ما بعد اغتيال فقها.. دلالات الموقف وجسامة التحديات

وزارة الداخلية بغزة تكشف تفاصيل اغتيال مازن فقها

فك الشيفرة
دلالات وعبر
إستراتيجية جديدة 

تكشف السرعة النسبية في كشف بعض منفذي عملية اغتيال القائد في كتائب القسام مازن فقها -ومن ثمّ إعدامهم- عن قدرة أمنية واستخبارية واضحة لدى حركة حماس، وفي الوقت ذاته تفتح الباب على مصراعيه أمام فهم أوسع لطبيعة الإستراتيجية الأمنية الإسرائيلية الجديدة في مواجهة الحركة داخل قطاع غزة، ومستقبل الصراع الأمني والاستخباري بين الطرفين.

فك الشيفرة
ما إن فُجعت حماس باغتيال قائدها العسكري فقها -المشرف على أنشطتها العسكرية بالضفة الغربية– في أحد أحياء مدينة غزة (24 مارس/ آذار الماضي)، حتى أعلنت حالة الطوارئ في صفوف كافة أجهزتها الأمنية والاستخبارية والعسكرية، للعمل على حل اللغز وفك الشيفرة المعقدة التي أصابتها في مقتل، وبعقر دارها وموطن قوتها ونفوذها السياسي والأمني والعسكري.

أصيبت حماس بالصدمة والذهول في بداية المطاف، وأدركت أنها أمام اختبار عسير لاستعادة هيبتها التي تضررت كثيرا بسبب عملية الاغتيال، التي تعتبر إحدى أهم وأكبر الضربات الإسرائيلية التي تلقتها منذ تأسيسها عام 1987.

ناقشت حماس الأمر بجدية بالغة في أروقتها القيادية الداخلية، وخلصت إلى وجود تصدعات مهمة في منظومتها الأمنية الداخلية، فشكلت لجنة أمنية عليا لمتابعة القضية وحل لغز تفاصيلها في أسرع وقت ممكن.

مع الإعلان عن انتهاء التحقيق وإماطة اللثام عن حقيقة المنفذين بعد 45 يوما من الحادثة، تمخض المشهد عن سيناريو الاغتيال الذي نشرته وزارة الداخلية بغزة، ويتحدث عن كشف شبكة من العملاء مكونة من 10 أشخاص قاموا بتنفيذ العملية بشكل غير مترابط، أي بتحريك رأسي من ضباط المخابرات الإسرائيلية دون أن يعرف بعضهم بعضا

واجهت اللجنة في بداية عملها صعوبات جمة تتعلق بالفقر المعلوماتي وانتشار الشائعات التي سرت سريان النار في الهشيم، لكنها حافظت على روح الصبر والمثابرة، وبدأت في تلمّس بعض الخيوط الضعيفة التي سرعان ما بدت أشد وضوحا مع مرور الأيام.

وبعد مضيّ شهر تقريبا على حادثة الاغتيال بدت الصورة أكثر وضوحا، إذ تم اعتقال عدد من المشتبه فيهم الذين أخضعوا للتحقيق، مما أسفر عن كشف الكثير من الحلقات الغامضة والمفقودة في سياق عملية الاغتيال.

ومع الإعلان عن انتهاء التحقيق وإماطة اللثام عن حقيقة المنفذين بعد 45 يوما من الحادثة، تمخض المشهد عن سيناريو الاغتيال الذي نشرته وزارة الداخلية بغزة، ويتحدث عن كشف شبكة من العملاء مكونة من 10 أشخاص قاموا بتنفيذ العملية بشكل غير مترابط، أي بتحريك رأسي من ضباط المخابرات الإسرائيلية دون أن يعرف بعضهم بعضا.

ومن دون شك؛ فإن السرعة النسبية في كشف حيثيات وملابسات عملية الاغتيال، وإغلاق ملفها بإعدام بعض منفذيها، بقدر ما تشكّل إنجازا أمنيا لحركة حماس يسهم في ردّ الاعتبار وتخفيف حدة الألم الناجم عن شدة الضربة الإسرائيلية، فإن ذلك يبقى منقوصا وغير مكتمل الأركان.

فقد تمكنت أجهزة حماس الأمنية من اعتقال ثلاثة من المنفذين وإعدامهم، إلا أنها عجزت عن اعتقال الآخرين، ومن بينهم المشرف الرئيسي على عملية الاغتيال الذي تمكن من الهرب في أعقاب تنفيذ العملية عبر الحدود الشرقية لقطاع غزة.

وتشي عملية الهروب بتقصير وإهمال أمني كبير، إذ ارتدى هذا العميل لباس عناصر الضبط الميداني لحماس الذين ينتشرون على طول حدود القطاع، واستقل دراجة نارية وتجاوز إحدى نقاط الضبط الميداني شرق غزة دون أن يوقفه أحد.

خلاصة الأمر، أننا إزاء عملية أمنية واستخبارية كبيرة تولتها حماس، وأسهمت في فك الشيفرة وإزالة الطلاسم والغموض حول عملية اغتيال فقها، إلا أنها لم تبلغ الدرجة الناجزة أو تحقق النجاح التام.

دلالات وعبر
تحمل السرعة النسبية في كشف حيثيات وملابسات اغتيال فقها العديد من الدلالات والعبر الأمنية والسياسية، في إطار الصراع المحتدم مع الاحتلال.

تشير الدلالة الأولى إلى تطور لافت وملحوظ في الأداء والقدرات الأمنية والاستخبارية لحركة حماس خلال الفترة الأخيرة.

فرغم الحصار الجغرافي والسياسي الذي حرم حماس من فرصة اكتساب المهارات والخبرات والتقنيات الرفيعة في المجالين: الأمني والاستخباري، فإنها تمكنت -بجهود ذاتية- من تطوير قدراتها ومراكمة خبراتها بشكل تدريجي.

وحاولت مواكبة تطور الأساليب والوسائل الأمنية والاستخبارية الإسرائيلية قدر الإمكان، والوقوف حجر عثرة أمام أي اختراقات ذات بال لساحة غزة التي بذلت حماس قصارى جهدها لصناعة نموذج آمن ومستقر على أرضها، بعيدا عن يد العبث والاستباحة الإسرائيلية.

واجهت حماس صعوبات جمة في سبيل بناء جهاز أمني واستخباري مؤهل، وقادر على مواجهة التحديات التي تعصف بالحركة من كل الاتجاهات، إذ لم تتوفر لديها الخبرات العميقة التي تكفل النهوض بالعمل الأمني والاستخباري في ظل بيئة أمنية معقدة يناوشها الاحتلال، ضربا واختراقا صباح مساء.

في بيئة أمنية معقدة كبيئة غزة، وفي وسط بشري وسكاني متزاحم ومتلاصق، لا يمكن التعويل على نجاحات أمنية إسرائيلية كاملة رغم دقة وطول أمد التخطيط للعملية، بل إن الإهمال والتقصير في اتخاذ الاحتياطات الأمنية اللازمة لحماية الشهيد فقها منح الاحتلال جواز سفر مجانيا لتنفيذ عملية اغتيال نوعية، هي الأشد والأقسى على حركة حماس

فوق ذلك، عجزت الحركة عن إيفاد بعثات أمنية تدريبية إلى حلفائها في الخارج لاكتساب العلوم والخبرات الأمنية الدولية، وذلك نتيجة الحصار المحكم المفروض على القطاع.

لذا، لم تجد الحركة بُدّا من الاعتماد على عناصر قواها الذاتية، وتطوير أدائها عبر التجارب والاستفادة من الأخطاء. وبكثير من المثابرة والإصرار تشكَّل لدى حماس رصيد جيد من القدرات والخبرات الأمنية القادرة على التعامل مع التحديات الأمنية الإسرائيلية بشكل أو بآخر.

أما الدلالة الثانية التي يحملها الكشف عن المنفذين؛ فتؤكد ندرة بلوغ العمليات الأمنية درجة الإتقان الكامل والإحكام التام، فقد حاولت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية صناعة عملية أمنية نظيفة من الألف إلى الياء بحيث تستعصي على الانكشاف، إلا أن الأقدار أرادت شيئا آخر ونتائج مختلفة.

في بيئة أمنية معقدة كبيئة غزة، وفي وسط بشري وسكاني متزاحم ومتلاصق، لا يمكن التعويل على نجاحات أمنية إسرائيلية كاملة رغم دقة وطول أمد التخطيط للعملية، بل إن الإهمال والتقصير في اتخاذ الاحتياطات الأمنية اللازمة لحماية الشهيد فقها منح الاحتلال جواز سفر مجانيا لتنفيذ عملية اغتيال نوعية، هي الأشد والأقسى على حركة حماس من حيث طبيعتها وبيئة وقوعها والشخصية التي استهدفتها.

وتشير الدلالة الثالثة إلى الخطر الداهم الذي يمثله العملاءُ والمتخابرون مع الاحتلال، والعناصرُ المتشددة التي تنتمي إلى الفكر الإسلامي المتطرف، والانعكاسات السلبية المدمرة التي تتركها على الواقع السياسي والاجتماعي الفلسطيني.

تلك حقيقة بدهية بلا ريب، لكن أجهزة أمن حماس المختصة بملاحقة العملاء والعناصر المتشددة على السواء لم تعمل كما ينبغي عمله، ولم تكن على مستوى التحدي خلال الأشهر القليلة الماضية.

وبينما تراخى أمن حماس في مجال ملاحقة العملاء، فقد باشر حملات أمنية متعاقبة ضد العناصر المتشددة، بيد أن هذه الحملات أغفلت أعدادا لا بأس بها داخل وخارج صف حماس التنظيمي.

ومن بينهم المتهم المباشر باغتيال الشهيد فقها الذي قتل أعدادا كبيرة من عناصر الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية إبان أحداث الانقسام عام 2007 دون حسيب أو رقيب من قادته في كتائب القسام، قبل أن يتم فصله لأسباب أخلاقية وسلوكية، لينضم من بعد إلى إحدى الجماعات المتشددة متخذا إياها غطاء لسلوكه المنحرف، دون أية بادرة محاسبة أو مراجعة كانت.

وحتى اللحظة؛ فإن أمن حماس -الذي فتح أعينه جيدا على العملاء وخطرهم الداهم- ما زال بعيدا عن تطهير صف حماس الداخلي من ذوي الرؤى المتشددة والفكر المنحرف، مما يُبقي المخاوف قائمة إزاء أية أعمال مُخلَّة أو سلوكيات شاذة مستقبلا.

أما العبر المستفادة فتؤكد أولاها أن حماس استوعبت العديد من الدروس والعبر عقب عملية الاغتيال، إذ أعادت صياغة رؤيتها وإجراءاتها الأمنية بما يتناسب مع حجم الخطر الإسرائيلي المتربص، وحاولت سد وتلافي الثغرات التي عانت منها منظومتها الأمنية طيلة الأشهر الماضية.

وما زال أمام أمن حماس العديد من الخطوات والإجراءات والاحتياطات الأمنية الواجب اتباعها لضمان استخلاص كافة العبر، وحماية الجبهة الداخلية لقطاع غزة من يد العبث الأمني الإسرائيلي.

وتتمثل العبرة الثانية في اليقين بأن الفلسطينيين قادرون على التصدي للاحتلال، ومواجهة مخططاته وإجراءاته الأمنية بنوع من الكفاءة والاقتدار.

فلا يخفى أن العمل الأمني والاستخباري الإسرائيلي يحتل مكانة مرموقة على المستوى الإقليمي والدولي، وأن العمليات والضربات الأمنية الإسرائيلية حازت شهرة واسعة في كافة أنحاء العالم، بسبب دقة تخطيطها وسلامة تنفيذها في معظم الأحيان، مما يجعل القدرة على مواجهتها وكشف أسرارها وفك شيفرتها أمرا ذا بال يُعتدّ به في الأوساط الأمنية العريقة.

وتبدو العبرة الأخيرة من أخطر ما يكون، إذ إن عملية اغتيال فقها أرسلت إشارات دقيقة ورسائل واضحة حول مدى صعوبة المرحلة القادمة، وطبيعة المفاجآت التي يمكن أن يحملها الصراع المفتوح مع الاحتلال.

في أروقة الأجهزة الأمنية لحماس باتوا يدركون أن المرحلة القادمة حبلى بالمفاجآت، وأن توسّع وتطوّر التكتيكات الأمنية الإسرائيلية -التي تجلت في اغتيال فقها- له ما بعده، وهو ما دفعهم إلى فتح صفحة أمنية جديدة تطوي ثغرات الإهمال والتقصير القديمة، وتستعد لمواجهة أشكال التحديات الأمنية الإسرائيلية المتوقعة بفهم جديد وروحية جديدة منبثقة من خطورة المرحلة الراهنة.

إستراتيجية جديدة
لا يختلف اثنان في أن عملية اغتيال فقها شكّلت نقطة فارقة في السلوك الأمني الإسرائيلي تجاه حماس بغزة، وأن أهل البصيرة والدراية الأمنية والسياسية يوقنون بأنها تشكل نقطة البداية في إطار مخطط مرسوم يتم تنفيذه بعناية فائقة، للإثخان في حماس وضرب جبهة غزة الداخلية التي غلب عليها الاستقرار الأمني عقب حرب عام 2014.

فمنذ أن وضعت هذه الحرب أوزارها؛ رصدت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية تطورا كبيرا في القدرات العسكرية لحماس، ومع كل يوم يمرّ كانت المؤسستان السياسية والأمنية في إسرائيل تشتعلان بهواجس ومخاوف -لا حصر لها- من طبيعة المعركة القادمة مع حماس، في ظل تطور أدائها وقدراتها العسكرية.

لا يقاس نجاح حماس في مواجهة الإستراتيجية الأمنية الإسرائيلية الجديدة بمدى قدرتها على ضبط العملاء المنفذين وكشف ملابسات الحادثة، إذ لا يضير الإسرائيليين كثيرا التضحية ببعض عملائهم في سبيل تصفية رؤوس عسكرية فلسطينية كبيرة من الوزن الثقيل، بل تقاس بمدى قدرة حماس على منع أي عملية قبل وقوعها

ولطالما أدلى قادة الاحتلال بدلوهم -تحذيرا وتحريضا للمجتمع الدولي- بشأن الاستعدادات والتجهيزات العسكرية لحماس التي تتطوع الحركة في كشف بعضها بشكل مجاني في بعض الأحيان، ولطالما هيمن عليهم القلق العميق جراء المثابرة العالية التي تتمتع بها حماس في مضمار تطوير بنيتها وأدواتها العسكرية، والتي أضفت عليها إسرائيل مبالغات مهولة لأسباب سياسية لا تخفى على أحد.

ترافق ذلك مع محاولات بالغة الجدية لإنعاش واستنهاض العمل العسكري لحماس في الضفة الغربية الذي تضرر كثيرا بسبب الملاحقة الأمنية الإسرائيلية ونظيرتها الفلسطينية، وهو ما بدت تباشيره في بعض الخلايا العسكرية التي تم كشفها في العامين الأخيرين، والتي أثبتت مسؤولية الشهيد مازن فقها في تمويلها والإشراف عليها.

من هنا قررت إسرائيل انتهاج إستراتيجية أمنية جديدة في التعامل مع حماس والحد من تعاظم خطر قوتها العسكرية، دون أن يعني ذلك إسقاط الخيار العسكري المباشر.

وتتمثل الإستراتيجية في اعتماد أسلوب الاغتيالات الغامضة النظيفة لقادة وكوادر عسكريين من حماس يتم انتقاؤهم بعناية بالغة لإجهاض التوجهات العسكرية النشطة لحماس في الضفة كما في حالة الشهيد فقها، والعمل على إشغال حماس عن تطوير قدراتها العسكرية، واستنزاف تفكيرها وجهودها ومقدراتها في ملاحقة منفذي عمليات الاغتيال والكشف عنهم.

ورغم قدرة أجهزة أمن حماس على كشف حيثيات وملابسات عملية اغتيال فقها، فإن التعقيدات التي صاحبت تنفيذ العملية ونمّت عن احترافية أمنية عالية، أربكت حماس وشغلتها وقتا طويلا، ما يشير إلى نجاح إسرائيلي واضح ومزدوج، تمكنت من خلاله إسرائيل من تصفية أحد أخطر أعدائها، في ذات الوقت الذي شغلت فيه حماس ومستوياتها السياسية والأمنية والعسكرية قرابة شهر ونصف شهر.

لا يقاس نجاح حماس في مواجهة الإستراتيجية الأمنية الجديدة بمدى قدرتها على ضبط العملاء المنفذين وكشف ملابسات الحادثة، إذ لا يضير الإسرائيليين كثيرا التضحية ببعض عملائهم في سبيل تصفية رؤوس عسكرية فلسطينية كبيرة من الوزن الثقيل، بل تقاس بمدى قدرة حماس على منع أي عملية قبل وقوعها، وتوقّي كافة المحاولات الإسرائيلية لهزّ وضرب جبهة غزة الداخلية.

ما ينبغي لحماس أن تنتبه له هو أن نجاحها في كشف ملابسات عملية اغتيال فقها قد يسهم في زيادة الحافزية الأمنية الإسرائيلية لتنفيذ عملية أخرى قريبة، لإدخال حماس في دوامة من الانشغالات وإثبات التفوق الأمني الإسرائيلي.

وباختصار، فإن حماس أمام تحديات أمنية متعاظمة خلال المرحلة القادمة لا تمكن معالجتها والتصدي لها بشكل ترقيعي بحت، وما لم ترتقِ إلى مستوى الإستراتيجية الأمنية الإسرائيلية الجديدة وتكبح جماحها الداهم وفق أصول جذرية، فإنها ستخسر كثيرا من الكوادر والخبرات والجهود والأوقات، في لحظة هي أحوج ما تكون فيها إلى كل نَفَسٍ مقاوم وكل قطرة جهد وكل ذرة خبرة، في إطار صراعها المفتوح مع الاحتلال.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.