شعار قسم مدونات

في انتظار المهدي المنتظر!

دمرت قوات الاحتلال زهاء ألف مسجد كليا وجزئيا منذ اندلاع الحرب على قطاع غزة في أكتوبر من العام الماضي-رائد موسى-رفح-الجزيرة نت
دمرت قوات الاحتلال زهاء ألف مسجد كليا وجزئيا منذ اندلاع الحرب على قطاع غزة (الجزيرة)

كيف نتكلم عن الأحداث الراهنة وكل العبارات التي يمكن أن تؤتى كاتبا لا يمكن لها أن تصف حالة المأساة المخيمة على جزء من العالم.. يحترق ببطء. بل إن الانسان هذه الأيام أمام عجزه السحيق وقعر وهنه وحضيض ضعفه ووهن نقصه وإفلاس قدرته، لا تنازعه رغبة جادة في الهروب من المشهد، ويزيد من خطبه ذاك، فيبدد كل إمكانية تواجد هذا المشهد أمامه حتى الخمول والنسيان. ليس لأنه ذا ضمير أجوف فارغ، أو أنه بليد المشاعر بارد الدم، مشلول روح. لا بل العكس تماما، لا نقرأه السوء.

وحسبي أن أوضح أن الهروب من الشيء هو في الواقع إما يعني احتمال هزيمة الانسان قبالته أو خوفه من بشاعته، وفي هذا الوضع الذي نحن إزاءه يرجح اجتماع العلتين في حجر النتيجة. وإنما نقول هي فطرة الانسان السوية وحبه للخير ورابطة الأخوة وحرقة الشرف، هو ما جعله ينأ بعينيه عن سوء المشاهد وبشاعة الوقائع. وينضاف إلى ذلك عقله المستنير بالوعي القابع في محجره، عجز أن يفهم هذا الخطل المريب وهذا الجنون المخيف.

ويستقر كل ذلك مع تصديقه لحتمية انهزامه وقلة حيلته، وهذا الوضع إنما هو باختصار شديد القديم المتجدد الذي لا يبرح يظهر لنا بين الفترة والأخرى، على أنه هذه المرة فاحش التعبير. ثم ماذا بعد؟

الواقع أن العربي يعيش منذ دهر ذهول مغيبا وحالة من الدهشة البالغة، تلطمه الحيرة ولكن سرعان ما يستسلم مع الموجة الجارفة ويسترخي لشعور الهدهدة المغبطة، بينما تبقى ثنائية وجودية تلازمه كقدر مشؤوم.

لعلنا نشعر بشيء ولو قليل، أن خطأ ما يطرأ على صورة التي نحن إزائها والتي نحن بدورنا ننتمي اليها نشغر جزءا منها، ولابد من ذلك. إذ كما نعلم فإن وراء كل نتيجة أو حدث في الوجود علّة وسبب محدد، ولذلك عندما يحدث إشكال أو خلل ما، فمن الطبيعي أن نتساءل بموضوعية وحيادية تامة عن ماهية المسؤول الذي أدى إلى هذا الاثر الحاصل.

وإن كان يعنينا نحن العرب أن ينقشع ضباب الجهل والغفلة عن شمس طريقنا، فلابد من أن نشك ونتساءل وأن نغوص حتى قعر السؤال الى أعماقه وأن نبحث في جوف ظلمته حتى نمسك بجمرة النار التي أحرقتنا وتسببت في تقرح وهننا وعجزنا، أو أن نكون ملزمين دائما وأبدا موقع المفعول به المغمس في الوهن والسكوت والخضوع وليس الفاعل الماسك زمام أموره، الحر في إرادته وتقرير مصيره بنفسه.

والواقع أن العربي يعيش منذ دهر ذهول مغيبا وحالة من الدهشة البالغة، تلطمه الحيرة ولكن سرعان ما يستسلم مع الموجة الجارفة ويسترخي لشعور الهدهدة المغبطة، بينما تبقى ثنائية وجودية تلازمه كقدر مشؤوم.

هو الحاصل على أعلى الشهادات الجامعية في جل العلوم والصناعات وهو ما لم يكن إنسان الحضارة اليوم لينعم به أمس في بداية خطواته، بينما هو متخلف آخر الركب، هو قد حظي بعد الانتفاضات الثائرة في بعض البلدان ببركة الديمقراطية بينما هو في مؤخرة الأمم تقدما، هو الأغنى ثروات وموارد طبيعية ولكنّه الأعظم هوانا وخضوعا وذلا وأحيانا هو الأفقر على الإطلاق. ثلوث التقدم والوصفة الجاهزة ماذا ينقصها؟

يجد العربي نفسه اليوم في عصر الركود العام، عصر من سماته الغرق في التفاهة والسطحية والبلادة الفكرية وجفاء العقل النقدي ونزعة الفردانية التي تقدم المصلحة الشخصية فوق كل اعتبارات جماعية مشتركة

كعقد اللؤلؤ الفريد متناثرة حباته تائهين في أصقاع العالم أربعين سنة لا تنقضي، وماذا بعد؟ يستفيق على ارتطام العارض الضخم من السلب والنهب والثروات المستباحة والاستغلال الفاحش والقهر اللاّمحدود، لكنه سرعان ما يلهيه الأمل ويستسلم لخدر الأمر الواقعي ويركب الموجة كالعادة ويغشيه بريق الحداثة والانفتاح والانسان العالمي وتكنولوجيا الحديثة وصولا إلى الترند ونزعات المؤقتة والموضة السريعة.

هذا الكيان المتشرذم الواهن الذي يتآكل حقبة وراء حقبة جيلا بعد جيل لولا تاريخ غابر ضاربا في القدم بقي يلوح رمزا، أو كالنجم البعيد صعب المنال في ليلة كالحة السواد. تلك الطفرة الاستثنائية التي صنعها قوما من ملتنا، مسلمين يتكلمون العربية واستوطنوا ذات زمان الرقعة الجغرافية نفسها التي نشغرها اليوم من الخارطة.

ومن زاوية ثانية يجد العربي نفسه اليوم في عصر الركود العام، عصر من سماته الغرق في التفاهة والسطحية والبلادة الفكرية وجفاء العقل النقدي ونزعة الفردانية التي تقدم المصلحة الشخصية فوق كل اعتبارات جماعية مشتركة، وينتشر كل ذلك في كامل أصقاع العالم بمعدلات متفاوتة. وحينما بدأ يلمح أمس بوادر أنوار الوعي تشع وتسطع ولمس علامات تفتح مختلف العلوم والثقافة والفكر، بدءا بإجبارية التعليم والانعتاق من الجهل وصولا إلى تشييد الجامعات وإتاحة البحث العلمي وفشو القلم، وهو ما اكتسبناه بأَمر ما يفتك به الحق وما تنال به القيمة وهو دماء الشهداء الأبرار الأفذاذ، سرعان ما انخرطنا في بوتقة المنظومة الفكرية السائدة واستسلمنا لخدرها.

ولو أسقطنا العقل والمنطق لعلمنا أن ليس كل الأمم سواء أمام هذا الإنجراف الإنساني الخطير الذي يكتسح العالم نظرا للتفاوت السحيق في متانة الأساس وثبات الأعمدة ومدى استحمال قاعدة المجتمعات والأنظمة لمغبة البوار الفكري وغياب التوجه العام نحو القضايا الراهنة ومشروع النهضة. والبنيان الذي أسس على شفا جوف هار مصيره الانهيار لا محالة.

هكذا هو العربي وهو ينتظر ذلك المخلص الفذ الذي سينقذه من سقطته التي لا مثيل لها كما استقر في اللاوعي الجمعي العربي. شخصية بطولية أشبه بأبطال الزمن الغابر أمثال الملك الناصر صلاح الدين الأيوبي، وسيف الله المسلول خالد ابن الوليد، وهارون الرشيد.

فماذا ننتظر؟

إن محور العبثية التي يدور حوله العربي يشبه كثيرا، إذا ما أردنا مماثلة واصفة له، حالة "فلاديمير" و"إستراجون" في المسرحية الفرنسية "في انتظار غودو".

هكذا هو العربي وهو ينتظر ذلك المخلص الفذ الذي سينقذه من سقطته التي لا مثيل لها كما استقر في اللاوعي الجمعي العربي. شخصية بطولية أشبه بأبطال الزمن الغابر أمثال الملك الناصر صلاح الدين الأيوبي، وسيف الله المسلول خالد ابن الوليد، وهارون الرشيد. بطلا بكل مقاييسه الاستثنائية الواعدة النبيلة الذي سيقلب موازين القوى ويحدث نقلة نوعية في القيادة السياسية والعسكرية والاستراتيجيات الدولية ويطرح نظريات جديد في الديمقراطية وأساليب الحكم الأكثر ملائم للمناخ العربي وخارطة للتقدم ويصلح المشاكل الاقتصادية والبيئية. ولكن "غودو" لم يأتي في الأخير.

إن مسؤوليتنا ثقيلة ونحن بمنأى عنها وإن دورنا في هذه اللحظة التاريخية مصيري، ونحن غافلين عنه وإن السؤال بحر ونحن تائهين فيه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.