12 عاما تمر على اندلاع الانتفاضة التونسية.. والثورة مستمرة

في ذكرى ثورة تونس.. أفلام ننصحك بمشاهدتها
في ذكرى ثورة تونس (الجزيرة)

12 عاما تمر على اندلاع الثورة التونسية وتحديدا في 17 ديسمبر/كانون الأول 2010 عندما أقدم الشاب محمد البوعزيزي من محافظة سيدي بوزيد على إضرام النار في نفسه، احتجاجا على أوضاع اجتماعية صعبة، ورفضا لظلم اعتبر أنه سلط عليه بدون وجه حق.

لا تزال الثورة حدثا مستمرا وديناميكية لم تنقطع، تؤطر المشهد في تونس إلى اليوم، مشهد لم يفصح بعد عن اتجاهاته النهائية وتداعياته ونتائجه.

عاشت تونس وتعيش ثورة مستمرة، ثورة بكل نجاحاتها وخيباتها، بانتصاراتها وانكساراتها، تتقدم حينا وتتعثر أحيانا، ولكنها لا تبدو متوقفة أو وصلت إلى محطتها الأخيرة، بل هي مسار في الزمن والتاريخ، هل حقا أوقف انقلاب 25 يوليو/تموز مسار الثورة والانتقال الديمقراطي في تونس؟ دون شك لا يبدو قادرا أو يملك ذلك.

لقد ضخ مسار الثورة على امتداد سنوات في بنية المنظومة السياسية والمجتمعية ثقافة سياسية ووعيا عاما، لم يعد يساوم أو يقبل التضييق أو سلب الحقوق والحريات العامة

في تقريرها السنوي خلصت مؤسسة "الفكر" الدولية من أجل الديمقراطية والإسناد الديمقراطي إلى خروج تونس ولأول مرة منذ الثورة من نادي الديمقراطية إلى نادي الأنظمة الهجينة، وهو الصنف الذي يوجد على هوامش الديمقراطية وهوامش الدكتاتورية.

لا شك أن هذا التراجع لتونس في مسألة الديمقراطية يعود إلى ما أقدم عليه الرئيس التونسي قيس سعيد في 25 يوليو/تموز من تقويض للمؤسسات المنتخبة، والاستيلاء على كل السلطات والصلاحيات بين يديه، وإدارة البلاد عبر المراسيم، في سابقة لم تحدث في تونس منذ حصولها على الاستقلال، ويمثل هذا التراجع السياسي جزءا من العثرات والانكسارات التي تعيشها الثورة، تقدما وتراجعا، وثبة وانكفاء.

بيد أنه لا أحد يمكن أن ينكر اليوم أن الثورة في تونس مستمرة، إذ يتقابض المجتمع المدني والنخب التونسية ببسالة على مكاسب الحريات وحقوق الإنسان، ويمارسان الحق في التعبير بكل أشكاله وفي مختلف مستوياته، مؤمنين بأن تلك حقوق لا تقبل التفريط، وهي مكاسب تاريخية انتزعت بعد مقاومة للاستبداد ومواجهة للدكتاتوريات وتضحيات قدمتها أجيال متعاقبة من المناضلين والمصلحين من مختلف التيارات الفكرية والسياسية.

لم يكن مفاجئا ولا غريبا أنه منذ اليوم الأول للانقلاب على المؤسسات المنتخبة وإلى اليوم تعيش تونس على المستويين الشعبي والسياسي حراكا لا يتوقف في مواجهة سلطة الأمر الواقع من أجل لجمها، وكما يمارس نظام سعيد سياسة الأمر الواقع تغلبا تمارس القوى السياسية والمجتمعية حقها في التعبير والنقد والاحتجاج دون خوف ولا رهبة من السلطة، شعارها في ذلك "مارسوا حقوقكم وحرياتكم ولا تطالبوا بها".

صحيح أن الانقلاب جمح إلى التمدد واكتسح الفضاء العام بغرض السيطرة عليه، واستعمل النظام في ذلك عمليات ملاحقة لمعارضي الانقلاب تراوحت بين عمليات الاختطاف والاحتجاز التعسفي وبين الهرسلة (التضييقات) عبر إثارة تهم وافتعال قضايا والتحقيق مع العشرات من معارضي الانقلاب تحت عناوين ملفات فساد أو مؤامرات ضد الأمن القومي، إلا أنه جموح ينحسر وينكفئ في كل مرة تحت الاحتجاجات والحملات المضادة للمعارضين وهبّة النشطاء الحقوقيين الذين سفهوا الكثير من القضايا المفتعلة والملفات الملفقة.

لقد انتقل المحامون في العديد من المناسبات إلى الواجهة، ليحولوا مرافعاتهم في كل قضية إلى محاكمة لنظام سعيد وإدانة ممارساته، لقد ضخ مسار الثورة على امتداد سنوات في بنية المنظومة السياسية والمجتمعية ثقافة سياسية ووعيا عاما، لم يعد يساوم أو يقبل التضييق أو سلب الحقوق والحريات العامة، وقد جعل موقف قطاعات واسعة من المحامين ومن القضاة ومن الصحفيين والكثير من نشطاء حقوق الإنسان والنقابيين، فضلا عن العديد من القوى السياسية، جعل منهم فرسان المعركة الشاملة ضد الانقلاب، واستعادة لروح الثورة، رفضا للاستبداد والتسلط ودفاعا عن الحقوق والحريات.

وخرجت وتخرج مئات الاحتجاجات والتجمعات الرافضة للسلطة الحالية أو المنتقدة لها، ويخاطب زعماء المعارضة وقوى المجتمع المدني والعديد من المنابر الإعلامية الرأي العام بشكل مباشر وعلني، ويوجهون انتقادات حادة إلى سلطة الأمر الواقع، بل ويعتبر الكثير منهم وفق مرجعية دستور الثورة 2014 أن السلطة الحالية سلطة أمر واقع وهي غير شرعية، وأن كل مساراتها الحكومية والانتخابية غير دستورية وليست محل قبول.

وإذا يبدو أن النظام الحالي اليوم لا يعكس الإرادة الشعبية التي لا يمكن أن تكون إلا عبر مؤسسات منتخبة -وهو اليوم مجرد تعبير عن سلطة الأمر الواقع تغلبا- فإن المجتمع اليوم يبدو في قطيعة مع هذا النظام تمنعا، إذ يبدو أن واقع اليوم يكرس قطيعة حقيقية بين المجتمع والدولة، فلا الدولة دولة الشعب، ولا الشعب شعب الدولة.

ورغم كل ما خفي ولم يكشف من حيثيات انقلاب 25 يوليو/تموز وما تبعه من جدل فاعتبره البعض انقلابا ورأى فيه آخرون تصحيح مسار فإن كل ذلك لا يمنع من وضعه كحدث رغم خطورته ضمن مسار الثورة، تقدما حينا وتعثرا أحيانا، وهو في هذا أشبه باغتيال شكري بلعيد في السادس من فبراير/شباط 2013 أو محمد الإبراهيمي في 25 يوليو/تموز من العام نفسه، وهو بالتالي تعبير من تعبيرات الاهتزازات والمطبات في مسار الثورة.

ثانيا: إن هذا الانقلاب لم يطوِ صفحة الثورة ولم ينهِها، بل إن سرديته اليوم تقوم على الزعم أن ما يفعله هو تصحيح مسار الثورة، مدعيا أنه معتز بها وقام بإنقاذها، لذلك قيس سعيد الذي يحكم اليوم بسلطة الأمر الواقع لم يجد بدا من أن ينسب نفسه للثورة، ويندرج حقا أو باطلا في سياقها، وعكس ما يكرره عبد الفتاح السيسي في مصر من أن ثورة 25 يناير/كانون الثاني كانت سبب الخراب والدمار في مصر يحتفي قيس سعيد بالثورة، بل ويحيي اندلاعها عيدا وطنيا سنويا.

بعد 12 عاما على الثورة التونسية بكل إنجازاتها وخيباتها يتمسك التونسيون أكثر من أي وقت مضى بحقوقهم في التعبير والاحتجاج، يمارسونها رغما عن السلطة بدل المطالبة بها، ويكرسونها أمرا واقعا، ولا يتنازلون أو يساومون بشأنها، تبدو الدولة براهنيتها متمنعة وغير مستعدة إلى حد اللحظة للتأقلم مع مقتضيات الثورة المجتمعية العميقة.

لا تزال هذه الدولة بفلسفتها ومنطقها وعقلانيتها مسكونة بما قبل الثورة ومرتهنة لها عبر بيروقراطية تقليدية ترسخت مصالحها وتشابكت ارتباطاتها الداخلية والخارجية، منظومة مستحكمة غير قابلة بالتحولات، وغير هاضمة للتغيرات، وهي دولة عملت على استيعاب واحتواء زخم الثورة على مدى أكثر من عقد، مخاتلة، لكنها لا تبدو إلى اللحظة قادرة على الانسجام مع استحقاقاتها ومقتضياتها.

والدولة اليوم بقدر ما تثخن في الثورة تثخن في نفسها، ولا سيما مع الإصرار الشعبي والمجتمعي على التغيير والعبور بتونس لمرحلة جديدة تتجدد فيها الدولة بنية سياسية ومؤسسات حكومية وعقدا اجتماعيا ترتبط فيه مؤسسة الحكم بالشعب، تعاقدا لا تغلبا.

حققت تونس بثورتها تحولا نوعيا في الثقافة السياسية للمجتمع، ووعيا مواطنيا وتشبعا بالحريات وحقوق الإنسان، وثقافة ديمقراطية رسخت التعايش بين المختلفين، واستبعدت ثقافة العنف ونبذتها، في وقت كان العنف هو العنوان السائد في العديد من الدول الأخرى.

بقدر ما يجوز في تونس الحديث عن "الدولة العميقة" في الإحالة على منظومة متحكمة رافعتها البيروقراطية المستحكمة، وأدواتها نفوذ بعضه خفي وبعضه جلي فإنه يجوز بالقدر نفسه الحديث عن ثقافة سياسية ديمقراطية عميقة ومجتمع يحوز دوما على عوامل المقاومة والصمود، وتمثل هذه العوامل اليوم حصونا منيعة في وجه الاستبداد الشامل والتحكم الكامل الذي تنزع له السلطة.

 

إن ديناميكية التغيير التي أطلقتها شرارة الربيع العربي قبل أكثر من 10 سنوات لا تزال أهم فاعل ومحرك بشكل مباشر وغير مباشر للاجتماع السياسي في تونس وفي كل دول المنطقة

قد تبدو هذه الحصون المجتمعية في وجه الاستبداد والتحكم هشة ورخوة، ولكن سرعان ما تستعيد حيويتها وتنتظم أشكالا من المقاومة المتعددة والمتنوعة، وقد فعلت ذلك في عهدي بورقيبة وبن علي، ونحسب أنها اليوم أكثر صلابة ومناعة وأكثر جاهزية للمقاومة.

ولئن نجح زين العابدين بن علي بعد انقلابه في 1987 في ضبط المشهد وتحكم فيه على مدى 23 عاما فإن انقلاب 25 يوليو/تموز تبدد زخمه خلال أسابيع واستهلك رصيده وخابت رهاناته، ونجح المعارضون لهذا المسار الانقلابي في الحد من تمدده واكتساحه، ولجموا جموحه، وفرضوا عليه عزلة تتعمق كلما حاول شرعنة مساره، فالقوى التي اكتوت بخديعة نظام بن علي عند قيامه لا يمكن أن تطمئن اليوم إلا وهي تشاهد انقلاب قيس سعيد عند حطامه.

يصاب الكثير بالإحباط حد اليأس من المشهد البائس الذي تبدو عليه تونس، خاصة وهو انطباع محكوم باللحظة غافل عن التاريخ ومكره، فيما يكفي تدقيق النظر في ديناميكية المقاومة والمعارضة وشجاعتها بمختلف خلفياتها الفكرية والسياسية وأبعادها السياسية والإعلامية والحقوقية، ويكفي أيضا النظر في المحيط الإقليمي والعربي حتى ندرك جميعا أننا أمام تحولات عميقة لا استقرار فيها مطلقا لأنظمة الحكم المتحكمة، تغلبا وتسلطا.

إن ديناميكية التغيير التي أطلقتها شرارة الربيع العربي قبل أكثر من 10 سنوات لا تزال أهم فاعل ومحرك بشكل مباشر وغير مباشر للاجتماع السياسي في تونس وفي كل دول المنطقة، لكم أن تتوقفوا دون عناء نظر عند حال نظام السيسي في مصر الذي كلما غرق أكثر في أزمته ولاح فشل رهاناته عاد على ثورة يناير/كانون الثاني 2011 يلعنها ويحمّلها كل مصائب مصر، موقنا أن تلك "اللحظة التي يعود عليها باللعن في كل مرة" باتت هي المؤطرة لكل ما تبعها.

بعد 12 عاما على الثورة التونسية تواصل القوى المجتمعية الدفاع عن التغيير ولجم جموح نظام الحكم للتسلط والتحكم تغلبا، ولا يعدو انحراف 25 يوليو/تموز إلا مطبا من مطبات كثيرة سبقته وأخرى قد تعقبه في مسار الثورة التونسية، ثورة تونس التي تحررت بها وأضاءت شعلتها أركانا شديدة الظلمة في المنطقة العربية، منطقة تتوق كل شعوبها إلى الحرية وأنظمة حكم راشدة ورشيدة، ثورة أطلقت ديناميكية مستمرة للتحرير والتغيير لم تتوقف رغم مزاعم النصر التي أعلنتها الثورات المضادة.

إن المنطقة المغاربية كلها تعتمل وتتوثب إصرارا على التغيير، وكذلك الشرق الدامي الذي يعيش مخاضا لا يهدأ من مصر والسودان واليمن إلى سوريا ولبنان والعراق وإيران، وصفها البعض بموجات جديدة من الانتفاضات والثورات، وهي في المحصلة ثورة مستمرة تتغذى من لهيب ربيع العرب الذي اندلع قبل 12 عاما وكان لتونس شرف قدحه، وكان لها شرف الإبقاء على جذوته مستعرة، إنها الثورة المستمرة منذ 12 عاما.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.