المسيح المسلم

خدمة كمبردج بوك ريفيوز
هذا الكتاب يمتاز بميزتين، الأولى أنه فريد في نوعه ومضمونه, والثانية أنه يحمل رسالة بالغة الأهمية موجهة إلى القارئ الغربي. فموضوع الكتاب هو صورة السيد المسيح في التراث العربي الإسلامي, ومنهجه هو حصر الأدبيات والأقوال والقصص التي وردت في كتابات المؤرخين والأدباء والشعراء العرب والمسلمين عن السيد المسيح.

undefinedاسم الكتاب: المسيح المسلم.
المؤلف: طريف الخالدي.
عدد الصفحات:
245
الطبعة: الأولى – 2001م
الناشر: مطبعة جامعة هارفارد- الولايات المتحدة الأميركية.

وتتمثل أهمية مثل هذا الكتاب في أنه يهشم إحدى الصور النمطية في المخيلة الغربية عن الإسلام ونظرته إلى المسيحية, وهي نظرة لا أصل لها, خاصة عند غالبية الناس العاديين. فهذه النظرة تفترض عداء مستحكما بين الإسلام والمسيحية, وبالتالي وجود نظرة عداء تجاه السيد المسيح بين المسلمين.

الغريب أنه مقابل هذا العداء المفترض بين المسيحية والإسلام, بين محمد وعيسى, هناك افتراض تقارب وعلاقة تكاملية بين اليهودية والمسيحية أثمرت ما صار يطلق عليه البعض "التقاليد أو الحضارة المسيحية اليهودية المشتركة", وذلك في سياق جهد محموم, لا تبتعد عنه السياسة ومرتبط بالمسيحية المتصهينة في الولايات المتحدة, لتخفيف وطأة "عقدة الذنب" التاريخية والعداء الكبير بين المسيحية واليهودية جراء ما يحمله المسيحيون من مشاعر ضد اليهود كونهم "قتلوا المسيح" بحسب رواياتهم.

وفي مقابل "الغفران" الذي تصكه أدبيات المسيحية المتصهينة لليهود على تلك "الجريمة" والتقارب المفتعل بين الديانتين هناك توكيد لعلاقة العداء المتوهم بين الإسلام والمسيحية تنسحب على طبيعة النظرة العدائية لنبي الإسلام محمد, وتفترض أن نظرة مشابهة لها موجودة عند المسلمين تجاه السيد المسيح. فلا تدرك غالبية مسيحيي العالم, وفي مقدمتهم مسيحيو الغرب, أن المسلمين يعتبرون المسيح نبيا من أنبيائهم, ويوقرونه كما يوقرون محمدا, وأنهم يصلون عليه كلما ذكر ويردون عليه السلام، وأنه لا يجوز بحسب قيم الإسلام إلا أن يمحض المسيح وسائر الأنبياء الاحترام والطاعة والتقدير, فضلا عن أن يجول بخاطر المسلمين أن يعادوا أحد الأنبياء ويتطاولوا عليه كما يتم التطاول على محمد مثلا في الأدبيات الغربية المسيحية.


النظرة العدائية هي في الواقع باتجاه واحد من قبل الغربيين تجاه نبي الإسلام.. لأن النظرة التي بالاتجاه المعاكس أي من قبل المسلمين إزاء السيد المسيح هي نظرة تبجيل لنبي مرسل

وعلى ذلك فإن النظرة العدائية هي في الواقع باتجاه واحد، من قبل الغربيين تجاه نبي الإسلام, لأن النظرة التي بالاتجاه المعاكس, أي من قبل المسلمين إزاء السيد المسيح هي نظرة تبجيل لنبي مرسل. وهذا ما يظهره كتاب طريف الخالدي, بروفيسور التاريخ الإسلامي في كنغز كوليج بجامعة كامبردج, "المسيح المسلم", ببراعة وهو يطوف في أدبيات وكتابات المسلمين عن المسيح كنبي موقر ينظر له بعين الحب والاتباع. ويذكر الخالدي أن أول اهتمام بالمرويات العربية والإسلامية عن المسيح كان من قبل المستشرق الإنجليزي ديفد مارغليوث الذي جمع 77 أثرا حول الموضوع ونشرها عام 1896. ثم تلاه في ذلك المستشرق الإسباني ميغول آسبن بالاكيوز الذي جمع 225 أثرا ونشرها عام 1919. على أن تلك الجهود لم تتضمن بالطبع ما تم التعرف عليه من كتابات تاريخية وأدبية وكشوفات لمخطوطات عديدة في العقود الأخيرة, وهي بكل الأحوال لم تكن محاولات شاملة وموسوعية.

ورغم أن اعتبار السيد المسيح نبيا في الإسلام وأن توقيره واحترامه هو واجب ديني على المسلمين يعتبر من المسلمات المعروفة فإنه أقرب إلى وقع "الصاعقة المعرفية" على أسماع الجمهور الأوسع في الغرب. ومقارعة التنميط السلبي تجاه المسلمين ونظرتهم وقضاياهم في أوساط الغربيين هو مشروع طويل الأمد وفيه مجهودات عظيمة ومقدرة لأكاديميين وناشطين ومثقفين عرب ومسلمين في الغرب. ومن ضمن هذه المجهودات تأتي سلسلة النشر التي نشر من ضمنها هذا الكتاب, وهي سلسلة بعنوان "تقاربات: اختراعات الحاضر" التي يشرف على تحريرها إدوارد سعيد وتنشرها دار نشر هارفارد.

يعتبرالخالدي أن القصص والحكايات والمرويات عن السيد المسيح المنشورة بين القرنين الثاني والثاني عشر للهجرة الإسلامية, والتي تربو على المئات, تعتبر أكبر وأهم كتلة كتابات كتبت عن المسيح في أي أدبيات غير مسيحية. وهو يسمي هذه الكتلة بـ"مسلم غوسبل" أو "الإنجيل الإسلامي". وهذه الأدبيات تنقل صورة عن المسيح غير معروفة خارج إطار الثقافة العربية الإسلامية, رغم أنها انتقلت مع المسلمين إلى كل البقاع التي وصلوها كالأندلس والهند والصين وغيرها. وتتنوع الكتابات والإشارات المكتوبة عن المسيح, فمنها القصير الذي لا يتعدى جملا قصيرة, ومنها المرويات الطويلة التي تصل إلى عدة صفحات وعدة مئات من الكلمات.

ويرصد الخالدي أهم الصور الغربية الكلاسيكية عن "المسيح المسلم" كما هو في القرآن والسنة النبوية, وكيف رأى وحلل علماء اللاهوت الغربيون موقع المسيح في القرآن. وهو يرى أن تلك الصور حاولت أن ترجع الرؤية القرآنية الموقرة للمسيح إلى تأثرها بروايات الأسفار الأربعة عشر المشكوك في صحتها والتي تلحق أحيانا بالعهد القديم وأحيانا يتم استبعادها "الأبوكريفا". وأنه لم يكن بوسع كثير من علماء اللاهوت الغربيين أن يستوعبوا أو يعترفوا بالصورة الإيجابية للمسيح في الإسلام. وفي حال كان يتعذر عزو تلك الرؤية إلى جذور مسيحية أو "رصد" المؤثرات المسيحية في تكوين تلك الرؤية فقد كان أولئك العلماء يفسرون إيجابية تلك الصور بأنها تعود إلى "الخيال الشرقي الخصب" كما يقول الخالدي! وكان أن اعتبر البعض منهم أن رفض القرآن لفكرة ألوهية المسيح وصلبه لن يؤدي إلى أي مصالحة تاريخية بين الديانتين وبالتالي فإنه لا مغزى للصورة الإيجابية عن المسيح في القرآن. ويقول الخالدي إن هذه النظرة وما تفرع عنها سيطر على الأدبيات المسيحية حتى وقت قريب, وتحديدا إلى النصف الأول من القرن العشرين حين بدأت هذه النظرة تتعرض إلى ما يهدم أساساتها.

ويحلل الخالدي العوامل التي أدت إلى تغير هذه النظرة ويرى أن أولها هو بزوغ فرع في العلوم مهتم بدراسة الفولكلور والأساطير والمرويات القديمة بروحية منفتحة وموضوعية. وفي ضوء هذا الفرع الجديد ظهرت قراءات غربية حديثة لصورة المسيح في القرآن انفكت من إسار النظرة القديمة.

وثاني هذه العوامل اكتشاف "مكتبة" ناغ حمادي في السودان سنة 1945 الغنية بالكتب والمخطوطات القديمة حول المسيحية الشرقية, التي تعتبر الساحة الخلفية الأقرب للإسلام, وموقع المسيح في الكتابات الإسلامية.

وثالث هذه العوامل إعادة كتابة العهد الجديد بدقة أكبر وتمحيص غير مسبوق استنادا إلى الاكتشافات المتعددة ذات العلاقة بالعاملين المذكورين سابقا. وقد أدى ظهور نسخة مدققة من العهد الجديد إلى تطوير فهم أشمل بشأن حركة الدين المسيحي في القرنين الرابع والخامس الميلادي, قاد بالتالي إلى اعتبار صورة المسيح في القرآن على أنها كانت تنقل صورة حية عن المسيحية وغير متخيلة كما كان يزعم أصحاب النظرة التقليدية حول وضع المسيح في القرآن.

أما العامل الرابع وراء تغير تلك النظرة فقد تمثل في تطور مناهج "تحليل النص" التي تنظر في بنية النص نفسه وتحلله بناء على منطقه الداخلي والعلاقات البينية لتراتبية المعنى فيه, وليس اعتمادا على التركيز حول أثر الأدبيات الأخرى عليه. أي أن النص القرآني صار يدرس ككتلة مستقلة وذات منطق خاص بها, وليس كنتاج لمؤثرات مسيحية أو بيئية وتاريخية محيطه به كما دأب أصحاب النظرة الأولى على التحليل.

لكن السؤال الذي يبرز هنا هو هل هناك خصوصية بارزة لتعامل النص القرآني, ومن ثم الأدبيات العربية الإسلامية, مع السيد المسيح تمنحه موقعا متميزا عن الأنبياء الآخرين الوارد قصصهم في القرآن؟ والجواب هو نعم ولا في الوقت نفسه. ففي حين أن بعض القصص الخاص بأنبياء آخرين يأخذ مساحة أكبر, أو أن ذكر بعض الأنبياء يتردد بشكل أكثر من السيد المسيح, من ناحية التكرار أو عدد المرات فإن ثمة خصوصية معينة للمسيح تتمثل في أنه كان آخر الأنبياء قبل النبي محمد, وأنه وصف في القرآن بأنه "روح الله" و"كلمة الله" كما أنه "ابن مريم" الذي لا أب له. لكن النص القرآني شديد التركيز على أن عيسى ابن مريم إن هو إلا بشر كغيره من العباد وأنه ليس إلها ولا يدعي الألوهية. كما أن هناك رفضا موازيا لعقيدة التثليث المسيحية, وتوكيد بارز على مبدأ الألوهية الواحدية- الله الواحد الأحد الذي لا شريك له. وهذا التركيز الشديد هو الذي يثير وأثار حفيظة العديد من علماء اللاهوت المسيحيين في قرائتهم للقرآن. ومن هنا فإن المسيح "القرآني" وافق من ناحية المسيح "الإنجيلي" حيث صورته طافحة بالحب والألفة والتوقير, لكن في الوقت نفسه خالفه من ناحية رفض قصة الصلب التي يقول الإنجيل بأنها حدثت, كما والأهم من ذلك التوكيد على بشرية السيد المسيح وعدم ألوهيته.


يرصد الخالدي أكثر من 300 نص عربي وإسلامي مختلف نقرأ فيها أحاديث منسوبة إلى السيد المسيح تنقل لنا عظمة حكمته وروحه الشفافة ونقرأ قصصا عن رأفته بالناس ونبوته وتضحياته وكلها تؤكد على بشريته انسجاما مع الرؤية القرآنية والإسلامية

وبشكل عام يتناول النص القرآني قصص المسيح عبر أربعة أشكال أو مراحل، قصص مرحلة ولادة المسيح وما رافقها, وقصص المعجزات الخاصة به كإحياء الموتى وشفاء المرضى, وقصص الحوارات التي دارت بينه وبين الله, ثم الآيات الكثيرة التي توكد على بشريته وعبوديته لله. أما النصوص الورادة عن المسيح في الكتابات العربية والإسلامية التي يرصدها الخالدي فعددها 303, تتنوع في حجمها ونوعها وتواريخها, لكنها في مجملها مثيرة وتقدم معرفة رائدة وفريدة من نوعها، فيها نقرأ أحاديث منسوبة إلى السيد المسيح تنقل لنا عظمة حكمته وروحه الشفافة, ونقرأ قصصا عن رأفته بالناس ونبوته وتضحياته, وكلها تؤكد على بشريته انسجاما مع الرؤية القرآنية والإسلامية له.

وبشرية المسيح نراها في كل القصص التي أوردها الخالدي, فمن الآثار الأولى التي ينقلها حيث المسيح يرتعد من ذكر الساعة ويوم القيامة كأي إنسان آخر (عن كتاب الزهد لابن المبارك– ص 54), وإلى آخر ما ينقله عن كتاب مرتضى الحسيني "إتحاف الصدى المتقن" عن رجل يسأل المسيح لماذا لم يبن لنفسه بيتا، فيجيبه أبني بيتا في طريق الطوفان؟" (ص 218) والسيد المسيح يتبدى لنا عبدا لله, وليس بإله, وهي السمة الأبرز والأهم لـ"المسيح المسلم".

المصدر : غير معروف