الحالة العراقية وصلابة المجتمع التقليدي

بقلم/ بشير موسى نافع

تعرض العراق خلال الأسابيع التي أعقبت سقوط بغداد ووقوع البلاد تحت الاحتلال الأنغلوأميركي لحالة من الفوضى والنهب وفقدان الأمن غير مسبوقة وغير متوقعة.


المدهش في الحالة العراقية أن هناك إجماعا ساد كل المهتمين بشأنه قبل الاحتلال بأنه البلد الأكثر تحديثا في الشرق الأوسط

لقد أدت الحرب على العراق إلى تدمير واسع النطاق للمرافق ومؤسسات الخدمات العامة، وإلى انهيار كامل لأجهزة الحكم والأمن والدفاع. من تبقى حيا من قوات الجيش العراقي غادر المواقع والمعسكرات إلى بيته، واختفت نهائيا عناصر الشرطة والأذرع الأمنية للنظام، ورجال الإطفاء، والعاملون في الدوائر المحلية والبلدية.

بغداد والمدن العراقية الكبرى الأخرى التي كانت تعاني نقصا في إمدادات الماء والكهرباء قبل الحرب، أصبحت الآن مظلمة عطشى، وبات كل شيء مهددا: الحياة، والممتلكات الخاصة والعامة، والمساجد والمصانع والجامعات. سرقت السيارات وسط الشوارع والميادين الرئيسية، فرغت المكتبات من محتوياتها، اعتدي على المستشفيات، ونهبت معسكرات الجيش ومخافر الشرطة ومقار الوزارات ودوائر الحكم والمتاحف.

ولكن الأخطر من ذلك أن العراق بدا للوهلة الأولى وكأن مركز ثقله قد انهار بانهيار الدولة. لم تكن قوات الاحتلال ترغب أو حتى تستطيع حماية الناس وتوفير الأمن، ولا كان لقوى المعارضة المتحالفة مع الغزاة من الوجود داخل البلاد ما يؤهلها للعب دور قيادي سياسي واجتماعي. فيما عدا حقول النفط ومقر وزارة النفط التي أرسلت المدرعات الأميركية لحراستها، فقد ترك العراقيون لمصيرهم.

بيد أن العراق سرعان ما تدبر أمره. المدهش في الحالة العراقية أن هناك إجماعا ساد كل المهتمين بشأنه قبل الاحتلال، خبراء وأكاديميين، رجال دولة أميركيين وأوروبيين وعربا، خصوما وأصدقاء، بأنه البلد الأكثر تحديثا في الشرق الأوسط.

يتمتع العراقيون بمستويات عالية من التعليم الحديث، وينتشر في أنحاء العراق عدد كبير من الجامعات، مقارنة بتعداد السكان. عرف العراق الصحافة الحديثة منذ النصف الثاني للقرن التاسع عشر، وكان أول دولة عربية تؤسس محطة للبث التلفزيوني.

وقد انتهجت الدولة العراقية لفترة طويلة سياسة استهدفت تهميش القبيلة، وإضعاف مؤسسة العلماء، كما عملت على إدماج المرأة العراقية في سوق العمل والنشاط الحزبي السياسي الرسمي.

وشهد العراق -على الأقل خلال العقود القليلة الماضية- دورا واسعا لحزب سياسي حديث تخلل كل شرائح الاجتماع والعمل. ورغم ذلك لم يجد العراق في لحظة الأزمة والخوف والانهيار أيا من القوى الحديثة تتقدم لإغاثته.


قوضت حركة التحديث الاستقلال الذاتي الذي تمتعت به مؤسسات المجتمع التقليدي وأودعت مصادر القوة والسلطة بكاملها في يد الدولة

لم يتقدم الحزبيون لحماية الناس والمنشآت، لم تنشط اتحادات الجامعيين والصحفيين والفنانين لحراسة المكتبات ودور المسرح والإذاعة، ولا بادرت "الأنتلجنسيا" العراقية للوقوف أمام عصابات النهب والسرقة والخطف.

في لحظة الأزمة والخوف والانهيار رأينا العراقيين يلجؤون إلى العائلة الممتدة لحماية أسرهم الصغيرة من الاعتداء والجوع. رأينا العشائر العراقية من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، تنظم حراسات المدن والقرى، بل إن المناطق الأكثر تماسكا عشائريا كالأنبار والجزيرة، ظلت الأكثر أمنا وأمانا.

في بغداد وغيرها أخذ العلماء المبادرة للتذكير بحرمة نهب المؤسسات العامة، وفتحت أبواب المساجد لإعادة المسروقات. نظم العلماء مجموعات الإغاثة والعلاج وحماية المؤسسات والأحياء، وتحولت المساجد إلى مراكز لبناء لحمة المجتمع وتماسكه.

والأهم من ذلك كله كان السرعة التي برزت فيها مؤسسة العلماء -السنة منهم والشيعة- لقيادة الحركة الوطنية العراقية والنضال من أجل استقلال العراق والحفاظ على وحدته. في الوقت الذي اختفى فيه البعث أو كاد، وتحولت الأحزاب الحديثة -الإسلامي منها والعلماني- إلى شريك لإدارة الاحتلال، وقفت هيئة علماء المسلمين والعلماء الشبان من التيار الصدري -ولا تزال- لمعارضة المحتلين والعمل على تحرير العراق من الاحتلال.

ثمة أسئلة على درجة بالغة من الأهمية تطرحها الحالة العراقية: لماذا كانت الدولة والمؤسسات والأحزاب الحديثة على هذه الدرجة من الهشاشة؟ وكيف عجزت عن التصدي للتحديات التي طرحها الغزو والاحتلال على مستوى الوطن والمجتمع؟ كيف أمكن أن تختفي عن ساحة الفعل الجمعي قوى استهلك تكوينها وتنشئتها ثروات هائلة على مر العقود، وكان يفترض أنها الأكثر تأهيلا لقيادة المجتمع؟ هل صحيح أن حركة التحديث في بلادنا نجحت في تقويض قوى المجتمع التقليدي؟ ولماذا إذن تعود هذه القوى من جديد لتقود حركة المجتمع؟

بدأت حركة التحديث في بلادنا منذ منتصف القرن التاسع عشر، وتسارعت وتيرتها في ظل دولة الاستقلال خلال القرن العشرين. خلال السنوات الـ150 الماضية، طالت حركة التحديث كل جوانب الاجتماع العربي الإسلامي: الأنظمة التعليمية، القانون والقضاء، الأسرة والقبيلة، دور الدين وموقع العلماء، السوق والتجارة والاقتصاد، ومفهوم الدولة ومؤسسة الحكم.

قوضت حركة التحديث الاستقلال الذاتي الذي تمتعت به مؤسسات المجتمع التقليدي وأودعت مصادر القوة والسلطة بكاملها في يد الدولة. سيطرت الدولة على عملية التقنين والتقاضي، وأصبحت هي -لا الدين- مصدر الشرعية، كما سيطرت على التعليم ومناهجه، على الاقتصاد وسياساته، وعملت على الإطاحة بكل التنظيمات الاجتماعية التي لا تستند شرعيتها إلى مرجعية الدولة ذاتها.

أدت سيطرة الدولة على الوقف وبروز قوى اجتماعية جديدة من كتاب وصحفيين ومهنيين، فضلا عن فقدان العلماء دورهم في مؤسستي القضاء والتعليم الحديثين، إلى إضعاف طبقة العلماء وتهميش نفوذها في المجتمع.

خلال الخمسينات والستينات عندما كانت السيطرة في حقلي علم الاجتماع والسياسة لنظرية التنمية والنظرية الماركسية، ساد الاعتقاد بأن حركة التحديث قد حققت الانتصار على المجتمع التقليدي، وأنها بالضرورة حركة تقدمية، وأنها تسير بقوة دفع حتمية لا تقاوم. بل إن سياسات الكتلتين الشرقية والغربية، كما سياسات دولة ما بعد الاستعمار المباشر في المجال العربي الإسلامي، بنيت جميعا على أساس الإسراع بعجلة عملية التحديث باعتبارها أداة التنمية والتقدم الرئيسية.


أعاد النظام العراقي في لحظة ضعفه وحصاره بعد 1991 الاعتبار للقبيلة والقيم العشائرية التي شن عليها حربا أيدولوجية شعواء منذ عقود، بعدما أصبحت حاجة المجتمع العراقي ماسة لمواجهة مخاطر الخارج والحصار

بيد أننا ندرك اليوم أن الكثير من الفرضيات التي دارت حول موضوعي التحديث والتنمية لم تكن صحيحة. لقد فشلت حركة التحديث في تحقيق نصر حاسم وشامل على القوى التقليدية في المجتمع العربي الإسلامي، ليس فقط لإمكانات المقاومة التي لا تنفذ والتي تختزنها هذه القوى، بل أيضا للارتباط الوثيق بين هذه القوى والقيم الناظمة لحياة الناس.

ما حدث بالفعل كان انقسام الحياة والروح بين مجالين متداخلين، متقاطعين أحيانا، ومتخاصمين، مفترقين في أحيان أخرى: المجال الحديث والمجال التقليدي. يسيطر رجال الدولة الحديثة ويتحكمون في العديد من جوانب الحياة اليومية، ولكن الناس يقصدون العلماء فقط لتبين واجباتهم الدينية، وحلال معاشهم من حرامه.

ورغم ضعف مؤسسة العلماء وتراجعها فقد استطاع عالم إيراني تقليدي إلى حد كبير أن يجمع الجماهير حوله وأن يشعل ثورة جماهيرية طويلة، أدت في النهاية إلى الإطاحة بواحد من أقوى الأنظمة الحديثة في العالم الإسلامي وأكثرها رسوخا.

وبينما يتلقى العرب والمسلمون تعليما رسميا حديثا، فإن الكثير من الأسر تضيف إلى تعليم أبنائها الرسمي تعليما إسلاميا مسجديا. ويقدم المجال القانوني مثالا صارخا على أزمة المشروع التحديثي والانقسام المجتمعي الذي نجم عنه.

فمفردات القانون المركزي الحديث غير مفهومة لغير المتخصصين، كما أن سلطة القانون رغم أنها معززة بسلطة الدولة، تفتقد إلى الوازع الذاتي. ويعيش أغلب العرب والمسلمين حياتهم في صراع دائم بين القيم التي يحملها القانون الحديث والقيم التي يتلقونها في المنزل والمسجد.

لم يكن المشروع التحديثي في لحظة انطلاقته مطلبا شعبيا، ولا كان نتاج تطورات اجتماعية واقتصادية داخلية، بل كان في جوهره مشروع رد فعل حاولت الدولة العثمانية المتأخرة من خلاله تعديل ميزان القوى الذي أخذ في الاختلال لصالح القوى الأوروبية الإمبريالية.

ومنذ لحظة انطلاقه ارتبط المشروع التحديثي ارتباطا وثيقا بالدولة حتى أصبح مبرر وجودها، بغض النظر عن حقيقة تمثيل هذه الدولة لشعبها وتعبيرها عنه. ولذا، فما إن تضعف سطوة الدولة أو تتراخى حتى تبرز القوى التقليدية بفاعلية أكبر وتحتل كل ما يتاح لها من المواقع التي سلبها سابقا المشروع التحديثي.

ليس هناك من شك في أن الدولة العراقية الحديثة -سواء الدولة الملكية أو الجمهورية- واصلت السياسات التحديثية للدولة العثمانية المتأخرة، وأنها وجهت ضربات مؤلمة للعشائر ولمؤسستي العلماء السنة والشيعة، كما لقوى المجتمع التقليدي الأخرى.

ولكننا نرى النظام العراقي في لحظة ضعفه وحصاره بعد 1991 يعيد الاعتبار للقبيلة وللقيم العشائرية التي كان قد شن عليها حربا أيدولوجية شعواء منذ عقود، بعدما أصبحت حاجة المجتمع العراقي ماسة لمواجهة مخاطر الخارج والحصار.

وبالمثل أعاد النظام الاعتبار للخطاب الإسلامي وفتح المجال وإن بحذر أمام العلماء والقوى الإسلامية. أما لحظة انهيار النظام ذاتها فكانت أبلغ دلالة على هذه العلاقة المعقدة بين الحديث والتقليدي.

ترجع الهشاشة التي تتسم بها القوى الحديثة -بما في ذلك مؤسسة الدولة- إلى طبيعة العلاقة التي تربط هذه القوى بالمجتمع ككل، وإلى نظرة عموم الناس لهذه القوى.

يقع النظام المركزي في قلب المشروع التحديثي، وتتجلى الطبيعة المركزية في نزوع للسيطرة والتحكم واحتكار القوة، وفي استهلاك هائل للثروة.


قلة بين الشعب العراقي كانت على استعداد للموت دفاعا عن الدولة، ولكن ما إن عاد العراق مسؤولية العراقيين بكل جماعاتهم وقواهم حتى انطلق العراقيون للدفاع عن استقلال بلادهم

يصطدم هذا النزوع للسيطرة والتحكم، والتكاليف الباهظة لمؤسسات المشروع الحداثي، بمساحة من التوتر والاغتراب تفصل بين المجتمع وجماعاته من ناحية والمؤسسات والقيم الحداثية من ناحية أخرى. بمعنى أن المجتمعات العربية الإسلامية وجدت دائما -وما زالت- من الصعوبة بمكان تسويغ الإنفاق الكبير للثروة الوطنية على دولة ومؤسسات لا تتحدث لغتها، ولا تسعى إلا للسيطرة على مقدراتها والتحكم في مصيرها وإعادة توليد هذه السيطرة والتحكم.

وما يزيد من هذه الحالة تفاقما فشل الدولة الحديثة والمؤسسات والقوى الحديثة الأخرى، التي ولدت باستلهام نظيرتها الغربية وعلى صورتها، في مواجهة تحديات الخارج، سواء تحديات السيطرة والاعتداء أو تحديات الاقتصاد والتنمية.

إن هشاشة القوى الحديثة بكلمة أخرى، هي هشاشة نابعة من عجز هذه القوى عن اكتساب ولاء الناس وبناء علاقة من التماهي بين هذه القوى والجماعات الأهلية، التماهي الذي يؤسس لوعي جمعي بالمصير الواحد.

إن قلة بين الشعب العراقي -إن وجدت على الإطلاق- كانت على استعداد للموت دفاعا عن الدولة ومؤسساتها، عن وزارة للعدل لم تحرس العدالة، أو عن مسرح وطني لم يكن انعكاسا حقيقيا للوطن. ولكن ما إن عاد العراق مسؤولية العراقيين بكل جماعاتهم وقواهم، حتى انطلق العراقيون للدفاع عن استقلال بلادهم.

ليس العراق حالة فريدة، بل هو على الأرجح حالة نموذجية لأزمة عربية إسلامية بدأت في الترسب منذ نهايات القرن التاسع عشر. وقد بات من الضروري الاعتراف بحالة الانقسام التي تعاني منها المجتمعات العربية الإسلامية، وبأن كثيرا من التطورات التي شهدتها هذه المجتمعات لا يمكن العودة عنها.

ما يستدعيه هذا الوضع هو اعتراف متبادل بين الحديث والتقليدي، ومصالحة حقيقية تطال كل مناحي الاجتماع ومواقع القوة أو إطالة الانقسام والصراع الداخليين والشلل.
__________
كاتب فلسطيني

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.