سؤال كنفاني الأخير: لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟!

غسان كنفاني.. روائي فلسطين الذي أسال أدبه حبره ودماءه (الجزيرة)

كان السؤال الأخير الذي طرحه غسان كنفاني في نهاية روايته "رجال في الشمس": لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟ لماذا لم تقرعوا جدران الخزان.. لماذا؟

كان السؤال صرخة يمكن أن توقظ أمة لا تقل حالها سوءا عن معاناة وآلام أولئك الرجال الفلسطينيين الذين بحثوا عن حل لمشكلتهم الفردية بالهرب إلى الكويت في خزان شاحنة يقودها أبو الخيزران الذي فقد رجولته.

في نقطة التفتيش على الحدود بين الكويت والعراق يموت الرجال الثلاثة في الخزان تحت وهج الشمس الحارقة لأنهم لم يمتلكوا الشجاعة لكي يصرخوا ويقرعوا جدران الخزان. ترى ماذا يمكن أن يحدث أسوأ من ذلك؟

الذي لا يجرؤ على قرع جدران الخزان يموت؛ فالقرع والصراخ يحمل الأمل في الحياة، لكن الصمت والجبن والخوف تكون نتيجته الموت. لكن هل أدركت الشعوب معنى صرخة غسان كنفاني؟ إن الاستقرار والخنوع والخضوع للاستبداد يعني الموت بين جدران الخزان الملتهبة.

استشهد سالم كريما عزيزا واقفا بعد أن اخترقت صدره رصاصات الضابط الإسرائيلي، أما مريم فإنها أوضحت أن الحل هو قتل زكريا بسكين المطبخ بعد أن اغتصبها.

قائد فاقدٌ الرجولة

وشخصية "أبو الخيزران" رمز للقائد الطاغية الذي يفتقد الرجولة، ولا تهمه حياة الناس من أجل الحصول على المال أو السلطة، والشعب الذي يخضع لأوامره يستحق الموت مشويا في واقع كئيب لا يختلف عن خزان الشاحنة.

إن جريمة الخضوع لا تقل قبحا عن جريمة القتل، ولقمة الخبز المغموسة بالذل ليست مبررا لذلك الخضوع والرضى بالهوان تحت حكم الطغاة أو الاحتلال.

و"أبو الخيزران " فاقد الرجولة يعلم الناس أن القرش (الفلوس) أهم من الأخلاق؛ ذلك هو الدرس الذي حصل عليه من الحياة.

و"أبو الخيزران" سائق شاحنة (خزان) يملكها رجل غني تماما مثل كثير من الطغاة الذين يتحكمون في شعوبهم بالحديد والنار، وهم تابعون لدول الاستعمار التي أوصلتهم إلى الحكم، وخدم "أبو الخيزران" في الجيش البريطاني قبل عام 1948، وعندما استعان به المجاهدون لقيادة المصفحة التي غنموها تعطلت، وكانت خيبة أملهم كبيرة.

عندما يكتشف "أبو الخيزران" موت الرجال الثلاثة، فإنه يسرق مالهم، ويلقي جثثهم بالقرب من صناديق القمامة.

الموت في الميدان

الانبطاح داخل الخزان ينتهي بموت ممزوج بالذل والعار والهوان، أما الموت في الميدان ثائرا ومقاوما فإنه يحمل المجد والشرف والفخر والعز، والثورة تحمل الأمل والحياة والمستقبل، أما الاستقرار والحفاظ على الوضع الراهن فإنه لا يختلف عن الانبطاح في الخزان.

إن الواقع الكئيب الكريه الذي يصنعه الطغاة والاستعمار والاحتلال لا يختلف عن خزان شاحنة "أبي الخيزران"، فإن دقت الشعوب بعنف على جدرانه وصرخت وهتفت فإنها تكون جديرة بالعيش والحرية والكرامة الإنسانية وتستحق الحياة، وقد يموت كثير من الناس وهم يهتفون ويدقون الواقع الآسن الفاسد المتعفن، لكن موتهم سيكون له معنى وقيمة، وسيضيء موتهم للشعوب طريق الحرية، وسيتم دفن جثثهم في أرضهم، ولن تلقى على أكوام النفايات كجثث أبي قيس ومروان وأسعد، و"إن لم يكن من الموت بدّ فمن العار أن تموت جبانا". إن الذين يرتضون الانبطاح يموتون ذلا، أما الثوار فإنهم يموتون شهادة ومجدا.

ماذا تبقى لكم؟

رموز غسان كنفاني تكشف نفسها؛ ففي رواية "ما تبقى لكم" لا تقل صورة زكريا النتن الخائن بشاعة عن شخصية "أبي الخيزران"، فلقد كان زكريا ذليلا جبانا لا يستحق سوى الاحتقار، فهو يرشد الجيش الإسرائيلي على الفدائي سالم، بعد أن يركع أمام الضابط الإسرائيلي خوفا من الموت بالرصاص.

واستشهد سالم كريما عزيزا واقفا بعد أن اخترقت صدره رصاصات الضابط الإسرائيلي، أما مريم فإنها أوضحت أن الحل هو قتل زكريا بسكين المطبخ بعد أن اغتصبها.

بعد هذه الرواية قرر غسان كنفاني أن يجعل رموزه أكثر بساطة ووضوحا لكي يفهمها الشعب، فهو لا يسعى للحصول على النجاح الأدبي فقط، بل يريد أن يكون الأدب سلاحا للمقاومة.

عائد إلى حيفا

في رواية "عائد إلى حيفا" كانت النهاية واضحة، وتشكل صدمة تجعل كل إنسان يستيقظ فجأة ويدرك الحقيقة، حيث يتساءل الأب: ما فلسطين بالنسبة لخالد؟ إنها بالنسبة له جديرة بأن يحمل السلاح ويموت من أجلها. لقد أخطأنا حين اعتبرنا أن الوطن هو الماضي فقط، أما خالد فالوطن عنده هو المستقبل، وهكذا كان الافتراق وهكذا أراد خالد أن يحمل السلاح، عشرات الألوف مثل خالد لا تستوقفهم الدموع المغلولة لرجال يبحثون في هزائمهم عن حطام الدروع، وتفل الزهور، وهم إنما ينظرون للمستقبل، ولذلك هم يصححون خطأنا وأخطاء العالم كله.

إن دوف خلدون -الذي ضاع وتربى في أحضان الأسرة اليهودية وتخلى عن دينه وتنكر لهويته- هو عارنا، ولكن خالد هو شرفنا الباقي، ألم أقل لك منذ البدء إنه كان يتوجب علينا ألا نأتي، وأن ذلك يحتاج إلى حرب.

أضاف الأب: يبدو أن كل فلسطيني سيدفع ثمنا، أعرف الكثيرين دفعوا أبناءهم، وأعرف الآن أنني أنا الآخر دفعت ابنا بصورة غريبة، ولكنني دفعته ثمنا.

في هذه الرواية استطاع غسان كنفاني أن يجعل رموزه أكثر سهولة، فالمستقبل هو خالد الثائر المقاوم الذي يعمل لتحرير فلسطين. إن المقاومة هي الحل الوحيد، والمستقبل هو خالد، أما خلدون الذي أصبح "دوف" فلا قيمة للدماء العربية التي تجري في شرايينه.

تلك هي الرسالة التي أراد غسان كنفاني أن يوجهها للأمة: المقاومة هي الطريق الوحيد للتحرر والتحرير.

أم سعد تكمل القصة

في روايته "أم سعد" يكمل غسان كنفاني الصورة، فأم سعد امرأة حقيقية، لكنها ليست امرأة واحدة، ولكنها صوت الطبقة الفلسطينية التي دفعت غاليا ثمن الهزيمة.

إنها امرأة قوية كما لا يستطيع الصخر، صبورة كما لا يطيق الصبر، تفوح منها رائحة المخيمات بتعاستها وصمودها العريق وببؤسها وآمالها. وأم سعد لا تقع ولا تبكي، وتقف مثل شارة الضوء في بحر لا نهاية له من الظلام، وتفخر بابنها الفدائي سعد الذي سيرجع حين يلتئم الجرح. وأم سعد تفوح من كفيها رائحة فريدة، رائحة المقاومة الباسلة حين تكون جزءا من جسد الإنسان ودمائه.

إن موت الثائر حدث مهم تماما كحياته، والجسد عندما تخترقه رصاصات الأعادي يفوح بالطيب الذي تستطيع أنوف الأحرار أن تشمه.

وهكذا تتضح رموز غسان كنفاني التي أصبحت مباشرة، ولا تحتاج إلى كثير عناء في فهمها.

اغتيال كنفاني

هل يشكل فهم رموز غسان كنفاني مدخلا لتفسير اغتيال الموساد له في الثامن من يوليو/تموز 1972 بانفجار سيارة مفخخة في بيروت؟ لقد استخدم غسان كنفاني الرموز في رواياته ليؤكد أن المقاومة هي الطريق الوحيد لتحرير فلسطين، وأنه إذا كان الإنسان حتما سيموت فإنه يجب أن يكون لموته معنى وقيمة، وأن يعيش من أجل قضية، ويكون مستعدا لدفع الثمن.

لذلك عبرت إسرائيل عن فرحتها باغتيال غسان كنفاني، وقالت جولد مائير: لقد تخلصنا من لواء فكري مسلح.

وهذا يوضح أهمية الأدب في مقاومة الاحتلال، وأنه يمكن أن يشكل خطرا على الاحتلال الصهيوني لفلسطين، وعلى كل المستبدين الذين يحمون هذا الاحتلال.

لذلك استخدم الاحتلال الصهيوني المتفجرات في مواجهة القلم والفكر والأدب الذي يحذر الشعوب من خطر الاستسلام والانبطاح والخضوع، ويلهم الشعوب الثورة والكفاح والمقاومة.

والموت واضح في كل روايات غسان كنفاني؛ لذلك يقول محمود درويش: جميل أنت في الموت يا غسان. أيها الفلسطينيون، احذروا الموت الطبيعي، فلا يكون الفلسطيني فلسطينيا إلا في حضرة الموت، لأن الوطن فيك حقيقي وشفاف، وابتكار لأنهار منحوتة مياهها من دماء مهاجرة.

موت الثائر

إن موت الثائر حدث مهم تماما كحياته، والجسد عندما تخترقه رصاصات الأعادي يفوح بالطيب الذي تستطيع أنوف الأحرار أن تشمه. وكل ما يستطيع الرصاص أن يفعله هو أن يفجر الطيب من أجساد الثوار. أما الذين يخنعون ويخضعون وينبطحون ويستسلمون فإنهم يموتون في الخزان من دون أن يأبه لهم أحد، وسيجدون "أبا الخيزران" دائما مستعدا لسرقة أموالهم وإلقاء جثثهم على قارعة الطريق.

وقبل أن نموت سنكتب شعرا ونثرا وحبا وعشقا للأرض وغضبا على الظالمين ونهتف ونصرخ وندق على جدران واقعنا البائس. سنموت ولكن سيكون لموتنا بالثورة معنى وقصة، وسيذكرنا الأحرار في كل العالم عندما يستمدون من قصص كفاحنا ضوءا على طريق الحرية.

وأمتنا تحتاج إلى أدباء يروون قصة كفاحها من أجل الحرية، وهي قصة تستحق أن تروى.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.