الكوميديا.. معركة السينما المصرية الأخيرة

الفيلم المصري “تسليم أهالي” (مواقع التواصل الإجتماعي)

اليدخل شاب على موظف في إحدى المصالح الحكومية المصرية من أجل تغيير ملكية عدّاد للكهرباء. يراجع له الموظف الأوراق المطلوبة ويكتشف أن هناك إيصالا لونه زهري غير مستوفى، فيطلب منه الذهاب لمدام بثينة في المبنى المجاور لأخذ الإيصال. يذهب الشاب مسرعا نحو المبنى ويسلم مدام بثينة الملف قائلا إنه من طرف الموظف، فتنفرج أساريرها وتبدأ في قراءة محتويات الملف.

كانت ملامح السعادة تنضح من عيني السيدة المسنة لأن الموظف قد أرفق فيه خطابا غراميا مكتوبا بطريقة رمزية. تكتب مدام بثينة ردا غراميا على خطابه وتخفيه في الملف، وتطلب من الشاب العودة مرة أخرى للموظف. ويظل الشاب يذهب ويعود بين كلا المبنيين ظنا منه أنه يقضي مصلحته، ولا يعلم حقيقة أنه مرسال غرام بين اثنين من الموظفين كبار السن وسط تعليقات كوميدية ضاحكة في الفيلم المصري "تسليم أهالي" من إخراج خالد الحلفاوي وبطولة دنيا سمير غانم وهشام ماجد، وإنتاج هذا العام 2022.

يدور الفيلم حول قصة تقليدية تتناول زواج اثنين من المسنين هما الموظف ومدام بثينة، وحول حلم ابن الموظف -الذي يعمل طبيبا- في الهجرة لكندا، بينما تبحث ابنة مدام بثينة عن عريس. كما يستعرض المهارات التمثيلية الكوميدية لعدد من النجوم مثل بيومي فؤاد وهشام ماجد ودنيا سمير غانم. وهو بالمناسبة آخر فيلم صورته الممثلة الراحلة دلال عبد العزيز قبل وفاتها. ويقع ضمن قائمة طويلة من الأفلام دأبت السينما المصرية على إنتاجها في السنوات الأخيرة وتنتمي للتصنيف الكوميدي.

لا يزال المشاهد العربي يحب مشاهدة الفيلم الكوميدي المصري، لكن في مرتبة ثالثة ربما بعد الفيلم الأجنبي والفيلم الهندي، وذلك لأن نجوم الكوميديا المصريين الحاليين لا يحظون بالانتشار والشهرة ذاتها التي حظيت بها الأجيال السابقة مثل عادل إمام ومحمد هنيدي وغيرهما.

ويُعرض الفيلم في دور السينما حاليا في مصر إلى جوار أفلام أجنبية أخرى. وأصبح هدف المشاهد واضحا منذ فترة طويلة؛ فهو إما أن يدخل فيلما مصريا ليضحك ويروح عن نفسه أو أن يدخل فيلما أجنبيا ليستمتع بقصته. ومن هنا لعب المنتجون والمخرجون على الرغبة الشعبية المصرية العارمة في الضحك والكوميديا لتقديم أعمال سينمائية لديها نقص في جوانب سينمائية كثيرة من ناحية جودة السيناريو أو الإخراج لكنها تستطيع أن تجذب الجمهور إلى شباك التذاكر فقط من أجل أن يضحك. وبالطبع هناك استثناءات تستحق نقاشا منفصلا تتعلق بأفلام مثل "كيرة والجن" والأفلام التي تنتجها منصات مثل "شاهد" و"نتفليكس" (Netflix).

ومن خصائص الإنتاج الكوميدي السينمائي الحالي في مصر أنه يعتمد على الممثل الكوميدي النجم أكثر من اعتماده على المخرج وعلى "الأفيَّه"؛ أي الجملة العالقة من مشهد كوميدي، وأكثر من اعتماده على القصة والسيناريو. وكثير من المشاهد الكوميدية عند عرضها تبدو كأنها ارتجال من الممثل الكوميدي لحظة التصوير أكثر من كونها جزءا من سيناريو الفيلم أصلا.

ووفقا للمعايير الفنية والجمالية فإن هناك خللا كبيرا في جودة هذه الأفلام خاصة ما تم إنتاجه في السنوات الأخيرة. وهي إحدى حالات التعبير عن أزمة السينما المصرية المعاصرة التي تعاني من مشاكل في التمويل وجودة السيناريوهات وغياب "سينما المؤلف" لمخرجين لديهم رؤية مثل المخرج الراحل عاطف الطيب. حتى إن المخرج الشهير داود عبد السيد أعلن اعتزاله الإخراج نهائيا لأنه لا يستطيع مجاراة المزاج العام السائد في السينما. ويكفي أن نعرف أن فيلما كوميديا شهيرا أخرجه عبد السيد قبل أكثر من 30 عاما هو فيلم "الكيت كات" عام 1991 كان رواية "مالك الحزين" للأديب إبراهيم أصلان. واستطاع المخرج أن يقيم جسرا ناجحا بين الأدب والسينما في قالب كوميدي ضاحك يناقش قضايا عميقة.

الضحك من المحيط إلى الخليج

ورغم ذلك استطاعت السينما المصرية خلال نحو قرن من الزمان أن توفر مادة للضحك والكوميديا لكل العالم العربي بلغة مشتركة يفهمها الجميع. لأن هذه الأفلام -وفقا لمعايير العرض والطلب- هي أفلام ناجحة، بسبب أنها تستطيع جذب قطاع كبير من الجمهور متعطش لهذا النوع الفني. وبعيدا عن المعايير السينمائية الجمالية المعروفة، فإن هذا يعد إنجازا ثقافيا في حد ذاته بكل ما يحمله من عبور المصطلحات والاقتباسات الكوميدية عبر الحدود لتكسر أية حواجز جغرافية أو سياسية في طريقها. وتحقق أيضا نوعا من الوحدة الثقافية الناعمة بين الشعوب. الأمر الذي فتح الباب أمام هذه الأفلام الكوميدية للتوزيع في مختلف أنحاء العالم العربي.

وقد تراجع هذا التأثير للكوميديا المصرية جزئيا في الفترة الأخيرة، لكنه لم يتلاشَ. فبقي المشاهد العربي يحب مشاهدة الفيلم الكوميدي المصري، لكن في مرتبة ثالثة ربما بعد الفيلم الأجنبي والفيلم الهندي، وذلك لأن نجوم الكوميديا المصريين الحاليين لا يحظون بالانتشار والشهرة ذاتها التي حظيت بها الأجيال السابقة مثل عادل إمام ومحمد هنيدي وغيرهما.

وتعد الكوميديا هي الساحة شبه الأخيرة التي تلعب فيها الأفلام السينمائية المصرية من أجل الحفاظ على موقعها داخليا وعربيا وسط أزمات شديدة تمر بها السينما المصرية. فهي تضمن لشركات الإنتاج توزيعا جيدا للأفلام وبالتالي تضمن حدا أدنى من الربح المطلوب، وعملا شبه مستمر لنجوم الكوميديا وتحريكا لمياه صناعة السينما حتى من دون عناصر فنية سينمائية مكتملة. وهي أيضا وسيلة ناجعة للهروب من مقص الرقيب الذي لا يرحم أية إسقاطات قد يُفهم منها أي تلميحات سياسية.

وقد يتبادر إلى الأذهان سؤال مشروع حول قدرة هذه الأفلام على الحفاظ على نسبة المشاهدة تلك أو بمعنى آخر القدرة على الإضحاك المستمر رغم سطحية ونمطية كثير من القصص والحبكات الدرامية. ويكمن السر ربما في تعليق الممثل محمد سعد حين سُئل كيف استطاع صياغة شخصية "اللمبي" في أفلامه من حيث الشكل والصوت والأداء؟ فأجاب بأنه لم يخترعها وإنما هي شخصيات موجودة في كل حارة مصرية، ففي كل شارع يوجد أكثر من "لمبي" يحتاج فقط لمن يقدم شخصيته وأداءه على الشاشة ليقع الجميع على الأرض من كثرة الضحك.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.