بايدن في المنطقة.. الاستقرار والمصالح وبينهما إسرائيل

U.S. President Biden visits Saudi Arabia
الرئيس الأميركي جو بايدن في السعودية (رويترز)

بدّدت زيارة الرئيس الأميركي جو بايدن للمنطقة بعد انتظار وترقّب، كل الرهانات التي عوّلت على رؤية معالم سياسة خارجية مختلفة للبيت الأبيض تجاه المنطقة في ظل حكم الإدارة الديمقراطية، إذ بدت زيارة بايدن للمنطقة بين 13 و17 يوليو/تموز 2022، أنها لا تختلف في ملامحها الأساسية عن تلك الزيارة التي قام بها ترامب للمنطقة بين 20 و21 مايو/أيار 2017. واللافت أن المنطقة، التي تعيش وضعا هو الأشد تشرذما وانقساما، تستقبل موحّدة في قمة جدة جو بايدن، تماما كما استقبلت ترامب.

حدّد الرئيس الأميركي في مقاله المنشور في صحيفة "واشنطن بوست" في 9 يوليو/تموز، بشكل واضح أجندة الزيارة التي يمكن تلخيصها من خلال ذلك المقال في:

  1. دعم المصالح الأميركية في المنطقة في سياق مواجهة التمدد الصيني المثير للقلق الأميركي، والجموح الروسي التوسعي المهدد لأوروبا والمصالح الأميركية فيها.
  2. استقرار المنطقة كاستحقاق إقليمي ودولي تستوجبه السياسة الأميركية التي لم تعد متحمسة للتدخل العسكري في المنطقة، ولا للانخراط في حروب مكلفة، ولعل انسحابها من العراق وأفغانستان يؤكد دون شك ذلك، وتقتضي خطة الانسحاب من المنطقة، إستراتيجية استقرار تبدو الإدارة الأميركية محددة لبعض ملامحها، بما يشمل منع إيران من الحصول على السلاح النووي واحتواء نفوذها في المنطقة، بغض النظر عن مدى نجاحها على أرض الواقع.
  3. بين الهدف الأول والثاني للزيارة، يبدو الهدف الثالث، وهو تعزيز أمن إسرائيل واندماجها في المنطقة، كما تراه وتسعى إليه الإدارة الأميركية، استكمالا لصفقة القرن، هو هدف وشرط للهدفين الأولين، فلا أمن في المنطقة إلا بإسرائيل قوية ومندمجة في المنطقة، ضمن مسار متدرج ينتقل من التطبيع الشامل إلى الاندماج الكامل، عبر تحالفات دفاعية (ناتو شرق أوسطي) واتفاقيات اقتصادية تدمج السوق الإسرائيلية كجزء من شبكة العلاقات الاقتصادية في المنطقة في مجال الطاقة، والتكنولوجيا، والتجارة الحرة.

 

تركن إدارة بايدن في المجمل كسابقاتها، إلى أن الاستقرار في المنطقة هو أفضل السبل للحفاظ على مصالح الولايات المتحدة في المنطقة وتعزيزها. استقرار واجب حتى وإن كان على حساب المنطقة وحق شعوبها في التغيير

ففي العلاقة بفكرة الاستقرار حرص الرئيس الأميركي بايدن على التباهي بأنه الرئيس الأميركي الأول الذي يزور المنطقة منذ هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001، دون وجود قوات أميركية منخرطة في حرب أو عمليات عسكرية في المنطقة.

وأشار بايدن للانسحاب من العراق وأفغانستان. كما تباهى بأنه يزور المنطقة وهي أكثر استقرارا مما كانت عليه قبل 18 شهرا، في إشارة لتاريخ دخوله البيت الأبيض.

واعتبر بايدن أن مقاربة الدبلوماسية المكثفة والردع جعل المنطقة أكثر استقرارا، في العراق بالنجاح في القضاء على تنظيم الدولة، وتثبيت هدنة في اليمن، وتحييد قيادات "تنظيم الدولة" في سوريا، وخفض التوتر في الأراضي المحتلة الفلسطينية. ولقد كان لافتا طلب إدارة بايدن من تل أبيب وقف التصعيد وتجنّب الاستفزازات في الأراضي المحتلة، بما في ذلك القدس، قبل شهر من زيارته للمنطقة.

وتركن إدارة بايدن في المجمل كسابقاتها، إلى أن الاستقرار في المنطقة هو أفضل السبل للحفاظ على مصالح الولايات المتحدة في المنطقة وتعزيزها. استقرار واجب حتى وإن كان على حساب المنطقة وحق شعوبها في التغيير.

ولقد عمّق عجز واشنطن وقدرتها على ضبط مآلات الربيع العربي واتجاهاته قناعتها بأن سياستها التقليدية، هي الأنجع في ضبط استقرار المنطقة. ويقتضي ذلك الاستقرار أنظمة حكم قوية، وقادرة على فرض سلطتها والتحكم، لا سيما وأن الانتقال الديمقراطي له تكاليفه ومحاذيره، في وقت تنشغل فيه واشنطن بالصعود الصيني واستحقاقات تقويضه، والجموح الروسي ومقتضيات لجمه.

كما أن التوجّه الأميركي الذي عبّر عنه العديد من المسؤولين الأميركيين تباعا، بالانسحاب من المنطقة، لتركيز الجهود على الخطر الصيني في المحيط الهادي والهندي، أوجب أن ترى الولايات المتحدة المنطقة مستقرة، خالية من الهزات التي تخلط الأوراق وتضر بالمصالح والأمن القومي.

ولم يكن غريبا أن يحتفي ترامب وإدارته خلال زيارته للمنطقة في مايو/أيار 2017 بأعتى دول المنطقة تسلّطا -إسرائيل- دون أي اعتبارات لقيم الديمقراطية وما يتباهى به "العالم الحر"، وما فعلته إدارة ترامب الجمهورية قبل 5 أعوام، تستعيده إدارة بايدن الديمقراطية، في مشهد استعراضي، يكثّف تماما ملامح ومعالم السياسية الخارجية الأميركية تجاه المنطقة.

الولايات المتحدة تبدو مقتنعة تماما أن الاستقرار كمحدد أساسي في المنطقة ينعطف ويرتبط بآخر تراه واشنطن حيويا، وهو أمن إسرائيل وتفوقها. ولذلك تتعامل الإدارات الأميركية مع قضية الاستقرار، لا فقط كهدف وإنما كسبب، بحيث تكون المعادلة أن المنطقة دون أمن إسرائيل وتفوقها لن تكون مستقرة

وإذ ترسّخ واشنطن سياستها وتفاهماتها مع أنظمة المنطقة القوية وخاصة الثرية منها، فإنها حريصة أن تضمن من خلال ذلك ليس فقط، قدرة أنظمة المنطقة تأمين تدفق النفط، وإنما أيضا المساعدة في السيطرة على أسعاره في الأسواق العالمية.

وبات الأمر أكثر إلحاحا بعد اندلاع الحرب الروسية ضد أوكرانيا وما خلّفته من تداعيات كارثية ليس فقط على التدفق العادي للغاز والنفط، وإنما أيضا للأسعار المرتفعة، التي تسببت في التضخم في جل بلدان العالم.

تضخم طال الولايات المتحدة الأميركية نفسها، وجعل شعبية جو بايدن الأسوأ مسجلة أقل من 40%، بين الأميركيين، ولذلك لم يكن مفاجئا أن يعلن بايدن عقب وصوله للمنطقة، أن واشنطن لن تترك المنطقة للصين وروسيا.

كان لافتا تماما خلال القمة أن زيارة الرئيس "الديمقراطي" بايدن للمنطقة، حملت معها ظاهريا ملفات وقضايا عديدة، ولكن لم يكن من ضمنها قضية الديمقراطية رغم تعطش المنطقة إليها. على العكس من ذلك تماما حضر الأمن والتطبيع والمصالح والاستقرار، وغابت الديمقراطية.

وتدرك إدارة بايدن الديمقراطية، أن أحد شروط ترسيخ مسار التطبيع العربي الإسرائيلي، هو أنظمة حكم قوية غير شعبية وغير ديمقراطية، تنخرط في التطبيع، مستعينة لا بتفويض الشارع، وإنما بالارتكاز على شرعية القوة والتسلّط. فقوى التغيير المعنية بالتحول الديمقراطي، هي الأشد معارضة ورفضا للتطبيع.

ولذلك تتخوف واشنطن من وجود تلك القوى في السلطة، أو من الاقتراب منها. وأمثلة مصر والمغرب والسودان وتونس جلية،  لذلك تنظر واشنطن اليوم للانقلابات في المنطقة بعين نصف مفتوحة، فهي إذ تتحفظ في البداية على تلك الانقلابات فإنها تدعمها لاحقا سرا وعلنا.

والحقيقة أنه رغم ما تبدو عليه الرؤية الأميركية في العلاقة بالمنطقة من ارتباك وعدم إدراك لكل تعقيدات المشهد، ومرد ذلك ارتكازها على محددات تقليدية غير محيّنة، أساسها سلطة القوة، فإن مقاربة واشنطن تبقى مركبة وذات أبعاد إستراتيجية واضحة. فالولايات المتحدة تبدو مقتنعة تماما أن الاستقرار كمحدد أساسي في المنطقة ينعطف ويرتبط بآخر تراه واشنطن حيويا، وهو أمن إسرائيل وتفوقها.

ولذلك تتعامل الإدارات الأميركية مع قضية الاستقرار، لا فقط كهدف وإنما كسبب، بحيث تكون المعادلة أن المنطقة دون أمن إسرائيل وتفوقها لن تكون مستقرة، لكن في نفس الوقت فإن إسرائيل لن تكون آمنة إلا في ظل استقرار المنطقة. ولا يخفى أن هذا التوجه الأميركي في تأمين إسرائيل يأتي عبر مسارات متفاعلة:

  • ضمان تفوقها العسكري (تشريع أميركي ينص على ذلك).
  • ردع خصومها والتهديدات التي تتعرض لها (النووي الإيراني).
  • ربطها بعلاقات مع دول المنطقة، تنطلق تطبيعا، لتصل لاحقا إلى الإدماج في المنطقة، عبر اتفاقيات أمنية وتجارية وتحالفات إقليمية. تدفع الولايات المتحدة أنظمة المنطقة إلى التطبيع دفعا، حتى تحول شرطا ليس فقط لعلاقة قوية مع واشنطن، وإنما شرطا للاستقرار. فما كان سابقا شرطا للشرعية، بات انتفاؤه اليوم هو شرطها. فالدول التي كانت تعتبر القضية الفلسطينية القضية المركزية التي يجب دعمها، انعطفت اليوم باتجاه إسرائيل تطبيعا وتحالفا. مسارا جعلته واشنطن ورأته أنظمة المنطقة، مصدر الشرعية الأساسي، وأفقا وحيدا للانفتاح على العالم الخارجي.

ورغم التوجه الأميركي لتحفيز دول المنطقة لإقامة تحالف إقليمي يشمل إسرائيل، لوّحت به واشنطن مرارا، وبشّرت به تل أبيب تكرارا، فإن هذا المشروع يواجه عقبات حقيقية، تبدأ من غياب تسوية واضحة للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وتصل إلى عدم حماسة دول في المنطقة لهذا التحالف، انتهاء بامتناع صريح من دول أخرى عن الانخراط في تحالف يضعها وجها لوجه مع إيران.

لذلك تبدو الزيارة في هذا المستوى فشلت في إحداث أي اختراق جدي، بدا واضحا من خلال كلمات بعض القادة العرب الذين لم يترددوا خلال "قمة جدة للأمن والتنمية"، في إعادة التذكير بأهمية القضية الفلسطينية وحلها بشكل عادل، كأساس وشرط يسبق كل المبادرات الأخرى، على غرار "شرق أوسط جديد"، أو "ناتو شرق أوسطي".

فالرهان الإسرائيلي على إدارة بايدن للسير في مخطط لتهميش القضية الفلسطينية والقفز عليها، عبر عملية تطبيع تل أبيب عربيا، ثم إدماجها شرق أوسطيا، ومن ثمة تعويم الملف الفلسطيني كملف أقلية تتم مقاربته كملف شبيه بملف الأقليات في المنطقة، فشل هذا الرهان في الوقت الراهن، تماما كما فشلت المحاولة الأميركية المرتبكة في انتزاع توجه من قمة جدة بالانخراط في مشروع الدمج الإسرائيلي الكامل في المنطقة.

تعكس زيارة بايدن الأخيرة للمنطقة بشكل واضح السياسة الأميركية الرخوة ة والمضطربة والمتذبذبة تجاه الشرق الأوسط. سياسة تتأرجح بين البقاء في بوتقة الرؤية التقليدية التي ارتسمت قبل أكثر من 70 عاما، وبين محاولة اجتراح مقاربة جديدة محيّنة تستجيب للتوازنات الدولية الجديدة، والتحديات الإستراتيجية، على غرار الصعود الصيني والجموح الروسي، والتحولات العميقة التي تعتمل في منطقة الشرق الأوسط الدامي نفسها. عبّر هذا الارتباك عن نفسه بشكل صارخ في الانسحاب الأميركي المتسارع من العراق وأفغانستان، بينما يعلن بايدن أن الولايات المتحدة لن تترك المنطقة للصين وروسيا.

بقيت إشارة واجبة، تضمنها خطاب بايدن وهو يتعهد بالتصدي للصين وروسيا في المنطقة، إنما يؤكد أن هذا الشرق الدامي، وبعد حوالي 70 عاما على استقلاله، إنما يراد منه، وينظر إليه كمنطقة تنازع نفوذ ومصالح، ولا يزيد!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.