علي عزت بيغوفيتش.. من السجن إلى رئاسة الجمهورية

علي عزت بيجوفيتش
علي عزت بيغوفيتش (رويترز)

دراسة تجربة علي عزت بيغوفيتش يمكن أن تفتح لنا مجالات جديدة لتطوير علم القيادة، ذلك أنها توضح أن التجارب الصعبة يمكن أن تؤدي إلى تأهيل الإنسان للقيادة، وتطوير رؤيته للمستقبل، وزيادة قدرته لإلهام الآخرين والتأثير عليهم.

قراءة التاريخ

كانت دراسة تاريخ البوسنة والهرسك دراسة معمقة من أهم مؤهلات علي عزت بيغوفيتش لقيادة شعبه، فقد تعلم من هذه الدراسة الاعتزاز بالهوية الإسلامية، فهي التي تميز شعبه؛ حيث يشير إلى أن حاكم البوسنة علي باشا هيتشموفيتش تمكن من أن يهزم الجيش النمساوي في معركة "بانيا لوكا" عام 1737، ونتج عن ذلك ترسيم الحدود الشمالية للبوسنة الحديثة خلال اتفاقية السلام التي تلت تلك الحرب وعرفت باسم "معاهدة بلغراد" عام 1739.

ومنذ ذلك التاريخ قام البوسنيون بمقاومة شرسة وثورات متكررة ضد محاولات أوروبا للسيطرة علي البوسنة، وإخضاعها للنمسا.

كان لأم علي عزت بيغوفيتش دور مهم في إعداد ابنها قائدا لشعب البوسنة؛ فقد تميزت هذه السيدة بالتقى والورع، وكانت حريصة على إيقاظ ابنها لصلاة الفجر، والذهاب إلى المسجد الوحيد في المنطقة، وكان ما يسعده هو الاستماع إلى تلاوة الإمام لسورة الرحمن

ولقد تعرض المسلمون في البوسنة للاضطهاد والقتل بشكل مستمر حتى بلغ عدد الذين قتلوا خلال الحرب العالمية الثانية 75 ألفا، وهو ما يعادل 8% من عدد المسلمين.

وقد تعامل الشيوعيون بعد الحرب العالمية الثانية بكل قسوة مع المسلمين، إذ تعرض 250 ألفا منهم لإعدامات جماعية قام بها تيتو في مسيرات الموت الإجبارية ومعسكرات الاعتقال خلال عامي 1945 و1946.

كما قام النظام الشيوعي بإغلاق المحاكم الشرعية والكتاتيب التي كان يتعلم فيها الطلاب القرآن، وحل جميع الجمعيات الإسلامية الثقافية والتربوية. وبالرغم من ذلك، فإن البوشناق لم يخضعوا واتجهوا إلى المقاومة السرية، واستمروا في تداول الكتب الإسلامية، وقد قامت منظمة الشباب المسلم في مقاومة الحملة ضد الإسلام حتى تم سجن المئات من أعضائها.

لذلك لم تختف الهوية الإسلامية في البوسنة، بالرغم من عمليات الاضطهاد والقهر التي قام بها النظام الشيوعي اليوغسلافي.

الوعي بالهوية

كان لأم علي عزت بيغوفيتش دور مهم في إعداد ابنها قائدا لشعب البوسنة؛ فقد تميزت هذه السيدة بالتقى والورع، وكانت حريصة على إيقاظ ابنها لصلاة الفجر، والذهاب إلى المسجد الوحيد في المنطقة، وكان ما يسعده هو الاستماع إلى تلاوة الإمام لسورة الرحمن.

ولقد عمل علي عزت بيغوفيتش مع مجموعة من زملائه الطلاب لتشكيل جمعية الشباب الإسلامي؛ مما أدى إلى اعتقاله عام 1946 ليقضي 36 شهرا في السجن.

بعد خروجه من الاعتقال، اضطر للتخلي عن حلمه في الالتحاق بمدرسة القانون، فدرس الاقتصاد الزراعي، لكنه استطاع الانتقال إلى تخصص القانون عام 1954، بالرغم من الرقابة التي ظلت تفرضها عليه السلطات الشيوعية.

يقول علي عزت بيغوفيتش "إن المرء لا يدري ما ينفعه وما يضره في الحياة، فلو لم يتم سجني عام 1946 -وهو ما اعتبرناه أنا وعائلتي أمرا كارثيا- لكنت حتما قتلت عام 1949، كما قتل المرحوم خالد كايتاز الذي تولى منصبي في منظمة الشباب المسلم بعد اعتقالي، فلقد حكم على خالد بالإعدام رميا بالرصاص في أكتوبر/تشرين الأول 1949، وهكذا أنقذ السجن حياتي".

بالرغم من السجن، حافظ علي عزت بيغوفيتش على عضويته في منظمة الشباب المسلم التي تعرض أعضاؤها لأحكام بالسجن بلغ مجموعها آلاف السنين، لكن ظل الأفراد يحافظون على الفكرة.

ونتيجة للأعمال العدوانية التي قام بها النظام الشيوعي، أصبحت سراييفو في حالة يرثى لها، فكانت متاجرها خاوية، والسجون ممتلئة بالشباب المسلم.

"البيان الإسلامي"

بعد تخرجه في كلية الحقوق عام 1956، عكف علي عزت بيغوفيتش على كتابة مقالات لكنها لم تنشر، وألف كتاب "البيان الإسلامي" الذي نجح في نشره عام 1970، وكان الكتاب عن العالم الإسلامي، وليس فيه ذكر ليوغسلافيا، إذ كانت الفكرة الأساسية فيه هي أن الإسلام وحده الذي يستطيع إعادة القدرات الخلاقة للشعوب المسلمة، بحيث يمكّن المسلمين مرة أخرى من أن يلعبوا دورا فعالا وإيجابيا في صنع تاريخهم.

وعام 1983، تم اعتقال علي عزت بيغوفيتش، وتم استجوابه لأكثر من 100 يوم تعرض خلالها للتجويع حتى أصبح شاحب الوجه.

وفي المحاكمة، ألقى بيغوفيتش على الجمهور تحية الإسلام "السلام عليكم" فغضب القاضي وحذره من ذلك، فرد عليه قائلا "إن من حقي أن ألقي التحية على أولادي الجالسين في القاعة".

وتم توجيه قائمة من التهم لعلي عزت بيغوفيتش ورفاقه، من أهمها العمل من أجل النهضة الإسلامية وأسلمة الدولة.

وكان دليل الاتهام هو كتاب "البيان الإسلامي"، ولقد تميز علي عزت بيغوفيتش بالشجاعة في التعبير عن آرائه في المحكمة؛ فقال بكل جرأة: "إنني أقر بأني مسلم وسوف أبقى مسلما، وأعتبر نفسي مدافعا عن قضايا الإسلام في العالم. إن الإسلام وعد وأمل بمستقبل أفضل للشعوب المسلمة، وفي حقهم في العيش بحرية وكرامة، وفي كل ما هو جدير بأن يحيا المرء من أجله". ولذلك، أصدرت المحكمة الشيوعية حكمها على علي عزت بيغوفيتش بالسجن 14 عاما.

في السجن الجنائي

تم نقل علي عزت بيغوفيتش إلى سجن فوتشا الرهيب في نوفمبر/تشرين الثاني 1983، وكان هذا السجن يضم المحكوم عليهم في الجرائم الجنائية، وتم وضعه في جناح الذين ارتكبوا جرائم قتل، وكان الهدف من ذلك هو أن يقوم السجناء بقتله.

عندما دخل علي عزت بيغوفيتش هذا السجن الرهيب أطلق لخياله العنان، وقال لنفسه إنه قد تجاوز الـ60 من عمره؛ لذلك فإنه سيموت في السجن.

كانت لحظة ضعف مر بها بيغوفيتش ككل إنسان، لكنه اكتشف أن الله أراد به خيرا بإرساله إلى جناح القتلة في السجن، فلقد تمكن هؤلاء المسجونون من تهريب الأوراق والأقلام له، فاستطاع أن ينتج 13 مجلدا، وقام المسجونون بتهريب كتاب "الإسلام بين الشرق والغرب" وكتب أخرى إلى خارج السجن في علبة لعبة الشطرنج.

ولقد أحب المسجونون علي عزت بيغوفيتش حيث وجدوا فيه خير عون لهم في قضاياهم، وكانوا يعترفون له بما ارتكبوه من جرائم، واكتشف أن معظمهم كانوا أناسا طيبين، وارتكب بعضهم جريمة القتل بدوافع "إنسانية"، مثل سجين قتل شخصا لأنه ضرب أباه.

بعد 6 سنوات قضاها علي عزت بيغوفيتش في السجن بدأ النظام الشيوعي ينهار، فخرج من سجنه ليتم انتخابه رئيسا لحزب العمل الديمقراطي الذي حصل في انتخابات نوفمبر/تشرين الثاني 1990 على 86 مقعدا من المقاعد الـ240 في برلمان جمهورية البوسنة والهرسك .

لكن الصراع اندلع عندما قام الصرب والكروات بالعدوان على شعب البوسنة المسلم بهدف تدمير هذا الشعب، بعد أن قام الصرب بالاستيلاء على كل أسلحة الجيش اليوغسلافي، وخاض علي عزت معركة المفاوضات، ومعركة الدفاع عن شعبه المسلم في مواجهة العدوان الصربي.

يرى بيغوفيتش أن الحرب بدأت عندما قامت قوات صربيا والجبل الأسود بغزو البوسنة، وكانت هذه القوات تعتريها روح القتل والنهب، في حين كان شعب البوسنة لا يمتلك السلاح الذي يدافع به عن نفسه، فلقد أصدر مجلس الأمن قرارا يقضي بفرض حظر على الأسلحة على جميع جمهوريات الاتحاد اليوغسلافي السابق، في حين كان الجيش البوسني هو الوحيد الذي حرم من وسائل تسليح نفسه بسبب هذا الحظر.

يقول علي عزت بيغوفيتش: "لم تكن الحرب في البوسنة منذ البداية بين جيشين متحاربين، ولكنها كانت هجمة عسكرية قوية ضد شعب أعزل، حيث كان الهدف هو إنشاء صربيا الكبرى".

ولقد أثبت علي عزت بيغوفيتش أنه يتمتع بقدرات متميزة في إدارة المفاوضات، وفي التعبير عن آمال شعبه، واستخدام كل الأدوات الدبلوماسية.

كما تمكن من أن يوضح للعالم نفاق أميركا والدول الأوربية وتحيزها ضد المسلمين، فشعب البوسنة يتعرض لعملية إبادة وتطهير عرقي.

كما حرص على أن يلتزم جيشه وشعبه بأخلاقيات الإسلام، ففي خطابه في نوفمبر/تشرين الثاني 1993، قال بيغوفيتش "إن الله ابتلانا بتحد مؤلم، لقد تم ذبحنا، وقتلت نساؤنا وأطفالنا، ودمرت مساجدنا، ولكننا لم ولن نقتل النساء والأطفال، ولم ندمر الكنائس، لأننا نبذل جهدنا كي نكون شعبا محترما في خضم وضعنا الصعب، ولأن القرآن الكريم الذي نؤمن به يمنعنا من ذلك".

وتابع بيغوفيتش قائلا "إن تسامحي جذوره إسلامية وليست أوربية، إن تسامحي ينبع من كوني مسلما أولا وأخيرا، إن أوروبا تعاني من بعض الأوهام التي لم تستطع تحرير نفسها من قيودها على الرغم من الحقائق الواضحة، فلقد دمرت خلال هذه الحرب المئات من المساجد والكنائس، وتم تدميرها جميعا من الأوربيين وليس من قبل البوشناق، وإن الفاشية والشيوعية من إنتاج أوروبا".

لقد قاد علي عزت بيغوفيتش عملية دفاع عن النفس في مواجهة عدوان يهدف إلى الإبادة العرقية للمسلمين، ووجه جيشه وشعبه للالتزام بالأخلاقيات الإسلامية والضمير، وبذلك تمكن من أن يحقق نصرا حضاريا إسلاميا في مواجهة غرور القوة الأوربية الغاشمة.

وكانت تلك نتيجة تجربته الطويلة في دراسة التاريخ الإسلامي بعمق، والوعي بالهوية، وسنوات طويلة قضاها في السجون يشكل فيها رؤيته لمستقبل شعبه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.