الحكّاء (28) | شانانا الذي لا يكف عن التمرد

خوسيه ألكسندر، أول رئيس لدولة تيمور الشرقية المستقلة (الجزيرة)

(1)

عندما تهب العاصفة، لا نعرف أحيانا ماذا علينا أن نفعل، لكننا نؤمن أن علينا أن نفعل شيئا ما، فمنا من يفضل التريث ودراسة الأمر وحساب الخطوات، ومنا من يفضل أن ينطلق فقط ثم يصحح خطواته القادمة، ويسير غير متلفت، إلى أن تأتي اللحظة المناسبة.

(2)

أتحمس لفكرة مقابلة رئيس الدولة الوليدة، وأخشى من الإجراءات المعتادة المعقدة، والفوضى سيدة الموقف. وأقرر وفريقي التوجه مباشرة إلى القصر الرئاسي دون سابق موعد، نسأل المارَّة فيُشيرون إلى مبنى بعيد من طابقين، نتوجه إليه وفي اعتقادنا أن ثمَّة حراسا سيقومون بإيقافنا، لكنهم لم يفعلوا، بل تركونا نمرّ بسلام. عند الباب حارس أدار هو الآخر رأسه عنا عندما وصلنا، سألناه، فنصحنا بالدخول وسؤال أيٍّ من الموظفين بالداخل.

ممر مظلم يواجهنا، فنطرق الباب ونسأل أحدهم "نريد مقابلة رئيس الجمهورية"، فينصحنا أن نصعد إلى الطابق العلوي، وتقابلنا هناك موظفة تسير مسرعة، وتشير إلى باب في نهاية الممر، نستأذن فيؤذن لنا، وندخل الغرفة التي يعمل بها 3 موظفين متطوعين، والمزينة برسوم جميلة رسمها الرئيس نفسه. نشرح للسكرتيرة الأمر، نريد إجراء مقابلة صحفية مع الرئيس، ثم يخرج مصادفة من غرفته، يحيينا بابتسامة لطيفة، ويتبادلان الحديث بصوت خافت، ثم تضرب لنا السكرتيرة موعدا في الغد، نخرج ونحن نضحك، فلم يمرّ بنا في مسار عملنا لقاء رئيس على هذه الشاكلة.

لا يتردد صاحبنا لحظة، يغادر بيته وعائلته ويلتحق برفاقه الذين قرّروا المقاومة، وقد شكَّلوا فرقا عسكرية واعتمدوا حرب العصابات سبيلا للمواجهة، وربّما ليس هناك أفضل من الغابات للاحتماء بها والانطلاق منها.

(2)

حين تتبَّعتُ قصته عرفت أنَّه وُلد هنا في "تيمور الشرقية" وتحديدا في قرية ليليا بمقاطعة مونتاتو، في 20 يونيو/حزيران عام 1946. كان أبوه معلما قادما من البرتغال، ويبدو أنه كان متديّنا، لذا حرص على إرساله إلى مدرسة كاثوليكية ما إن بلغ الـ12 من عمره.

كان الوالد يأمل في أن يصبح ابنه قسّا أو راهبا، لكن الولد رفع رايات التمرّد مبكرا، وقرّر الهرب من مدرسته بعد 4 سنوات، فإذا سألتَه إلى أين العزم يا صاح؟ أجابك سأكون صيّادا، وإذا كان ذلك غريبا، فإنّ الأغرب أنه قرر لاحقا القفز إلى مهنة أخرى مختلفة تماما، لقد عزم الأمر أن يكون مصورا صحفيا، ولتكون هذه المهنة بوابته إلى عالم الصحافة لاحقا.

وما إن بلغ الـ24 من عمره حتى أعلن "خوسيه ألكسندر" لأصدقائه وزملائه أن اسمه من اليوم أصبح "شانانا"، نسبة لفرقة "روك آند رول" (Rock and roll) الأميركية الشهيرة، وهو الاسم الذي عرف به لاحقا، وقد بات صحفيا في جريدة "صوت تيمور الشرقية".

يلتقي "شانانا" بـ"إيمليا باتبيستا"، فيتزوجان وينجبان طفلا يسمونه "نيتو"، لكن ثمَّة مفاجأة تقع وتُغيّر حاله تماما.

(3)

في ديسمبر/كانون الأول عام 1975 تشنّ الجارة إندونيسيا حملة عسكرية على بلاده، وتتمكن -بعد 7 شهور- من السيطرة عليها.

لا يتردد صاحبنا لحظة، فيغادر بيته وعائلته ويلتحق برفاقه الذين قرروا المقاومة، وشكّلوا فرقا عسكرية واعتمدوا حرب العصابات سبيلا للمواجهة، وربما ليس هناك أفضل من الغابات للاحتماء بها والانطلاق منها.

تشتد المعارك ويطول أمدها، وتتدفق الإمدادات على الجيش الإندونيسي فيطول اختباء ألكسندر ورفاقه في الغابات وسط حملات مكثفة للبحث عنهم والقبض على قيادات المقاومة.

ولأنه لا جدوى حتى الآن، يلجأ الجيش الإندونيسي إلى استخدام رهائن بشرية، وإجبارهم على السير مسافات طويلة داخل الغابات، والتهديد بقتلهم إن لم يخرج المقاتلون ويسلموا أنفسهم.

وتصل أعداد الرهائن إلى الآلاف حتى إنهم يملؤون نطاقا واضحا من الغابة، لكن التضامن في أوقات الخوف دائما ما يُميّز مواجهات الشعوب الراغبة في الحرية.

يكتشف بعض الرهائن وجود شانانا ورفاقه في بعض النقاط داخل الغابة فيحدثونهم خفية بلغتهم الأم محذرين إياهم من اقتراب الجنود الإندونيسيين فيهربون إلى نقاط أخرى.

(4)

يستمر الحصار الخانق داخل الغابة أكثر من 6 أسابيع، يكاد ينهار صاحبنا من شدة التعب وآلام المفاصل. يقود مجموعته القتالية من مكان إلى مكان، ويهربون من حصار الجيش الإندونيسي الذي يكاد يُطبق عليهم.

يفقد جنود الجيش الأمل في العثور على هذه المجموعات المسلحة المقاومة لاحتلالهم، فيقررون الانسحاب من الغابة وإنهاء الحصار، لكنّهم يمارسون نوعا آخر من الضغوط.

تقع زوجة ألكسندر وابنه في قبضة جنود الجيش، فيهددونهما بالسلاح، في محاولة لاستخراج معلومات عن مكانه، لكنهما ينجوان بأعجوبة من ذلك الموت المحقق، ثم تقرر زوجة ألكسندر الانفصال -هي وابنها- عنه نهائيا، بعد إصراره على مواصلة القتال، وينفصلان عام 1990.

(5)

يقع شانانا في أسر القوات الإندونيسية عام 1992 بعد 17 عاما من الحرب، وينقل إلى سجن في العاصمة الإندونيسية جاكرتا ليقضي عقوبة السجن بسبب مقاومته الجيش الإندونيسي في بلده تيمور الشرقية.

وبعد عامين في السجن، يلتقي بـ"كريستي" التي تسجن بسبب نشاطها في حركة المقاومة. ويقعان في الحب، ويقرران أن يستمر التواصل بينهما داخل السجن عبر مراسلات يمررانها خفية من الحراس، ثم يكبر الحب بينهما.

بعد ذلك، تحصل كريستي على حريتها، أما شانانا -بعد 7 سنوات في السجن- فينقل إلى إحدى المنازل ليقضي بقية مدة العقوبة في إقامة جبرية.

وفي أغسطس/آب عام 1999، يصحو شانانا على خبر استقلال بلاده بعد استفتاء شعبي ينهي سنوات الاحتلال، ثم يُطلق سراحه.

(6)

تبدأ حياة ألكسندر الجديدة في التشكل، حيث يتزوج من حبيبته التي التقاها بالسجن في يوليو/تموز عام 2000، وبعدها بأعوام ينجبان ابنين، وبذلك تتكون أسرته الجديدة.

وتُجري تيمور الشرقية أول انتخابات رئاسية عام 2002، ويترشح ألكسندر -أو شانانا غوسماو، كما يحب أن يلقب نفسه- ليفوز بمنصب أول رئيس لدولة تيمور الشرقية المستقلة، ويبقى في منصبه حتى عام 2007، لينتقل بعدها إلى منصب رئيس الوزراء، ثم يصبح وزيرا للتخطيط، فالمناصب كما يبدو لا تمثل له أهمية، المهم أن يؤدي دورا، أيّا كان هذا الدور، ما دام في خدمة بلاده.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.