الموقف الروسي من احتلال العراق.. عام من التغيير


undefined
بقلم/ عاطف معتمد عبد الحميد

– المنافع والمضار
– الأبعاد الجيوسياسية
– هل من علاقة عربية روسية؟

في كتابه "عود على بدء" يصنف الجغرافي الروسي غومولييف العقلية العربية بأنها واحدة من أكثر العقليات براغماتية عبر العصور. وقد صاغ غومولييف فكرته على فرضية ترى في الانتشار السريع للإسلام خروجا من المأزق التاريخي الذي عاشته شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام وسعيا للانعتاق من قيد الصحراء ووطأة الحتم البيئي.

وقد ساعد كثير من الأحداث المعاصرة في الارتقاء بفكرة غومولييف وما شابهها إلى مصاف المسلمات. فعلاقة أهم الدول العربية بالاتحاد السوفياتي خلال الحرب الباردة وجد فيها الكثيرون في موسكو علاقة استغلالية أكثر منها علاقة استراتيجية.

ورغم انشغال الشعب الروسي بمفاجأة انهيار الاتحاد السوفياتي في مطلع تسعينيات القرن العشرين، إلا أنه تابع بدهشة الشعار العربي إبان احتلال العراق للكويت المنادي بالتحالف مع "الشيطان" من أجل تحقيق المصلحة.

ثم تأكدت الفكرة حينما جسدت خريطة الغزو الأنجلو-أميركي للعراق في مارس/آذار2003 خروج القوات الغازية من قلب دول الجوار العربي وسط زيف شعارات الوحدة العربية، وزاد الطين بلة تناول صحف عربية لمعلومات -نقلتها عن صحف أميركية- تفيد بوجود قوات إسرائيلية في شرقي الأردن تكمل طريقها إلى غربي العراق لتساند القوات الأميركية في السيطرة على قاعدتي H2 وH3 التابعتين للجيش العراقي.

ورغم كل هذا، تابع عديد من القوى اليسارية واليمينية في روسيا الغزو الأميركي للعراق بدرجة متعاطفة مع تمني النصر للعراقيين، وخرجت المظاهرات في كبريات المدن الروسية وفي أهم جامعاتها، كما تكاتفت عشرات الآلاف من مسلمي روسيا يهتفون في مظاهرات ساخنة انتهت إحداها بإعلان الجهاد وفتح باب التطوع لقتال الأميركيين في أرض الرافدين.

ومع توتر الوضع الداخلي لإعلان الجهاد كتبت إيرينا بتروفسكيا في صحيفة إزفيستيا "كفى ديماغوجية.. هذه ليست حربنا". وكتب إلى جانبها خبراء آخرون محذرين بأنه "من الغباء تمني هزيمة قوة عالمية كالولايات المتحدة على يد جيش حوله الحصار إلى أساليب حروب الإبل وتكتيكات لورنس العرب".


كان خروج الروس من العراق رسالة قرأ فيها التحالف في العراق أن موسكو لا تملك سوى النقد والدعوة لتسليم السلطة للعراقيين دون أن تكون مستعدة
لدفع ثمن

المنافع والمضار
رغم توقعات الخبراء الروس بعيد سقوط بغداد باقتراب السيطرة الأميركية على النفط العراقي، فإن موسكو لاتزال تستفيد من الارتفاع المفاجئ في أسعار النفط الراجع في جزء منه إلى الوضع في العراق، وهو ما يحقق الانتعاشة التي تحتاجها الخطط الاقتصادية الروسية ورفع الرواتب والمعاشات بنحو 20 إلى 25 % وسداد المتأخر منها.

وبلا شك فإن المقاومة التي تجري في العراق تصب في كفة الاقتصاد الروسي، فهذه المقاومة تعطل الخطط الأميركية الهادفة إلى إنهاء الحرب وإقرار الأمن والسيطرة على النفط وسبل تصديره وفي النهاية خفض أسعاره إلى أقل من 20 دولارا للبرميل.

ولكن يجب ألا ينسينا هذا أن روسيا فقدت مزايا عدة إثر الغزو الأميركي للعراق، كان أهمها خسائر نحو عشر شركات نفطية على رأسها تاتنفت وسيبنفت وزاروبيغ نفت ولوك أويل. وعملت الشركتان الأخيرتان في جنوبي العراق في حقول يزيد إجمالي احتياطيها على 14 بليون برميل، وبعقود قيمتها نحو ستة مليارات دولار.

وكانت شركة لوك أويل -أكبر شريك روسي في هذا المجال- دخلت العراق في عام 1997 وهي على بينة من أن حكومة الرئيس العراقي المخلوع صدام حسين لن تعمر طويلا ولكن هدفها كان "موطئ" قدم. غير أن واشنطن أدرجتها قبيل سقوط بغداد في إبريل/نيسان 2003 على اللائحة السوداء التي تحرم فيها من الاستثمار في حقول النفط العراقية شركات الدول التي عارضت الحرب.

ومن زاوية أخرى تعطلت الشراكة الاقتصادية مع العراق بعد أن كانت موسكو وقعت بالفعل مع بغداد قبل الغزو عقودا قيمتها 40 مليار دولار لإتمام أكثر من مائة مشروع بأيد روسية. كما كانت روسيا المصدر الأول للمعدات الصناعية والزراعية الثقيلة، ومصدر توريد وتشغيل محطات توليد الطاقة في مواقع عراقية مختلفة مازال بعض الفنيين الروس يعملون في ثلاثة منها في المسيب وبغداد والناصرية.

هذا بالإضافة إلى دعم الجيش العراقي بالسلاح، ذلك السلاح الذي صار قبيل إسقاط تمثال صدام مادة صحفية غنية توقع معها صحفيون غربيون أن ينهي المعركة في اللحظات المناسبة حين تخرج التقنية الروسية الكيميائية والبيولوجية لدحر العدو على "أسوار بغداد".

وقد استندت روسيا على علاقة الصداقة مع الشعب العراقي فأبقت على نحو 800 من خبرائها في العراق للعمل في قطاعات النفط والطاقة، ولم تضطر إلى إجلائهم إلا بعد فوضى اختطاف الرهائن والهجوم العشوائي على الخبراء الأجانب، فخسرت عشرات الشركات أموالا تقدر بعدة مليارات من الدولارات.

غير أن الخاسر من خروج الروس ليست الشركات الروسية فقط بل الاحتلال الأميركي أيضا، الذي كان الدور الروسي في الإعمار يؤدي له خدمة أساسية في الإسراع بإقرار الأمن ومتطلبات الحياة لإتمام المشروع الأميركي، وهو ما قد يدفع واشنطن إلى حث موسكو على إعادة شركاتها وخبرائها مرة أخرى إلى العراق.

وبصورة غير مباشرة كان خروج الروس من العراق رسالة قرأ فيها تحالف قوات الاحتلال في العراق أن موسكو لا تملك سوى النقد والدعوة لتسليم السلطة للعراقيين وإقامة حياة ديمقراطية دون أن تكون مستعدة لدفع ثمن، ولو بمقتل ثلاثة من خبرائها وجرح آخرين.


تحالف موسكو وبرلين وباريس يحقق فضيلة الضغط الأدبي على لندن وواشنطن، ويوصل رسالة إلى الملايين في العالم بأن ما يجري في العراق ليس مشروعا عالميا

الأبعاد الجيوسياسية
قبل عام من الآن كال مفكرون وخبراء روس الاتهامات لإدارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على موقفها السلبي تجاه الولايات المتحدة لغزوها العراق واتهام الكرملين بالرهان على الفرس الخاسر.

تغيرت الصورة الآن ومن حق الكرملين أن يشعر بمزيد من الثقة وهو يراجع معالم خريطة الطريق الذي اختار أن يسير فيه، وأبرز هذه المعالم:

1. أن التحالف الجديد الذي تشكله موسكو مع برلين وباريس لخلق محور رفض في القارة الأوروبية ضد الهيمنة الأميركية وإن لم يشكل بعد نتائج على الأرض فإنه يحقق فضيلة الضغط الأدبي على لندن وواشنطن وتوصيل رسالة إلى الملايين في العالم بأن ما يجري في العراق ليس مشروعا "عالميا".

كما أن هذا المحور –رغم انتقاد جماعات حقوق الإنسان في فرنسا وألمانيا لخطيئة بوتين في الشيشان– يستند على أسس اقتصادية تصدر بموجبها روسيا النفط والغاز وتحصل في المقابل على التقنية الحديثة والأموال اللازمة للنهضة الاقتصادية.

2. أن الاتفاق الروسي الفرنسي برفض دور للناتو في العراق لا يعني نجاحا في رفض الهيمنة الأميركية على العراق فحسب، بل استغلالا للظرف التاريخي المتاح حاليا لوقف المشروع الأميركي الساعي لوصل حلقات القواعد العسكرية من إنجرليك في تركيا إلى معسكر الدوحة في الكويت فقواعد قطر والبحرين والإمارات وعمان وصولا إلى قاعدة لي موني باراكس في جيبوتي (وغير بعيدة قاعدة ديغو غارسيا جنوب شرقي خليج عمان، وثلاث حاملات للطائرات أمام سواحل سوريا ولبنان وفلسطين المحتلة).

3. أن روسيا وإن أبدت قلقا وانزعاجا مما يحدث في العراق لا شك يسعدها هذا التورط الأميركي ودرس العراق القاسي، ويحدوها الأمل في أن يؤدي فشل واشنطن في العراق إلى انكماش طموحاتها الإمبريالية عقدا أو عقدين، وهي الفترة التي تحتاجها روسيا لتقف على قدميها وتستعيد نفوذها الدولي بقدرة تنافسية لا تعرقلها انشغالات ترتيب البيت الروسي من الداخل.

4. الاندماج مع المنظمات الكبرى التي يمكن لموسكو أن تصنع من خلالها –أو تراقب على الأقل- القرارات التي تحقق مصالحها. ولديها لكل منظمة ملف ومنهج خاص، فهي تتعامل مع الناتو بحذر وترقب بينما تتعامل مع مجموعة دول الثماني الصناعية بآمال عريضة للشراكة، وفي كلتا المنظمتين تستفيد من مشاريع محاربة الإرهاب وتلميع صورتها دوليا.

5. أن الطلب الأميركي بإشراك قوات روسية في العراق بعد الثلاثين من يونيو/حزيران 2004 ليس هناك ما يضطر موسكو لقبوله، حتى لو كانت الأهداف دعم الديمقراطية ومساعدة الشرطة العراقية ومراقبة مناطق التوتر. وهناك من حجج الرفض الكثير سواء على المستوى الرسمي أو السري، فالسنوات المتبقية لإدارة الرئيس فلاديمير بوتين في الكرملين لن تسمح بمغامرة جديدة بعد إجهاد مغامرة الشيشان الدامية، ولن تشفع الصداقة التي تحتفظ بها روسيا مع الشعب العراقي في الحيلولة دون صدور بعض الفتاوى عن جهات إسلامية في العراق تقول إن "قتلة إخواننا في الشيشان قد جاؤوا إلينا بأرجلهم".

الورقة التي يمكن أن تقوم بها موسكو هي إسقاط الجزء الأكبر من ديونها على العراق دلالة على دعم العراق الجديد دون التورط فيه، وقد لمح إلى ذلك الرئيس الروسي حينما طلب منه ذلك في العام الماضي بالقول "هكذا هي الحياة: أناس يطلقون النار، وأناس ينهبون، وأناس يدفعون الثمن". في إشارة إلى الأميركيين، ولصوص بغداد، والروس، على التوالي.

هل من علاقة عربية روسية؟


العلاقات الروسية العربية تمر الآن بأسوأ فتراتها نتيجة أحادية التوجه العربي نحو القطب الأميركي والاستخفاف بالدور الروسي اعتقادا بأن ما تعيشه روسيا نهاية للتاريخ وليس كبوة أو انتكاسة

بعيد الغزو العراقي للكويت وحرب عاصفة الصحراء وضع الدبلوماسي المخضرم يفغيني بريماكوف كتابه المهم "حرب كان يمكن تجنبها"، وفي أعقاب الغزو الأميركي للعراق كتب عشرات المقالات أكد فيها أن هذه الحرب كان من الممكن أيضا تجنبها. ما لم تقله عناوين الكتب والمقالات وحوته بطونها هو "إذا سمح لروسيا بنزع فتيلها". وبينما يبدو مفهوما لماذا لم تسمح القوى الغربية، لم يكن مفهوما بدرجة كاملة لماذا لم تسمح الدول العربية؟

يدفعنا هذا لأن نذكر بأن العلاقات الروسية العربية تمر الآن بأسوأ فتراتها، ومن الخطورة السكوت عن ركود ناجم عن عدم ثقة وضعف في التنسيق، وهو أمر راجع إلى مشكلتين مترابطتين، تتمثل الأولى في أحادية التوجه العربي نحو القطب الأميركي، والثانية في الاستخفاف العربي بالدور الروسي اعتقادا بأن ما تعيشه روسيا نهاية للتاريخ وليس كبوة أو انتكاسة.

وخلال العقد الأخير، وفي ى كل مرة يزور فيها ملك أو رئيس عربي موسكو، تخرج مقالات في الصحف المحلية تؤكد أن "زيارة السيد الرئيس تفتح أبوابا جديدة لتنويع العلاقات الدولية وتضع حدا لوضع كل البيض في السلة الأميركية"، غير أن شيئا من ذلك لا يتحقق ولا يحدث تنويعا في سلال البيض إلا في ساعات عدة هي زمن الزيارة.

يمكننا أن نقارن في الحيز الجغرافي الذي نعيش فيه مستوى علاقتنا بروسيا بدولتين تقيمان علاقة نموذجية مع روسيا وهما إيران وإسرائيل. ولأن الحالة الإسرائيلية متشابكة بوجود نحو مليون مواطن من أصول سوفياتية على أرض فلسطين المحتلة، فإن الاستشهاد بالنموذج الإيراني مفيد للغاية في تدبر سبل تنويع العلاقات.

وحينما نراجع العلاقة الإيرانية-الروسية سنجد تقديرات لا يمكن حسابها إحصائيا، كالثقة الكبيرة الممنوحة للنظام الإيراني في روسيا بدرجة لم يحظ بها أي نظام عربي منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، حتى ذلك الشريك الكبير (العراق) والصديق الذي لم يتغير (سوريا).

لا عيب في أن نعترف بأننا نعاني من إدراك مشوش في متابعة الموقف الروسي من أزمات الشرق الأوسط، غير أن علينا أن ننتبه إلى أن روسيا -التي عاشت عقودا طويلة في إستاتيكية رتيبة- قد أحدثت تغييرا مذهلا في علاقاتها الدولية، وعلينا أن نحقق تغييرا موازيا قد يصل بنا إلى كسر الاحتكار الأميركي لمستقبل العراق. والسؤال هو: من المقصود بنحن؟!
ــــــــــــــــــ
باحث مصري في الشؤون الروسية

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.