الوهم الشعبوي.. وصعود أقصى اليمين في أوروبا

كامبردج بوك ريفيوز
أحدثت الانتخابات الرئاسية الفرنسية التي وصل فيها أقصى اليمين إلى الدور الثاني صدمة سياسية ليس في فرنسا فحسب بل في أوروبا كلها، كون القارة عرضة خلال السنوات الأخيرة لصعود ملحوظ للتيارات الشعبوية.. ويتخوف الجميع من مصير الديمقراطية في ظل النفوذ المتنامي للتيار الشعبوي عموما وأقصى اليمين خصوصا.. ولفهم هذه الحمى السياسية التي يطبعها اللاتسامح والتشدد السياسي صدرت بعض الكتب في فرنسا حول التيارات الشعبوية وأقصى اليمين، وأبرزها كتاب بيار-أندري تاغياف الفيلسوف والمؤرخ الفرنسي وأستاذ الأفكار السياسية والذي يعمل مديرا للبحث في المركز الوطني للبحث العلمي بباريس وأستاذا في معهد الدراسات السياسية في باريس.


undefined-اسم الكتاب: الوهم الشعبوي
–المؤلف: بيار-أندري تاغياف
-عدد الصفحات: 182
-الطبعة: الأولى 2002
الناشر: بارغ انترناسيونال – باريس

في كتابه هذا حول "الوهم الشعبوي" يقدم تاغياف نظرة تحليلية لظاهرة الشعبوية في أوروبا وإن كان اعتماد المؤلف على ما كتبه سلفا (خاصة في التسعينيات) جعل الكتاب لا يتحدث أساسا عن الراهن وهذا ما يفسر صدوره في بداية صيف 2002 أي بأسابيع قليلة بعد الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية الفرنسية.

يقول المؤلف في مقدمة كتابه إن حصول جون ماري لوبان (مرشح أقصى اليمين) على ما يقارب 17% (مقابل ما يقارب 20% لجاك شيراك) من الأصوات في الدور الأول من الانتخابات الرئاسية الفرنسية التي أهلته لخوض الدور الثاني أثارت مخاوف شرعية لدى المتمسكين بالديمقراطية ودولة القانون والرافضين لكل سياسة مبنية على أسس تمييزية. ويقول إن المفردات السياسية والإعلامية لوصف ما حدث تعبر عن مدى الصدمة التي أحدثتها هذه الانتخابات التي وصفت بالزلزال.

ويلاحظ أن أقصى اليمين هذا الذي يفترض أنه تجاوز الزمن أظهر قدرته على كيفية التأقلم مع بعض الخصوصيات الآنية والتحديث خاصة عبر استرجاع انتقادات "اليسار الجديد" للعولمة واستخدام وضع "الضحية" إعلاميا وتحاشي الإشارة صراحة إلى المرجعيات الفاشية أو النازية أو لكتاب فرنسيين معروفة مواقفهم الإيديولوجية خاصة المعادية للسامية. ويقول إن الثقل الإنتخابي لأقصى اليمين ازداد قوة بين الدورين، حيث ارتفع من 4805307 أصوات في الدور الأول (لمرشحي أقصى اليمين لوبان وميغري) إلى 5525906 أصوات في الدور الثاني. ويلاحظ هنا أن أقصى اليمين يبدوا أكثر تعبوية حيث نجح في تعبئة الناخبين من الفئات الشعبية التي كانت تصوت تقليديا لليسار وفي منافسة أقصى اليسار الجديد.

يتساءل المؤلف عن "تطرف شعبوي؟" ويقول إنها لمفارقة في هذا الالتقاء بين "الرجعي والشعبي، التسلطي والاحتجاجي". ملاحظاً أن "الشعب" يحتل مكانة مركزية في خطاب أقصى اليمين واليسار، إذ يعتبر الشعب في هذا الخطاب ضحية النظام القائم ونخبه.. ويعد هذا التعارض بين الشعب والنخب إحدى سمات التصويت المناوئ للنظام القائم -أي التصويت لصالح تشكيلات سياسية ترفض النظام القائم-.


إن وسائل الإعلام كما لاحظ ذلك العديد من علماء الاجتماع والمختصين في العلوم السياسية حلت محل "الأحزاب السياسية كآلية اختيار الطبقة السياسية ووسائل تعبئة الرأي العام أو تحديد الأجندة السياسية

يقول الكاتب إن بعض التسميات التي تنعت بها الشعبوية مثل "التشدد" و"التطرف" و"اللاتسامح" و"رفض الآخر" لا تعني معرفة الظاهرة كما أن الرفض ليس طريقة للفهم ولا نمط عمل سياسي. ويرى أن اللجوء لمفردات كـ "الفاشية" و"عودة الفاشية" يعتبر إشارة إلى مراحل تاريخية من تاريخ فرنسا وإلى ذكريات أليمة. ويعتبر أن استخدام مثل هذه المفردات أو رفع شعارات من قبيل "ضد الفاشية" تسمح بتجنب التساؤلات وتجعل من غير المعروف أمرا معروفا حتى يقتصد عناء الجهد الفكري. وبالتالي ينتقد المؤلف من يرون في الظاهرة الشعبوية مجرد عودة لأيديولوجية قديمة لأن ذلك يطمئن الناس قائلا إنه إذا كان الأمر يتعلق بـ"عودة"، فإن ذلك لا يعني إلا بقايا للماضي مما يجعل الناس لا تخاف ولا تفقد الأمل على أساس أن الماضي محكوم عليه بأن يبقى ماضيا.

في رأيه النتيجة غير المنتظرة للديماغوجي القومي الأكثر شهرة في فرنسا -يقصد لوبان- فرض النقاش حول مسألة ظهور أحزاب مناوئة للنظام في العديد من الدول الأوروبية منذ الثمانينيات والتي دخلت الفضاء السياسي المهيكل وفق انقسامات أيديولوجية ثنائية القطبية، يسار/ يمين، وعماليون/ محافظون، وليبراليون/ محافظون، واشتراكيون ديمقراطيون/ ليبراليون.. ويلاحظ أن "هذه الأحزاب المناوئة للنظام، ذات الخطاب، المركز على الدفاع عن الهوية الوطنية الذي يمزج معاداة الأجانب، المناوئة للمهاجرين ورفض أوروبا والعولمة المترجمة بطريقة تآمرية وبالتالي غالبا على نمط معاد للسامية يمكن ملاحظتها اليوم في النمسا وإيطاليا وبلجيكا (مقاطعة الفلامند)، وسويسرا والدانمارك والنرويج وهولندا والبرتغال والمجر ورومانيا وبشكل ما في ألمانيا أما بريطانيا وإسبانيا فهما الوحيدتان اللتان لم تدركهما (هذه الظاهرة) حتى الآن بطريقة سياسية واضحة".


اعتبرت الناصرية نوعا من الشعبوية ميزتها توجهها الإصلاحي "الاشتراكية العربية" وأكد البعض التشابه بين الكاسترية والبيرونية…والبعض الأخر رأى في القذافي زعامة ملهمة لـ "الاشتراكية-الشعبوية"، ونفس الشيء قيل عن باتريس لومومبا في الكونغو البلجيكي سابقا

أما العولمة فتعتبر من قبل هذه الأحزاب "متوحشة" لأنها تسرع من عمليات "التدمير/ الهيكلة" مسببة بذلك البطالة. هكذا أصبحت العولمة في القاموس السياسي لهذه الأحزاب "العالمية" وهذه الأخيرة "تعبير سحري" لترجمة معيار "الأفضلية الوطنية" وهو من صنع الفرنسي لوبان وقلدته في ذلك الحركات المسماة بـ"القومية-الشعبوية" في أوروبا؛ "فرنسا أولا"، وألمانيا أولاً" (الجمهوريون في ألمانيا)، و"شعبنا -الفلامند- أولا" (في بلجيكا الفلامندية).

يقول الكاتب إن هناك صعوبة في التحكم في المصطلحات إلى درجة الخلط بين "الشعبوية"، "القومية-الشعبوية" و"القومية"، بل حتى واستخدام هذه المفردات أحيانا كمترادفات. ويرى أن جوهر مفردة "الشعبوية" هو "الشعب"، وبالتالي فالنداء الموجه للشعب يعبر عن شكل عادي من الديماغوجية؛ بمعنى مخاطبة "الجانب العاطفي والمخيالي للإنسان وليس قدراته الفكرية". في رأيه أن الأدبيات الفرنسية لاسيما في التسعينيات أظهرت خلطا وعجزا في تحديد مفهوم الشعبوية مما زاد المصطلح غرابة. ويلاحظ وجود إجماع بين النخب السياسية، المثقفة والإعلامية على إدانة الشعبوية بوصفها ظاهرة مرضية وشرا محدقا بأوروبا.

في رأيه هناك أشكال من الشعبوية وكل شكل محدد بإطار وطني وبزمن تاريخي. وقد يوجد في البلد الواحد تيارات شعبوية مختلفة وربما متصارعة. ففي إيطاليا مثلا تعتبر الحركة العرقية-الإقليمية التي يتزعمها أومبرتو بوسي والعملية التي وصل بها سيلفيو برلسكوني إلى الحكم عقب انتخابات مايو/ أيار 2001 (بعد مرحلة 1994) ظاهرة شعبوية. وفي حال برلسكوني يقول المؤلف إن الأمر يتعلق بشعبوية تلفازية أو إعلامية. إذ يتحدث عن "البرلسكونية" كحالة ديماغوجية (متكيفة مع المجتمع الإعلامي) وكأيديولوجية (قيام يمين ليبرالي جديد).

ويرى أنه خلال التسعينيات برز كل من برنار تابي (رجل أعمال فرنسي شهير كان رئيسا لنادي مرسيليا لكرة القدم ووزيرا لأشهر معدودة في عهد ميتران في مطلع التسعينيات ودخل السجن في ما بعد بسبب قضية رشوة تورط فيها نادي مرسيليا) ولوبان في فرنسا، وهايدر في النمسا، وبوسي وبرليسكوني في إيطاليا وروس بيرو في الولايات المتحدة.

وفي إطار هذه الشعبوية المتعددة الوجوه والاتجاهات يقول الكاتب إن وسائل الإعلام كما لاحظ ذلك العديد من علماء الاجتماع والمتخصصين في العلوم السياسية حلت محل "الأحزاب السياسية كآلية اختيار الطبقة السياسية ووسائل تعبئة الرأي العام أو تحديد الأجندة السياسية". وهنا يتحدث عن "الشعبوية الجديدة الإعلامية" في إيطاليا في التسعينيات.


جوهر مفردة "الشعبوية" هو "الشعب"، وبالتالي فالنداء الموجه للشعب يعبر عن شكل عادي من الديماغوجية بمعنى مخاطبة "الجانب العاطفي والمخيالي للإنسان وليس قدراته الفكرية"

لدى تطرقه للاستخدام الجدالي لمفردة الشعبوية يعود المؤلف بالقارئ إلى منتصف القرن العشرين، إذ يقول إنه في الخمسينيات اعتبرت المكارثية في الولايات المتحدة من قبل اليسار المثقف الأميركي كـ"شعبوية"، وإن بعض الكتاب الذين انتقدوا المكارثية رأوا فيها امتداداً للتقاليد الشعبوية التي سمحت بوجود شعبوية كلو كلوكس كلان في العشرينيات من القرن الماضي. وخلال الحركة البوجادية -نسبة إلى بيار بوجاد- في فرنسا في 1953-1956 اعتقد البعض أن الأمر يتعلق بظهور حركة تندرج ضمن الحركات التقليدية المناوئة للبرلمانية والحركات الاحتجاجية بتوجهاتها المعادية للأجانب والمعادية للسامية. وفي نهاية الستينيات ومطلع السبعينيات ظهرت مع الباولية -نسبة إلى إنوش باول- في بريطانيا حركة شعبوية، قومية، معادية للأجانب وخاصة مناوئة للمهاجرين. شهدت دول أوروبية نفس الظاهرة في الأربعينيات وفي العقود الأخيرة من القرن الماضي.

في سياق الحديث عن الشعبوية التاريخية خلال القرن الماضي يتحدث المؤلف عن الشعبوية في العالم الثالث حيث بدأ بنماذج أميركا اللاتينية وعلى رأسها البيرونية (نسبة إلى خوان دومينغو بيرون) في الأرجنتين معتبرا بيرون من القادة الديماغوجين الذين يقودون الجماهير التسلطية ومن الأيديولوجيين القوميين. ثم يتحدث عن نظام غيتوليو فرغاس في البرازيل. ويلاحظ أنه في حال "الشعبوية-القومية" في أميركا اللاتينية "التوجه للشعب قد ينقلب إلى دكتاتورية تمارس على الشعب وضده".

ثم ينتقل إلى مناطق أخرى من العالم الثالث ليقول إنه خلال الستينيات والسبعينيات اعتبر العديد من القادة كـ"شعبويين" أو "قوميين-شعبويين" وذلك على أساس خطابهم أكثر منه على أساس "طريقة ممارستهم السلطة أو نمط شرعنة هذه السلطة".. ويضيف أن الناصرية اعتبرت نوعا من الشعبوية ميزتها توجهها الإصلاحي ("الاشتراكية العربية"). وأن البعض أكد على الشبه بين الكاسترية والبيرونية.. والبعض الأخر رأى في القذافي زعامة ملهمة لـ"الاشتراكية-الشعبوية"، ونفس الشيء قيل عن باتريس لومومبا في الكونغو البلجيكي سابقا.

ويرى المؤلف أن مفردة "الشعبوية" عرفت موجة جديدة في الثمانينيات والتسعينيات ملاحظا أنها كانت أساساُ تستخدم لوصف أقصى اليمين في أوروبا الغربية وبعض تيارات اليمين المحافظ في بريطانيا التاتشيرية أو "الثورة المحافظة" في الولايات المتحدة وحركة لوبان في فرنسا ثم هايدر في النمسا بداية من عام 1986.. لكن مع نهاية الثمانينيات امتد المصطلح لروسيا لما كانت الإمبراطورية السوفياتية على وشك الانهيار واستمر الأمر بعد تولي بوريس يلتسين السلطة حيث ندد البعض بشعبويته، كما ندد البعض الأخر بشعبوية الحزب النيوفاشي أو الفاشي التوجه الذي يتزعمه جيرونفسكي.


إن هناك صعوبة في التحكم في المصطلحات إلى درجة الخلط بين "الشعبوية"، "القومية-الشعبوية" و"القومية"، بل حتى واستخدام هذه المفردات أحياناً كمترادفات

ويرى الكاتب أنه لا يمكن القول إن مفردات "الشعبوية"، و"القومية-الشعبوية"، و"القومية المتشددة" و"الفاشية الجيدة" في روسيا تغطي نفس الحقائق الاجتماعية-السياسية -مقارنة مع أوروبا الغربية- ويرى أن هذا يظهر مدى الاستخدام الجدالي لمفهوم الشعبوية. ويضيف أنه بخصوص روسيا غالبا ما استخدمت -في فرنسا- الشعبوية والقومية كمرادفين، مما جعل الكاتب يتحدث عن "طفو اصطلاحي" أو "حيرة اصطلاحية". ولفهم الواقع الروسي يقترح التمييز بين نوعين من الشعبوية. أولها "الشعبوية-الخطابية "أو المنمقة التي تتميز بالديماغوجية والنداء المتملق باتجاه الشعب والتنديد بقوى الشر.. ويتميز صاحب مثل هذه الشعبوية بفصاحة اللسان واللغة المنمقة وبقوة جاذبة وإغراء، ثانيها "الشعبوية-التقليد" والتي تعبر عن أحد الاتجاهات أو المكونات الأساسية للثقافة السياسية الروسية منذ النصف الثاني من القرن 19.

ويقول المؤلف إن جيرونفسكي لا علاقة له بالشعبوية الروسية التقليدية بل يقترب في سلوكياته من الشعبوية الخطابية.. أما يلتسين الذي يبدي قابلية للديماغوجية مما قد يجعله يدرك أنه شعبوي-خطابي يمكن أيضا أن نعتبره زعيما يندرج ضمن التقليد الشعبوي الروسي المزين بغربنة (من الغرب).

يعد هذا الكتاب محاولة جادة لتحليل ظاهرة الشعبوية في أوروبا على وجه الخصوص، وبالتحديد لمناقشة مفهوم الشعبوية الذي ينطبق عليه القول القائل بأن المفردات الأكثر شهرة واستعمالاً هي الأكثر غموضاً. وقد نجح المؤلف في تفكيك المفهوم لتبسيطه وشرحه وتبيان تنوعاته وجوانبه من خلال مقاربة معرفية شاملة لم تكتف بأوروبا فحسب بل تعدتها لمختلف مناطق العالم. لكن ربما ما يعاب على هذا الكتاب هو التشتت في تعريف مفهوم الشعبوية عبر صفحات الكتاب وحتى حين يعود المؤلف إلى تعريف هذا المفهوم في خاتمة النص فإن الصورة لا تتضح كما كان منتظرا للقارئ بل إن بعض الجوانب الرئيسية في تحديد هذا المفهوم والتي وردت في ثنايا النص لم يشر إليها في الختام لتقديم تعريف شامل ودقيق قدر الإمكان.


تعتبر العولمة عند الأحزاب الشعبوية "متوحشة" لأنها تسرع من عمليات "التدمير/الهيكلة" مسببة بذلك البطالة

ما يعاب أيضا على الكتاب هو جنوح صاحبه نحو التقليل من خطر الشعبوية على الديمقراطية في أوروبا منتقدا كل من يحذر من هذا الخطر الزاحف بدعوى أنه يتعين دراسة هذه الظاهرة وفهمها. لكن دراستها واستيعابها لا يبرران التقليل من شأنها خاصة أنها تهدد أسس المجتمعات الديمقراطية الغربية من حيث إنها تفرق بين الأوروبيين الأصليين والأوروبيين من أصل أجنبي.

وما يثير الانتباه في هذا النص هو تجنب المؤلف وصف تيارات أقصى اليمين الشعبوية بالعنصرية والاكتفاء أساسا بعبارات مثل معادية للأجانب والمهاجرين، طبعا التنديد بعنصريتها لا ينفع البحث في شيء لكن فهم أسس أيديولوجيتها العنصرية مسألة مهمة للغاية وقد أشار الكاتب بطريقة سريعة جدا إلى طبيعة عنصريتها والتي تتخذ في بعض الأحيان بعدا ثقافيا وليس عرقيا.

المصدر : غير معروف