ابن زيدون في السجن.. لماذا يكره الطغاة من يتطلعون للمجد؟

ميدان - الآلهة قديما تمجيد الملك الاستبداد
والطغاة يبحثون دائما عن الضعفاء الذين لا يستطيعون التعبير عن رأي، أو مقاومة باطل، أو الدفاع عن الحق. (مواقع التواصل الاجتماعي)

يقدم لنا التاريخ كثيرا من الأدلة على كراهية الطغاة لكل من يتميز بالسمات التي تؤهله للقيادة والحكم، أو يمكن أن تتوق نفسه للمجد.

والطغاة يبحثون دائما عن الضعفاء الذين لا يستطيعون التعبير عن رأي، أو مقاومة باطل، أو الدفاع عن الحق.

لذلك اضطهد كثير من الطغاة المخلصين لهم الذين أسهموا في وصولهم للسلطة لمجرد شكهم في أنهم يمكن أن يهددوا سلطانهم لأنهم يمتلكون المواهب التي يمكن أن تلهم الناس وتؤثر فيهم.

يبدو أن الوزير ابن عبدوس -الذي كان يهيم حبا بولادة لكنه لا يجرؤ على الاقتراب منها في ظل وجود ابن زيدون- حذر ابن جهور من خطورة ابن زيدون على ملكه، وأن الناس تشتاق إلى ذلك الزمن الجميل الذي كان يحكم فيه بنو أمية.

في الوقت نفسه يوضح لنا التاريخ كيف يقرب الطغاة أنصاف الجهلاء لأنهم يخدمون ولي نعمتهم، ولا تتوق نفوسهم للحرية، لكن هؤلاء يسهمون في انهيار الدول وسقوطها، فيدرك الطاغية أنهم كانوا وبالا عليه؛ فهم لا يجيدون سوى المديح الزائف الذي يطرب لسماعه الطاغية زمنا، ثم يكتشف الحقيقة بعد أن يمضي زمن الانتفاع بها.

تاريخ ملوك الطوائف في الأندلس حالة كاشفة لخطورة اعتماد الحكام على المنافقين، وإبعادهم العلماء والقادة، حتى ينهار الملك فلا ينفعهم البكاء عليه كالنساء.

في مدينة الجمال

كانت قرطبة عاصمة الجمال والأدب والعلم، وحكمها أبو الحزم بن جهور الذي أسهم ابن زيدون في وصوله للحكم وبناء سلطانه وإخضاع الناس له.

وتمكن ابن زيدون من إلهاء الناس بشعره وقصة حبه لولادة بنت المستكفي، حيث كان ابن زيدون شاعرا متميزا استغل كل مواهبه لخدمة ابن جهور، وكان سياسيا يمتلك كثيرا من مؤهلات القيادة.

ولقد قربه ابن جهور فعينه وزيرا له، ومنحه لقب ذي الوزارتين، وهو منصب يعادل رئاسة الوزراء في زمننا، وأصبح ابن زيدون نجم قرطبة ومحور حديثها، تتغني بشعره النساء، ويحسده الرجال على ما يرفل فيه من نعيم، فهو المقرب من الحاكم الذي لا يطيق بعده، ولا تحلو حياته من دونه.

لكن هذا الحاكم فهم بنفسه أو نقل له الواشون أن نفس ابن زيدون تتوق للحكم والملك والمجد، وأنه قادر على أن يقود الناس بفصاحته وبيانه وحسن أسلوبه، ولا يأمن طاغية لشخص يمتلك تلك السمات.

ويبدو أن وزيرا آخر في بلاط ابن جهور هو ابن عبدوس -الذي كان يهيم حبا بولادة لكنه لا يجرؤ على الاقتراب منها في ظل وجود ابن زيدون- حذر ابن جهور من خطورة ابن زيدون على ملكه، وأن الناس تشتاق إلى ذلك الزمن الجميل الذي كان يحكم فيه بنو أمية.

لذلك يمكن أن يستغل ابن زيدون الظروف فيقود الناس للثورة ضد ابن جهور الذي تنكر فجأة لفضل ابن زيدون عليه.

والملك عند ابن جهور -كما هو عند كل الحكام- أعز وأغلى من أي شخص مهما بلغت مكانته، ومن أجل هذا الملك يمكن أن يتخلص حتى من الذين أسهموا في وصوله للحكم.

الطاغية لا يريد سوى العبيد الذين يحيطون به، ولذلك سجن ابن زيدون صاحب المواهب والمؤهلات السياسية والقيادية، ولم يستجب ابن جهور لقصائد المديح والتوسل التي أرسلها له ابن زيدون، والتي تعبر عن ذل كان أجدر به أن يصون كرامته عنه، وأن يحفظ عزة نفسه في سجنه، لكنه يبدو أنه قد تعرض لتعذيب وصفه بأنه "أليم" بعد مرور 500 يوم في سجنه، فقال:

فصبر مئين خمس من الأيام .. ناهيك عن عذاب أليم

إن هذا يمكن أن يعطي العذر لابن زيدون على ما حملته أبياته من استعطاف لابن جهور وخضوع وتوسل له، لكن ابن جهور ظل على عناده، وهذا يوضح أن التوسل للطاغية لا يزيده إلا غرورا واستكبارا وإعجابا بقوته الغاشمة.

لم يحصل ابن زيدون من قصائد المديح التي أرسلها لابن جهور إلا على خيبة أمل الناس فيه. فماذا كان يمكن أن ينال ابن زيدون من رفعة ومجد لو أنه تحمل سجنه وعذابه صابرا، ولم يكتب قصائد المديح والتوسل لابن جهور الذي يعرف الناس أن كل ما نسبه فيها لابن جهور من صفات محض زيف ونفاق؟!

وأنا أحب شعر ابن زيدون وأتعاطف مع مأساته، وأفهم شعور المظلوم، وأتخيل عذابه، لكنني أحاول أن استخلص من تجربته درسا؛ فابن زيدون لم يرتكب جريمة أو ذنبا سوى أنه رجل يمتلك السمات والمؤهلات والطموح التي جعلت الناس تتطلع إليه، وتعلق عليه آمالها في أن يقودها لتحقيق الحرية وإصلاح الدولة، ومقاومة الفساد والانهيار؛ لذلك كانت المقاومة تشكل لابن زيدون مجدا، وتفتح للناس باب الأمل في خروجه من سجنه ليقود ويصلح ويحمي الدولة من السقوط، وعناد الطاغية وغروره بقوته يجعل الصمود هو الحل الوحيد المتاح أمام ابن زيدون، وأمام كل مناضل.

لم يكن ابن جهور شجاعا

من أهم المعاني التي حملتها قصائد ابن زيدون وصف ابن جهور بالشجاعة والبطولة والإقدام، وابن زيدون يعلم يقينا أن ابن جهور لم يكن يقترب من تلك السمات، وأنه لا يجرؤ على حرب الصليبيين الذين يهددون دولته، وأن الفساد الناتج عن حب الترف يدمر ملكه.

هذا يعني أن ابن زيدون أسهم في خداع الناس، وتزييف وعيهم بدل أن يتقدم لقيادتهم بصموده ومقاومته، والناس في أشد الحاجة إليه كقائد يمكن أن يعبر عن آمالهم في بناء دولة قوية تواجه الصليبيين.

ولقد أصم الطاغية أذنيه عن توسل ابن زيدون بعد أن استمتع بمديحه ونفاقه. هناك جانب آخر تكشف عنه القصة هو أن الطاغية يستمتع باضطهاد ذوي الحسب والنسب والشرف. وكان ابن جهور يعرف نسب ابن زيدون، وأنه يمكن أن يكون القيادة الأصيلة التي تتطلع لها الجماهير.

وعندما تضعف الدول وتوشك على الانهيار يضطهد الطغاة أصحاب الأصل الطيب والشرف حسدا وخوفا منهم، ورغبة في اختفائهم؛ حتى لا يكون هناك سوى السفلة الذين يطيعون الأوامر، ويحنون الرؤوس طمعا في مال يتيح الغرق في الترف الذي يمكن أن يعوض الشعور بالنقص.

لذلك تجد أن أكثر من يتباهون بالترف ويظهرونه هم السفلة الذين يغدق عليهم الطغاة لطاعتهم وخضوعهم، فيخرجون للناس يتعالون بمظاهر زائفة وإنفاق سفيه على المظاهر؛ مثل حفلات الزفاف والسيارات الفارهة والقصور وإلقاء الأموال في حمام السباحة، في حين يتضور الشعب جوعا، ويموت فقرا وكمدا وقهرا واكتئابا.

عندما يداس المسك

تنبه ابن زيدون في بداية سجنه إلى هذا المعنى فقال:

فتأمل كيف يغشى .. مقلة المجد النعاس

ويفت المسك في الترب .. فيوطأ ويداس

في بداية سجنه كان ابن زيدون يدرك الحقيقة، وهي أنه المجد الذي غلبه النعاس، وأنه المسك الذي يدوسه الطاغية بأقدامه المتوحشة وقوته الغاشمة.

فلماذا انصرف ابن زيدون عن ذلك المعنى، وهانت عليه نفسه بعد مرور أقل من عامين في السجن؟ هل نسي ابن زيدون المعنى الجميل الذي عبر عنه في رسالته إلى أمه؟

وفي أم موسى عبرة إن رمت به .. إلى اليم في التابوت فاعتبري واسلي

وكان ابن زيدون هو الأولى والأجدر بأن يعتبر، وأن يحافظ على كرامته وعزة نفسه وآمال الناس فيه، فلا يتوسل للطاغية الذي يدفع الدولة إلى السقوط والهزيمة والخضوع للصليبيين.

ومات الحب

هل كانت تلك القصائد التي توسل بها ابن زيدون للحاكم الطاغية هي السبب في انصراف ولادة عنه ومقاطعتها له حتى بعد هروبه من سجنه، وهل خاب أملها فيه كما خابت آمال الناس؟!

لذلك فضلت ولادة ابن عبدوس الوزير الذي يملك أسباب الترف بعد أن خذلها ابن زيدون بانكساره وتوسله لابن جهور.

قد يكون ذلك هو التفسير لانصراف ولادة عنه وتفضيلها ابن عبدوس، فلم يعد ابن زيدون ذلك الفارس الشجاع القوي الذي تتعلق به الآمال، فلقد سجل عليه التاريخ قصائد يتوسل فيها للطاغية لا تليق بقائد أصيل، وهذا يشكل درسا مهما لكل من يتطلع لقيادة الجماهير؛ وهو أن الصمود في وجه الطغاة يلهم الجماهير ويثير إعجابهم.

لكن هذا لا يبرر أيضا موقف ولادة، فقد كان يمكن أن تقوم بدور مهم في شحذ عزيمته، وتقوية إرادته، وإعادة الشجاعة إلى قلبه بدل أن تسارع إلى الارتماء في أحضان عدوه، فتزيد همه وشقاءه وحزنه.

وربما يكون حب ولادة من أهم العوامل التي أدت إلى انكسار ابن زيدون في سجنه، وتوسله لابن جهور.

ورغم ذلك لم يكف ابن زيدون عن حب ولادة؛ فبعد هروبه من سجنه أرسل لها قصيدة تؤكد أصالة شاعريته، وقدرته على استخدام اللغة في التعبير عن معان جديدة ومتميزة، يقول فيها:

إني ذكرتك بالزهراء مشتاقا .. والأفق طلق ومرأى الأرض قد راقا

وللنسيم اعتلال في أصائله .. كأنه رق لي فاعتل إشفاقا

كأن أعينه إذ عاينت أرقي .. بكت لما بي، فجال الدمع رقراقا

ومع شعوري بالأسى على انكسار ابن زيدون في سجنه، وتوسله للطاغية، فلقد أحببت شعره منذ شبابي، وأقدر إبداعه كشاعر، ونظل نردد معه حين تحترق قلوبنا شوقا في السجون والمنافي:

أضحى التنائي بديلا من تدانينا .. وناب عن طيب لقيانا تجافينا

بنتم وبنا فما ابتلت جوانحنا .. شوقا إليكم وما جفت مآقينا

تكاد حين تناجيكم ضمائرنا .. يقضي علينا الأسى لولا تأسينا

لا تحسبوا نأيكم عنا يغيرنا .. أن طالما غيّر النأي المحبينا

ويا نسيم الصبا بلغ تحيتنا .. من لو على البعد حيا كان يسقينا

أما هواك فلم نعدل بمنهله .. شربا وإن كان يروينا فيظمينا

ستظل أبيات ابن زيدون الجميلة يتذكرها كل منفي أو مسجون أو محروم من رؤية الوطن والديار والأحباب، لكننا نتعلم من تجربته أن الصمود في وجه الطاغية يزيد الإنسان عزا وشرفا، وأنه يليق بقائد أصيل تتطلع له الجماهير وتعلق عليه آمالها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.