت بين قوسين في تكييف سياسي لها يقصد به غير أصحاب الصهاريج من أبناء الشعب المفقر.

وإذا قارنا قول أبو محجوب الذي يعكس موقف غالبية الشعب الآن, بما كانت عليه حالة القلق الشعبي العام لانحباس المطر الذي لم يكن يقف عند المزارعين حتى الماضي القريب, وصلوات الاستسقاء والأدعية التي كان يوظف فيها الأطفال لما هو متعارف عليه من مكانتهم عند الله.. فإننا نقدم للحكومة صورة من غياب الثقة في كل المسؤولين نتيجة الفساد الذي استشرى, والتغريب الذي جرى للمواطن بحيث لم يعد يؤمن بأن له نصيبا في أي غنم.

بل عليه أن يحمل المزيد من الغرم حتى حين تهل خيرات وطنه, بدءا من ماء سمائها وانتهاء بزرع ثراها!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.