الشرق الأوسط 2050.. الدولة والثورة

Civilians gather as members of Sudanese pro-democracy protest on the anniversary of a major anti-military protest, as groups loyal to toppled leader Omar al-Bashir plan rival demonstrations in Khartoum
جانب من التظاهرات في السودان (أرشيفية- رويترز)

رغم صعوبة التفكير لـ3 عقود قادمة في بيئة تتسم بالتغير الشديد وعدم اليقين، فإن مراكز التفكير المهتمة بالمنطقة منذ العام قبل الماضي (2019) بدأت تطلق عددا من التقارير والمشاريع البحثية هدفها استطلاع الاتجاهات المستقبلية التي يمكن أن تبدو عليها منطقتنا في زمن بات قريبا. ويضاف إلى هذا عدد من التقارير التي تدرس الاتجاهات العالمية المستقبلية، مثل "تقرير الاتجاهات والسيناريوهات الإستراتيجية العالمية 2040" الذي أصدره مجتمع الاستخبارات الأميركي مارس/آذار الماضي.

في هذا المقال -الذي أتمنى أن يكون بداية سلسلة عن اتجاهات التفكير المستقبلي في أحوال المنطقة- نناقش ما يمكن أن نطلق عليه منهج النظر وطريقة التفكير في أحد هذه المشروعات الذي أطلقها برنامج "سيباد" (SEPAD) يونيو/حزيران الماضي (SEPAD › Discussions)، ولا تزال منتجاته مستمرة حتى الآن وتأخذ شكل مقالات قصيرة مركزة (صدر منها 10 مقالات) تطرح الأسئلة وتلتقط التوجهات التي يمكن أن ترسم ملامح المنطقة حتى عام 2050.

تأكد مع إرث العقد الماضي أن الدولة ستبقي الوحدة المركزية للتفاعلات الإقليمية، والشكل السائد للتنظيم السياسي في جميع أنحاء المنطقة، وفي الوقت نفسه فإن حلم استعادتها أو إعادة بنائها على أسس جديدة لا يزال أهم تطلعات شعوب المنطقة؛ بما يمكن اعتباره أهم مشروع سياسي لنخبة الحكم والمعارضة على حد سواء.

مشروع "الطائفية والوكلاء وإزالة الطائفية" (سيباد) ومقره جامعة لانكستر البريطانية مشروع تعاوني يهدف إلى تتبع ظهور وتطور العداء الطائفي في السياسة العالمية، بقيادة البروفيسور سيمون مابون والدكتور إدوارد ويستنيدج. وتسعى سيباد إلى التفكير النقدي في الظروف التي تؤدي إلى العنف الطائفي والعلاقات عبر الوطنية على طول الخطوط الدينية بهدف خلق مساحة لـ"نزع الطائفية" من الحياة الاجتماعية والسياسية. وسعيًا إلى تحقيق ذلك، يجمع البرنامج 50 خبيرًا عالميًا مشهورا وباحثًا من 20 دولة للمشاركة في مناقشات نقدية، وإنتاج المعرفة، وأنشطة التأثير، والتوعية والمشاركة الإعلامية حول مسائل الطائفية والسياسة الإقليمية.

ميزة المشروع أنه يعطيك "قماشة" واسعة من الموضوعات والقضايا التي تجمع بين 3 مستويات: الجيوسياسي والدولة والمجتمع، التي بدون تتبع ما بينها من تفاعلات وتقاطعات وتأثير وتأثر لا يمكن الحديث عن توجهات مستقبلية. أما الموضوعات والقضايا فقد تضمنت مروحة واسعة من حديث عن الدولة، والثورة وتطورات الهوية (سوريا) والتفاوتات الاجتماعية والسياسية والتنموية، أو ما تمت الإشارة إليه بـ"مناطق التضحية" في البحرين ودور الأبعاد الجيوسياسية والفواعل المتعددة سواء إقليمية كإيران أو ما دون الدولة كالسياسة المحلية وعبرها كداعش. كما تمت الإشارة إلى أنواع جديدة من التهديدات -مثل المخدرات- التي انتشرت في منطقتنا تعاطيا وتجارة بما يجسد الخلل الاقتصادي الاجتماعي الذي يواجه الدولة والمجتمع في المنطقة على السواء.

الدولة وحالة عدم اليقين

تأكد مع إرث العقد الماضي -عشرية الانتفاضات العربية- أن الدولة ستبقي الوحدة المركزية للتفاعلات الإقليمية، والشكل السائد للتنظيم السياسي في جميع أنحاء المنطقة، وفي الوقت نفسه فإن حلم استعادتها أو إعادة بنائها على أسس جديدة لا يزال أهم تطلعات شعوب المنطقة؛ بما يمكن اعتباره أهم مشروع سياسي لنخبة الحكم والمعارضة على حد سواء.

وبرغم هذه الحقيقة فإنه يصعب التأكد من طبيعة الدولة العربية في المستقبل، والعلاقة بين الحكام والمحكومين اللتين ستتحددان -وفق المشروع- بـ3 عناصر:

  1. مدى نجاح الحكام في معالجة التحديات المتداخلة للتغيير الديمغرافي والاجتماعي والاقتصادي والتكنولوجي والتغير المناخي والنماذج المعرفية الجديدة خاصة بين الشابات والشباب.
  2. الإستراتيجيات التي سيستخدمها الحكام لتنظيم الحياة داخل الدولة، بما يرسم -وفق تعبيري- ملامح العقود الاجتماعية وهيكل توزيع السلطة والثروة.
  3. المحدد الجيوسياسي ومدى تشكل الديناميكيات الإقليمية، وأنا أضيف أيضا الديناميكيات الدولية السياسة المحلية والعكس صحيح.

ربما يكون التحدي الأكبر الذي يواجه الدول في العقود القادمة هو تطوير استجابات مرنة للتغيير، ويرى المشروع أن عدم اليقين يتأتى من "3 مجالات رئيسية ستشكل طبيعة الحياة السياسية في السنوات القادمة:

  • التركيبة السكانية
  • الاقتصاد
  • الجغرافيا السياسية
    وفي هذا إغفال لـ3 مجالات أخرى ستكتسب أهمية كبيرة في المستقبل، وهي:
  • التغير المناخي الذي أشير إليه في المشروع على عجل
  • التطور التكنولوجي خاصة في مجال الذكاء الاصطناعي
  • وأخيرا رؤية الشباب للعالم

وفق المشروع، ربما يكون عدم اليقين الاقتصادي هو الأهم من بين هذه التحديات في العقود القادمة فالتغييرات الديمغرافية تعني أن ما يقدر بنحو 300 مليون شخص سيأتون إلى سوق العمل بحلول عام 2050، مما يتطلب تحولًا جذريًا في أسواق العمل الإقليمية كما قد يستمر صدى تداعيات الصراعات في الظهور وسيؤثر عدد منها على السياسة داخل الدول وفيما بينها، ولا سيما في ما يتعلق بظهور الجماعات العنيفة -الدينية أو غيرها- التي تتحدى طبيعة الدولة ذاتها.

وتفتح هذه التغييرات الديمغرافية الانقسامات الاجتماعية القائمة داخل الدول لا سيما حول مسائل الهوية والانتماء (من حيث الطائفة أو العرق أو الجنس أو الجنسية) ودور الدين والعمر والموقع الجغرافي. وتزيد تعقيدات التغيير الديمغرافي أيضًا من التحديات المتداخلة، مما يؤدي إلى تفاقم نقاط التمييز وكراهية الأجانب الحالية. هذا التقاطع بين الاقتصادي والديمغرافي والجيوسياسي يغفل تأثير العامل المعرفي القيمي خاصة بين شباب الطبقتين الوسطى والوسطى العليا في الحضر التي تتطلع نحو قيم ونماذج معرفية جديدة معولمة (انظر: الثورة المصرية والإعلام الجديد.. قراءة في النماذج المعرفية – هشام جعفر).

يلاحظ أن هذه التطورات والتفاعلات تحدث في بيئة شديدة التحضر؛ حيث يعيش 65% من سكان المنطقة في المدن، وهو رقم سيزداد في السنوات القادمة، وغالبًا ما تكون المدن مواقع تحديات متقاطعة.

الخلاصة أن ما يجب أن نتابعه لأنه يرسم ملامح المستقبل هو استجابة أنظمة الحكم للتحديات الأساسية من اقتصاد وزيادة سكانية وتغير مناخي وتطور تكنولوجي وكذا تغير أنماط المعرفة والقيم وسط الشابات والشباب في ظل أوضاع تتقاطع فيها الأبعاد الجيوسياسية مع السياسة المحلية، إلا إنه بدون تحول جذري في العلاقات بين الحكام والمحكومين من الصعب رؤية الوضع يتغير حيث يشير نهج بديل عن السائد اليوم إلى ضرورة إصلاح العقود الاجتماعية في محاولة لخلق مزيد من الاستثمار والمشاركة مع الدولة، بدعم من التحركات نحو الديمقراطية والحكم الرشيد واحترام حقوق الإنسان.

ينتهي الباحث إبراهيم حلاوة إلى أنه "في ظل غياب معارضة منظمة يمكنها حشد الموارد واستخدامها إستراتيجيًا والقدرة التكنولوجية على استباق تشكيل مثل هذا البديل فمن غير المرجح أن تتخذ التوترات الناتجة منعطفًا سياسيًا". بعبارة أخرى، رغم الأشكال المختلفة للاضطرابات المحلية، فمن غير المرجح أن ينتج عنها حكومة ثورية. وبالتالي، فإن الإمكانية الوحيدة المتوقعة للثورة هي من داخل المؤسسة أو الجيش أو النخب البيروقراطية.

ويتوقع حلاوة أن "الأزمات الاقتصادية التي تتكشف نتيجة لكوفيد-19 ستدفع الأنظمة الاستبدادية إلى الاستثمار بإلحاح أكبر في المراقبة بدلاً من إخراج مجتمعاتها من الأزمة بأقل قدر ممكن من الضرر"، ويضيف أنه "ستسعى الطبقة الوسطى الماهرة إلى الهجرة حيث يصبح الاقتصاد المحلي غير قادر بشكل متزايد على إنتاج وظائف تتطلب مهارة، في حين أن أولئك الذين يفشلون في القيام بذلك وأولئك الذين لا يمتلكون المهارات في المقام الأول للتوظيف المستدام عرضة لأعمال الشغب العرضية أو الجريمة المنظمة التي لا تشكل مخاطر هيكلية أو وجودية على النظام السياسي".

ووفقا لحلاوة، هناك 3 اتجاهات ستبرز في المستقبل:

أولاً: لبنان هو الأكثر عرضة للثورة؛ فالنظام السياسي مشلول هيكليا، وتقلص الاقتصاد بمقدار النصف في عام واحد ولم يعد الرعاة الخارجيون مستثمرين في نخبها التقليدية، والمعارضة لديها بالفعل موارد لتعبئة وتحدي النظام، لكنها لم تقدم بعد مشروعًا بديلا جذريا.

 ثانيًا: قدرة المعارضة على التعبئة في البلدان الأخرى ضيقة جدًا. لذلك، حتى لو اندلعت احتجاجات واسعة النطاق، وربما في بلدان أخرى في المنطقة، فإن غياب المعارضة السياسية المنظمة يقلل بشكل وشيك من إمكانية تحويل هذه الاحتجاجات إلى ثورة تسعى وراء السلطة.

ثالثًا: في ظل غياب معارضة منظمة وذات حيلة، فإن الاحتجاجات تصبح نقاط ضغط تستفيد منها النخب التقليدية لتحديد النتائج أو تطوير مواقعها داخل النظام نفسه.

في هذا السياق، تأتي آفاق الثورة -على حد قول حلاوة- من الأعلى: النخب العسكرية أو البيروقراطية الطموحة التي تنقلب ضد المؤسسة، وغالبًا ما تتآمر مع قوى إقليمية أو دولية.

الافتراض الكامن وراء هذه الرؤية -التي يستقيها إبراهيم حلاوة من خبرة الربيع العربي- أن السلطة الحاكمة في المنطقة تستطيع أن تطور مواردها وتعظمها بشكل دائم ومستمر في ظل عجز جماهيري عن امتلاك الموارد مثلها أو إبداع أشكال جديدة منها: "لقد تم تحصين الثورة المضادة التي أفهمها أيضًا على أنها استباقية وعملية وطويلة الأمد في جميع أنحاء المنطقة"، كما أن الأنظمة زودت بعضها بعضا "بالدروس والموارد، كما تعلموا من تأثير الدومينو للربيع العربي (إذا لم يكونوا يعرفون بالفعل) أن بقاءهم يعتمد على بعضهم بعضا".

ورغم اتفاقنا مع الباحث حول حدود التغيير في المنطقة نتيجة غياب المعارضة المنظمة وقدرتها علي حشد الموارد التي يتسع سيطرة الأنظمة عليها والتي راكمت خبرة وتعاضد فيما بينها في ظل الثورة المضادة -برغم اتفاقنا مع هذا كله- فإن التحفظ يأتي من 3 أوجه: الأول أن الانتفاضات العربية -التي هي تعبير عن التفاعل الشبكي للسياسات- فاجأت الجميع ولم يتوقعها أحد لا من السلطة ولا المعارضة ولا مراكز التفكير وأجهزة الاستخبارات ويرتبط بذلك. والثاني هو ما طورناه وأطلقنا عليه "النموذج الانتفاضي العربي" الذي من أهم خصائصه مفهوم "الإنسان السر" الذي يتبدى في 3 ظواهر متكاملة:

  • عدم القدرة على توقع سلوكه وتصرفاته.
  • تعقيد الدوافع والأسباب المحركة التي لا يمكن تفسيرها بشكل مادي فقط، وفي الوقت نفس لا يمكن إغفال الجوانب المادية منها.
  • الاهتمام بخصوصية الإنسان بوصفه إنسانا بأبعاده الفريدة المركبة وبخصوصية السياق الذي يعيش فيه.

كما يعارض هذه الرؤية طبيعة دولة المستقبل (انظر: نموذج الدولة المستقبلية في 2040: جمهور أكثر طلبا وقدرة – هشام جعفر)، التي رسمها تقرير مجتمع الاستخبارات الأميركية الذي يرى أن الشعوب كما الحكومات ستطور قدراتها؛ فمن المرجح أن تواجه العلاقات بين الحكومات ومجتمعاتها توترات مستمرة بسبب عدم التوافق المتزايد بين ما يتوقعه الجمهور وما تقدمه الحكومات. وهذه الفجوة الآخذة في الاتساع تنذر بمزيد من التقلبات السياسية والاحتجاجات، وتهديد وتراجع للديموقراطية وفجوة في الحوكمة تقوم أطراف أخرى -بخلاف الحكومات والدول- بملئها؛ فتتوسع بذلك المصادر البديلة للحكم ويكون هناك تطلع دائم لحوكمة تكيفية، وحكم محلي قد يتناقض في سياساته مع المستوى الوطني، ولكن لديه قدرة على الاستجابة الفاعلة لاحتياجات مجتمعه. وفي ظل هذه السياقات، لا يتوقع أن نكون بإزاء أيديولوجيات جديدة ولكن مناهج مختلفة في الحكم إن توفرت الشروط اللازمة لإنتاجها.

هذه هي أبرز سمات الدولة والحكم خلال العقدين المقبلين كما انتهى إليه "تقرير الاتجاهات والسيناريوهات الإستراتيجية العالمية". والملمح العام للمستقبل -كما يشرحه التقرير- هو عدم التوافق بين الطلبات العامة والقدرات الحكومية، فعلى مدى العقدين المقبلين من المرجح أن تواجه العلاقات بين الدول ومجتمعاتها في كل منطقة توترات مستمرة بسبب عدم التوافق المتزايد بين ما يحتاجه الجمهور أو يتوقعه وما يمكن للحكومات تقديمه أو ما الذي تكون مستعدة لتقديمه. ففي العديد من البلدان، من المرجح أن يواجه السكان الذين زادت توقعاتهم بسبب التنمية البشرية والازدهار الاقتصادي السابق ضغوطًا واضطرابات أكبر بسبب تباطؤ النمو وقلة فرص العمل غير المؤكدة التي أعادت التكنولوجيا صياغتها والتغيرات الديمغرافية، وستكون هذه الشعوب أيضًا مجهزة بشكل أفضل للدفاع عن مصالحها بعد عقود من التحسينات المطردة في التعليم والوصول إلى تقنيات الاتصال بالإضافة إلى التماسك الأكبر للمجموعات ذات التفكير المتماثل. ورغم أن الثقة في المؤسسات الحكومية منخفضة بين عامة الناس، فمن المرجح أن يستمروا في النظر إلى الدول باعتبارها مسئولة -في نهاية المطاف- عن مواجهة تحدياتهم والمطالبة بالمزيد من حكوماتهم بتقديم الحلول.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.