أم عسكر.. رائدة "النضال المستتر" وأم المقاومين الفلسطينيين

الحاجة الفلسطينية نايفة الكيلاني اشتهرت بلقبها "أم عسكر" (الجزيرة)

نابلس – بينما هي تغط في سبات عميق كنا نطرق باب منزلها استئذانا للدخول، فأم عسكر أعياها المرض وأقعدها حتى عن فتح الباب واستقبال الضيوف، وهو ما فعلته في أخطر الأوقات وأصعبها خلال اقتحامات جيش الاحتلال الإسرائيلي لبيتها مرات ومرات.

في الحي الغربي من نابلس القديمة (شمال الضفة الغربية) وفي حوش الأتيرة بسوق الحدادين كان ولا يزال منزل نايفة زيد الكيلاني (أم عسكر) شاهدا على بطولة السيدة الستينية بإيواء المطاردين والمقاومين الفلسطينيين في انتفاضة الأقصى غير آبهة بعقاب الاحتلال وإجراءاته التي تعدّت حد إصابتها واعتقال زوجها أبو عسكر إلى التهديد بالاغتيال.

وتحت قنطرة طويلة سرنا إلى بيت أم عسكر نتلمس حجارته القديمة الممتد عمرها إلى آلاف السنين كحال منازل نابلس القديمة، ورحنا نستنطقها كي تشي لنا بسرّ هذا الصمود الأسطوري، في حين راح أبو عسكر يوقظ زوجته ويحضرها للقائنا.

أبو عسكر ساند زوجته في إيواء المطاردين ورفدهم بما يحتاجون (الجزيرة)

افتداء بكل شيء

وإلى سنوات خلت عدنا بأم عسكر لتحدثنا عن إيوائها المطاردين وتأمين حاجاتهم، فأسعفتنا رغم شدة مرضها بكلمات أحدثت وقعا في مسامعنا، وقالت للجزيرة نت "رأيتهم يفترشون الأرض، ويلتحفون السماء، ويحملون أرواحهم فوق أكُفّهم يدافعون عن وطنهم، فكيف أتركهم؟!".

ومع زوجها واصلت أم عسكر نضالها مضحية بكل شيء، فكانت لهم الأم والطبيبة والعين الساهرة التي ترقب كل صغيرة وكبيرة لتمنع عنهم أي أذى "فهم خلفوا أهلهم وأطفالهم وجاؤوا ليدافعوا عن الوطن".

حينئذ كانت أم عسكر تتخذ من مطبخها الصغير وسيلة لكسب الرزق، فتعدّ به الطعام الجاهز وتنظف "الفوارغ" (أمعاء الأغنام)، وما تدّخره من مال تنفقه لمساعدة المقاومين، فلم تقدم الطعام والشراب فحسب بل قاسمتهم منزلها؛ غرفة لها ولعائلتها والثانية لهم.

وحتى غرفتها الوحيدة امتلأت جدرانها بصورهم ورسائلهم وأعمالهم الفنية، وتحاول كلما نظرت إليها تصبير نفسها على فراقهم.

وكأحد منازل "نابلس القديمة" التي احتمى بها المقاومون آنذاك بفعل طبيعتها الجغرافية المعقدة؛ شكل منزل أم عسكر حصنا منيعا أمام الجيش الإسرائيلي واقتحاماته المتكررة، وما تبعها من احتجاز وتحقيق وتهديد تحت طائلة المسؤولية بتسليم المقاومين حينما دعاها الضابط الإسرائيلي "نمرود"، وقال لها "نتفاوض كابتن إلى كابتن".

ويشرح عزام الكيلاني (أبو عسكر) كيف اعتقله جنود الاحتلال، وجابوا به شوارع نابلس قبل أن يتركوه مكبلا وسط حالة من الهلع والخوف.

ويتخذ أبو عسكر (65 عاما) من كشك صغير عند باب منزله لبيع القهوة وسيلة لكسب الرزق ليرعى نفسه وزوجته المريضة.

ويشير أبو عسكر إلى ثقوب أحدثتها رصاصات الاحتلال في الباب وسقف الغرفة، ويرفع يده صوب سطح المنزل ويقول "انظر هناك، من تلك الزاوية سقط جندي إسرائيلي، كان وآخرون يلاحقون المطاردين فخرَّ أرضا ومات بعد يومين".

أم عسكر تحتفظ بصور ورسائل لمطاردين منهم من استشهد وآخرون أُسروا (الجزيرة)

أمهم التي لم تلدهم

استجمعت أم عسكر قواها ثانية، واستطردت تقول إن من "أبنائها المطاردين" بعد كل هذه السنين من قضى نحبه فغدا شهيدا وآخرين يقبعون أسرى في غياهب سجون الاحتلال.

ومن يستشهد يؤتى به إلى أمه "أم عسكر" بمنزلها لتودّعه بالزغاريد، وحبل ودّها لا ينقطع مع من يعتقل منهم وتنتدب حفيداتها لزيارته، فهي ممنوعة من ذلك.

تقول رسالة بعثها الأسير "ساجد" من سجنه إلى أم عسكر "أجمل الأمهات التي انتظرت ابنها وعاد مستشهدا، لهذا ليس هناك ما يوفيك حقك يا أمي".

يقول زاهر الششتري القيادي بالجبهة الشعبية الذي واكب دور أم عسكر عن قرب للجزيرة نت "استقبلتهم بمنزلها مطاردين وشهداء، وأقامت لهم به بيوت عزاء، وسارت بجنائزهم، واتشحت بالسواد حزنا عليهم".

وبلغ بها أن كانت تتركهم بالمنزل أياما، وأن يحدثوا في بنيته الإنشائية ويطوّعوه لخدمتهم وحاجتهم.

واشتهرت الحاجة نايفة الكيلاني بلقبها "أم عسكر"، أما هي فلم تنجب سوى ابنة وحيدة، وعرفت "تمويها" باسم "شريفة الكيلاني" وهو ما كان يُحير جيش الاحتلال كلما اقتحم منزلها.

أم عسكر لا تزال تحتفظ بصور المطاردين على جدار غرفتها (الجزيرة)

نضال مستتر

ولم تخض أم عسكر النضال في انتفاضة الأقصى فحسب، وإنما هذا فعلها في انتفاضة الحجارة عام 1987، فكانت تُهرِّب المناضلين وتمدّهم بالطعام والشراب.

وطالما أحبّت أم عسكر النضال وكانت بطليعة المقاومة، فقد ولدت في كنف أسرة ثورية في بلدها ميثلون قرب مدينة جنين (شمال الضفة الغربية).

واكتسبت من والدها الذي كان ينتمي لمجموعة الفهد الأسود (الجناح العسكري لحركة فتح أواخر الثمانينيات) معنى المقاومة، وارتشفت المهابة ورباطة الجأش معا.

ثمة شيء آخر يراه علام كعبي الأسير المبعد إلى غزة وأحد المطاردين الذين احتضنتهم أم عسكر؛ هو كيف شكَّلت نموذجا فريدا "للنضال الفلسطيني المستتر"، فلم تقصد مالا أو شهرة وإنما أرادت ممارسة حنان الأمومة لمن تقطعت بهم السبل.

"كيف لا؟ وهي التي منحتنا أكثر من حنانها حين كنا نتحوط مائدة السفرة، وكانت تلح علينا لتناول مزيد من الطعام"، يقول كعبي للجزيرة نت، ويضيف مستذكرا كيف كانت تطبّبه وتقف فوق رأسه ساعات حين ألمَّ به المرض.

أما المنزل فكان تحت تصرفهم من دون تكلف، "وكانت تتفقدنا إن أطلنا الغياب وتنتظرنا عند باب المنزل"، وكانت تحزن بصمت إذا استشهد أو أسر أحدنا، فهي أمنا التي لم تلدنا، وهي المرأة التي تجسد الوطن بقلبها".

وذات مرة ابتاعت أم عسكر -يتابع كعبي- أسرَّة على حسابها الخاص لتوفر مبيتا نظيفا وآمنا، ففي حضرتها لا تشعر بأنك ملاحق ومطلوب للاحتلال، وتدخل قلعة حصينة لا يصيبك أي أذى كان ما دمت فيها "وهذه القلعة هي قلب أم عسكر".

وختم كعبي حديثه معنا بعبارة "سامحيني أيتها الوفية"، فهو يعد نفسه مقصرا تجاهها، وهو ما علق عليه زاهر الششتري قائلا بشيء من العتاب "إن أم عسكر قصة وطن، وهي لم تأخذ حقها لا سيما أن بعض من آوتهم أصبحوا بموقع المسؤولية".

لا يزال منزل أم عسكر شاهدا على تفاصيل حكاية نضالها التي يذكرها كل من عاشها، أما هي فكلما أتت على سيرة "أبنائها المقاومين" استنهضت جسمها المنهك وألقت عليهم السلام والمسامحة.

المصدر : الجزيرة