ربيع 2009.. نوبة تطبيع تكشف عورة مثقفي الحظيرة

افتتاح المؤسسة - مؤسسة فاروق حسني..
صار حلم منصب رئاسة اليونسكو الذي كان يتطلع له فاروق حسني وزير الثقافة المصري السابق جسرًا للتطبيع الثقافي مع دولة الاحتلال الإسرائيلي (مواقع التواصل الاجتماعي)

لو أرادَ كاتب سيرة غيريّة رصد المسار الوظيفي لوزير الثقافة المصري فاروق حسني فلن ينجح، إلا إذا استعان بخبرات لاعب سيرك. لعبة خطرة تتأسس على تدريب ذهني وجسدي شاقّ، قبل استعراض يتطلب مرونة قصوى، وضبطًا بالفيمتو – ثانية للزمن والمسافات، لا مجال لهفوة، تتصرف الأطراف ذاتيًا، ولا تنتظر إشارات؛ فالتفكير ربما يؤدي إلى كارثة تسببها خيارات العقل، هنا يصعد الحدْس، ويقرن الفعل بالقرار، والحركات أكثر دقة وسرعة من زمن تلقّي الأوامر من المخ.

هكذا صعد الشاب السكندري، من مدير قصر الثقافة بالأنفوشي بالإسكندرية، إلى باريس وروما، والقاهرة هدفه، يزورها متوددًا إلى مدير قاعة هنا، ومسؤول هناك، وحلمه أن يدير دار الأوبرا.   

حروب ودهاء

كان توزيره مفاجأة غير سارة، أدهشت غير الرافضين، وصدمت عتاة فاجأهم اختيار شاب من خارج الحظيرة، وسوف يزلُّ لسانه بأنه أدخل المثقفين حظيرة الدولة، يقصد حظيرة الحكومة. تصريح لوزير أقوى من قرار إقالته، أو تغييره كما يتغير الوزراء. وقال له زكريا عزمي رئيس ديوان حسني مبارك، حين اكتشف أنه أكثر الوزراء ذكاء: حنانيك يا فاروق، كان حلمك أن تدير الأوبرا. وصارت دار الأوبرا ضمن مملكة تشمل آثار مصر أيضًا. ومنذ يومه الأول واجه حروبًا بدأت باختياره وزيرًا، قبل تقييم أدائه. وبدهاء ثعلب، وتوازنات سياسي يستثمر خبراته الأوروبية، حالفه النصر. ولم يكن ليخرج من الوزارة إلا بثورة، فكانت 25 يناير/كانون الثاني 2011.  

  ثورة 25 يناير/كانون الثاني طوت مرحلة، وحاولت إدانة رموزها. ولعلّ فاروق حسني، بحسّ استشعاري، تحسّب ليوم كهذا، فادّخر فاتورة لوحة بيعت هنا، وأخرى بيعت هناك. ولم يكن لينقصه، أثناء التحقيق عن مصادر ثروته، إلا المطالبة ببقية مستحقاته، في ضوء أسعار أعماله في سوق الفن التشكيلي.

أي صاحب عقل مرتّب متشكك لا يطمئن إلى أحد، ولو احتفظ بخطابات صحفي مقرّب، قد ينقلب ويكشف أسرارًا، ما يتخيله أسرارًا، سيفاجأ بصحيفة تنشر رسائل شخصية، إحداها عن حاجة الصحفي إلى علاج البواسير. في الحروب، حتى الصغيرة، لا يُسأل عن شرف الوسائل، وطبائع الأسلحة وأنواعها. تسْتفل الأمور، وتصل إلى البواسير، فتزول الأقنعة والألبسة، وتُرفع الرايات البيض. 

احتياطات وقائية تفصيلية استثنائية، حذرٌ دائم توازى مع صلابة فاروق حسني، وتأييده للمثقفين في الرفض المبدئي لمحاولات التطبيع، لولا واقعة 2009. قبل ذلك كان حظر التطبيع مع العدو الصهيوني أولى توصيات المؤتمر السنوي لأدباء مصر، بحضور الوزير. شبهة التطبيع مسٌّ يكهرب المتهم به، أفرادًا ومؤسسات وأنشطة رسمية.

في مهرجان الإسماعيلية الدولي التاسع للأفلام التسجيلية والقصيرة، سبتمبر/أيلول 2005، عرض بالخطأ فيلم يحمل عنوانًا عبريًا، فاعتذر المهرجان موضحًا أنه جاء ضمن شريط بيتاكام به أحد الأفلام المشاركة في المسابقة الرسمية، وهو الفيلم الهندي «بداية جديدة»، إنتاج اليونسكو، «وتؤكد إدارة المهرجان موقفها الدائم والمبدئي الرافض لأي شكل من أشكال التطبيع مع الدولة العبرية».   

إدارة المهرجان أنهت بيانها العاجل بهذه الكلمات: «مرة أخرى نعتذر لكم… وللشاشة التي عرض عليها الشريط»، كأن الفيلم، وعنوان حروفه العبرية، نجسٌ. فماذا تغير في ربيع 2009، لكي يشرف فاروق حسني على حادث تطبيعي مفاجئ؟ الحلم باليونسكو، فتنة دفعت كبار موظفيه إلى ابتذال التسويغ. حشدٌ حماسي أوقع في شراكه بعضًا من رموز مقاومي التطبيع السابقين. واستخدم اسم إدوارد سعيد للتضليل، لولا صلابة أصوات استنكرت هذا الاختراق. الواقعة بطلها الموسيقي الإسرائيلي، المولود في الأرجنتين عام 1942، دانييل بارنبويم صديق إدوارد سعيد، وقد أسسا أوركسترا السلام، لتقديم حفلات حول العالم، منها حفلة «هنا في المغرب»، عام 2003، بمسرح محمد الخامس في الرباط.   

ليس باسمنا

سفارة النمسا، راعية الحفل مع الخارجية الإسبانية، أصدرت بيانًا خلا بالطبع من الإشارة إلى الاحتلال الإسرائيلي، على الرغم من مرور ستة عشر عامًا على اتفاقية أوسلو، ولا يعنيه حصار جيش الاحتلال لياسر عرفات عام 2002. بيان مائع عن انتماء الموسيقي الإسرائيلي بارنبويم إلى «الذين ينادون بحل سلمي لمشكلة الشرق الأوسط».

صيغة «الشرق الأوسط» ماكرة، يمكن أن تشمل مشكلات واحتلالات متعددة، من سبتة ومليلية المغربيتين إلى فلسطين. تجاهل البيان أنها محتلة، هي قضية وليست «مشكلة». ولم يذكر أن عرفات وضع السلاح، وارتضى الحل السلمي، والعدو يحرق أوراق الزيتون وأوراق المعاهدات، وأن بارنبويم إسرائيلي الجنسية، ويرى في تأسيس الدولة الصهيونية عدالة كونية.   

عشية الحفل، الذي أقيم في دار الأوبرا، 16 أبريل/نيسان 2009، قال بارنبويم في مؤتمر صحفي؛ إنه دخل مصر بجواز سفره الإسباني، وحضوره ليس تطبيعًا: «أتيت لأقدم موسيقى»، وأبدى سعادته بجواز سفر منحته له السلطة الفلسطينية. وسبق الحفل تمهيد بمدفعية استمرت عواصفها، وغبارها وأدخنتها، حتى إنهاء حلم الوزير باليونسكو.

ففي يوم 8 أبريل/نيسان كتبت الناقدة فريدة النقاش رئيسة تحرير صحيفة «الأهالي»، لسان حزب التجمع اليساري، مقالًا تحيي فيه فاروق حسني، الذي «أحسن صنعًا حين دعا بارنبويم»، نافية أن يكون حضوره تطبيعًا، «وإنما حرث للأرض من أجل المستقبل»، وعرّفت بارنبويم بأنه «قائد أوركسترا من الأرجنتين… ولأنه من أصل يهودي منحته إسرائيل جنسيتها».   

وفي 11 أبريل/نيسان ، استضاف سمير فريد في عموده اليومي بصحيفة «المصري اليوم» فريدة النقاش «الزميلة العزيزة التي اشتركت معها في لجنة مقاومة التّطبيع، منذ أن كان لهذه المقاومة ثمن غالٍ أيام حكم السادات»، وأعاد نشر فقرات من مقالها. وفي الحفل سيقول بارنبويم؛ إنه تربى وتعلّم في إسرائيل، فأحرج فريدة وغيرها ممن يقولون، مثلها، إنه أرجنتيني، «ولأنه من أصل يهودي منحته إسرائيل جنسيتها».

وفي يوم الحفل نشر سمير فريد مقالًا عنوانه «اليوم يشع الجمال من أصابع دانييل بارنبويم في مصر الحضارة». خمس فقرات، أربع منها تبدأ هكذا: «مصر الحضارة ترحب بدانييل بارنبويم». تعميم غير منطقي، ويسهل الرد عليه بكلمتي: ليس باسمنا.  

عنصرية دينية وعرقية

سمير فريد وصف بارنبويم بأنه «الإنسان النبيل». وفي 20 أبريل/نيسان نشر مقالًا ثالثًا عنوانه «ليلة لا تنسى في الأوبرا: دروس في الجمال والتسامح وتمجيد الحرية». والقارئ يتوقع ما يمكن أن يحمله مقال بهذا العنوان، المهم أن الحفل كان «كامل العدد». والخطورة أنه يورد تعليقًا لمجهول في الحفل، لم يتأثر بالموسيقى والجمال والتسامح والحرية، ففي نهاية الحفل قال بارنبويم؛ إنه يعلم أن في مصر معارضين لزيارته، «وفي هذه اللحظة ارتفع صوت من الصالة قائلًا: فليذهبوا إلى الجحيم»، تعليق خطير لا يقل إرهابًا عما لو قال: «فليذهبوا إلى المحرقة». ولم يتوقف سمير فريد أمام تعليق متعصب، مشحون بكراهية رافضي زيارة بارنبويم.  

وسط التمهيد الاحتفالي المرحِّب، استبَـقت المستشارة تهاني الجبالي، نائبة رئيس المحكمة الدستورية العليا، الحفل بمقال عنوانه «ضمير المثقف بين شابلن وبارنبويم»، بدأته برفض شارلي شابلن، «بضمير المثقف وعظمة الفنان» حَمْل الجنسية الإسرائيلية رقم (1)، وأنه ردّ على تلك الدعوة بمقال اعتبر إنشاء دولة لليهود، بالقوة المسلحة، تسللًا للسمّ العنصري النازي «من جسد الجلاد إلى الضحية، فأصبحت جلادًا بدورها تبحث عن ضحية.. ستكون الشعب الفلسطيني، وأن فكرة جمع اليهود في دولة كهذه، مثل أن يفكر أحد في جمع الكاثوليك في الفاتيكان». وقالت: إن حمل بارنبويم جنسية إسرائيل إنما هو «قبول بانتماء يتعلق بجوهر الصراع الثقافي مع الفكرة الصهيونية» («الأهرام»، 16 أبريل/نيسان).   

إقرار تهاني الجبالي بالامتياز الفني لبارنبويم لم يمنعها من التوجه إليه، وإلى أي مثقف في العالم، بسؤال حاسم: «هل يقبل الانتماء لدولة تقوم على العنصرية الدينية والعرقية أم لا؟ وهل يملك شجاعة محاكمة هذا النموذج للتمييز العنصري كموقف ثقافي وأخلاقي… هل يقبل بضمير المثقف لا بتوازنات السياسة أن ينتمي لجنسية دولة تمثل كيانًا استيطانيًا عنصريًا يقوم على العنصرية الدينية والعرقية وإبادة الآخر؟ أم أنها لحظة مواتية «ربما» لخلع هذه الجنسية البغيضة من بطاقة جنسياته المتعددة؟». فما كان من سمير فريد إلا أن رد عليها، في 21 أبريل/نيسان، بمقال عنوانه «لنضع كل النقاط فوق كل الحروف فيما خص التطبيع والحرب والسلام».

لا أحب تعبيرات خواجاتية مثل: «النقاط فوق الحروف، كرة الثلج»، في بلاد حارّة، شحيحة المطر لا الثلج، وفي لغتها تكثر النقاط تحت الحروف، على عكس الإنجليزية مثلًا. لكن سمير فريد ترك أسئلة القاضية عن العنصرية والتمييز والإبادة، وأبدى دهشته «لمطالبتها بارنبويم التخلي عن جنسيته الإسرائيلية ليثبت أنه يؤيد السلام بحق، فالدعوة إلى السلام تعني حل مشكلة بين طرفين عن غير طريق القوة العسكرية، وليس بإلغاء طرف دون آخر».

تهاني الجبالي لم تطالب بإلغاء إسرائيل، ولم يطالب بذلك أي من المؤرخين الجدد الذين أفاقوا، وأعادوا النظر في الرواية الصهيونية الرسمية، وانتصروا بدراساتهم للحقيقة، وأعلنوها بجسارة، والبعض غادر إسرائيل انحيازًا إلى الضمير.

تنوير انتقائي

لم ينافس سمير فريد، حجمًا بعدد الكلمات، إلا الدكتور جابر عصفور، رجل الوزير القوي. في كتابي «الثورة الآن»، وثّـقتُ بعضًا من تناقضاته، من مديح نظام حسني مبارك، إلى قسوة الاتهام بعد خلعه. أما تأييده للمواقف المتباينة لفاروق حسني فنشرتُ بعضًا منها، في يونيو/حزيران 2014 وعصفور وزير، في مقال عنوانه «جابر عصفور.. موظف يمارس التنوير الانتقائي». ولا تعي ذاكرتي أنه اختص بقضية واحدة ثلاثة مقالات في الأهرام، لكنه فعلها دفاعًا عن استضافة بارنبويم، بداية من 20 أبريل/نيسان، وتابع في الأسبوعين التاليين، بعنوان «من جهل شيئًا عاداه»؛ انتصارًا لفاروق حسني الذي ذكره في المقال الأول سبعَ مرات: خمسًا بالاسم الصريح، واثنتَين بصفته وزيرًا.   

بالجهل اتّهم عصفور رافضي حضور بارنبويم «الذي شرّفنا… فنحن نعرفه ولا نجهل قدره، ونسعد بحضوره إلى بلدنا الذي لم يتردد فاروق حسني في تحيته، ومعه كل المثقفين الشرفاء الذين لن يقبلوا بالتطبيع الثقافي مع إسرائيل، إلا بعد تحقيق السلام العادل».

انفضَّ الحفل، وبقيت دلالاته، فكتب أحمد الخميسي في «أخبار الأدب»، 26 أبريل/نيسان، مقالًا عنوانه «الأوبرا المصرية مغلقة أمام سيد درويش.. مفتوحة للإسرائيليين؟»، إذ تجاهلت الأوبرا ذكرى درويش تمامًا في الشهر السابق، مارس/آذار. وقالَ؛ إن في العالم «عشرات بارنبويم لم تتم دعوتهم»، ورفض التعلل بصداقة سعيد لبارنبويم، فمن يتحدث عن السلام بعمومية، في ظلّ احتلال فلسطين، «لا يدعو إلا لاستمرار الاحتلال».   

أحمد الخميسي، وضع النقاط فوق الحروف وتحتها، بخصوص حفل لبارنبويم في فيينا، يناير/كانون الثاني 2009 أثناء مجازر إسرائيل في غزة، وأنه انتقد في بيان صحفي الغارات الإسرائيلية، كما «شدد على حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، فيكون العدوان «دفاعًا عن نفسها»، في تجاهل حقيقة احتلال دولة لأرض شعب آخر.

أما أحمد الآخر، الشاعر عبد المعطي حجازي، فوبّخ المصريين، في «المصري اليوم» 28 أبريل/نيسان، وأكد أن بارنبويم «ليس مجرد إسرائيلي!»، علامة التعجب لحجازي، في عنوان مقال يجرد بارنبويم الذي «لا يعيش في بلد، وإنما يعيش في فنه»، وأن الذين يرونه مجرد إسرائيلي «جهلاء أو مضللون… ويلعبون دورهم الذي أشرت إليه في بداية المقالة وهو دور رخيص. هو دور رخيص لأن الذين يلعبونه يستغلون فيه جهل الكثيرين وسلبيتهم، وخوفهم من أن يتهموا في وطنيتهم».   

السقوط في اختبار الديمقراطية

الآن، وأنا أستعيد تشنّج الشاعر، وعصبية الداعمين لوزير الثقافة، يدهشني السقوط في اختبار الديمقراطية. رافضو بارنبويم لم يفعلوا شيئًا إلا القول، أو الكتابة إن وجدوا إليها سبيلًا. والمتشنجون الشتَّامون لم يحتملوا رأيًا آخر. ولو افترضنا أن بارنبويم استأجر صحفيًا أو كاتبًا صهيونيًا، فهل كان التشنج سيختلف في الدرجة أو النوع عن مثيله في الحملة المصرية؟

لعل الحملة استهدفت دعم الوزير فاروق حسني المرشح لقيادة اليونسكو، عبر بوابة بارنبويم. وحين خسر المنصب، في سبتمبر/أيلول 2009، عرّف الماء بالماء، وقال في مطار القاهرة: «المنافسة على منصب رئاسة اليونسكو تم تسييسها». يسهل على الفاشل، في التعليم والسياسة وكرة القدم، الارتكان إلى نظرية المؤامرة.  

سنرى ألوانًا ودرجات من التشنج، عام 2016، بمجرد الإعلان عن التنازل عن جزيرتَي تيران وصنافير. لم يتردد أفراد كتيبة الهتّيفة في طعن المدافعين عن مصرية الجزيرتين، واتهامهم في وطنيتهم. ويبقى درس بارنبويم عنوانًا لهشاشة الكثيرين من رموز رافعي شعارات التنوير وحرية الاختلاف في الرأي.

تظلّ الواقعة دليل إدانة لمثقفين مستعدين ليكونوا رأس حربة؛ طمعًا في ذهب المعزّ، خيار الذهب أكثر إغراء حتى في غياب التهديد بالسيف. والواقعة تعيدني إلى ما يروَى عن الشاعر الشناوي، (كامل أو مأمون؟)، في ستينيات القرن العشرين، ساخرًا من الحيرة أمام التوجه الاشتراكي، فقال: «يا ترسْملونا يا تمرْكسونا.. يلعن أبوكم على أبونا».

فلا ترسْملنا ولا تمرْكسنا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.