بالصور- الألمان نهبوا بوابتها الشهيرة وما زال الغموض يكتنفها.. مدينة بابل الأثرية تواجه الخطر

الغموض الذي يكتنف بابل يرجع إلى أن معظم المدينة لم يتم التنقيب عنه أو مسحه

Foreign tourists look at the statue of the Lion of Babylon inside the ancient city of Babylon near Hilla, south of Baghdad
تمثال أسد بابل الشهير الذي يعد أحد أهم المعالم في المدينة (رويترز)

تواجه مدينة بابل الأثرية القديمة (جنوب العاصمة العراقية بغداد) تهديدات من الماضي والحاضر، مع انهيار بعض جدرانها، ويكافح دعاة الحفاظ على التاريخ لحماية إرثها العريق.

وحتى مع انشغالهم بالوضع الأمني غير المستقر في البلاد والمشاكل السياسية والاقتصادية الملحة، فلا تزال قلوب العراقيين متعلقة بمدينتهم التاريخية؛ بوصفها جزءا لا يتجزأ من هويتهم.

وقالت الصحفية الكندية جاين عرّاف -في تقرير نشرته صحيفة نيويورك تايمز (THE NEW YORK TIMES) الأميركية- إن الحكومة العراقية تعاونت مع مجموعة من علماء الآثار في مشروع الصندوق العالمي للآثار والتراث لوقف الضرر الذي لحق بمدينة بابل، التي يعود تاريخها لأكثر من ألفي عام.

وذكرت الكاتبة أن سنوات من الجهود العراقية آتت أكلها، حيث تم تصنيف بابل قبل عامين ضمن لائحة منظمة الأمم المتحدة للتربية والتعليم والثقافة "يونسكو" (UNESCO) لمواقع التراث العالمي، وبذلك تم الاعتراف بالقيمة الثقافية العالمية الاستثنائية لمدينة كانت تعد الأكثر إبهارًا في العالم القديم، لكن بابل تعاني حاليًا من الإهمال في وقت لا تزال فيه آثار النهب الذي تعرضت له في الماضي واضحةً.

To match Feature IRAQ-ANTIQUITIES/
بوابة عشتار التي أعيد بناؤها في بابل بعد نهب علماء الآثار الألمان البوابة الأصلية (رويترز)

تاريخ من الآلام

قبل قرن من الزمان، نهب علماء الآثار الألمان أحد أهم أجزاء المدينة بوابة عشتار، التي أعيد بناؤها باستخدام البلاط المزجج الأصلي، لتصبح مجرد قطعة استعراضية في متحف بيرغامون في برلين، كما بيعت قطع أخرى من جدران بابل لمؤسسات أخرى، بما في ذلك متحف متروبوليتان في نيويورك.

ومثل العديد من المواقع الأثرية في العراق في العصر الحالي، أصبحت بابل في حال يرثى لها؛ فقد تسببت العوامل الطبيعية وعمليات إعادة الإعمار في انهيار الجدران، وتهدد مشاريع البناء وخطوط الأنابيب مناطق شاسعة من المدينة التاريخية.

بابل من أقدم المدن في العالم ومهد شريعة حمورابي (رويترز)

عند زيارة الآثار التي تقع على بعد نحو 80 كيلومتر جنوب بغداد، لن ترى سوى جزء صغير من المدينة الذي أعيد ترميمه، بما في ذلك الجدران التي كانت تدعم بوابة عشتار. وحتى منتصف القرن العشرين، عانت بابل لمئات السنين من التدنيس، في حين كان سكان البلدات المحيطة يفككون جدرانها لاستخدام الطوب القديم في عمليات البناء.

في الماضي، اتخذت الإمبراطورية البابلية القديمة المدينة -التي يبلغ عمرها 4 آلاف عام، والتي ورد ذكرها مئات المرات في الإنجيل- عاصمةً لها، واعتُبرت أكبر مدينة في العالم حينها.

وكانت بابل مهد شريعة حمورابي، وهي مجموعة من أقدم القوانين والعقوبات المسجلة، إلى جانب العديد من التطورات في علم الفلك والعلوم الأخرى.

وأشارت الكاتبة إلى أن بعض الجدران ونقوشها الطينية التي يبلغ عمرها 2500 عام، والتي تصور التنانين والثيران المرتبطة بالآلهة؛ لا تزال قائمة، لكن العديد من أحجار الطوب بدأت تتآكل، ومع ارتفاع منسوب المياه الجوفية، تواجه جدران بأكملها خطر السقوط.

ويقول دعاة الحفاظ على التراث إن مجرد تركيب نظام لمنع المياه من التسرب سيكلف عشرات الملايين من الدولارات.

Jeff Allen has been working on the Babylon site since 2009. The 2,500-year-old dragon relief behind him is related to Marduk, the patron deity of Babylon.Credit...Abdullah Dhiaa Al-deen for The New York Times
ألين يقول إن الطوب في مدينة بابل يتعرض للمياه والجفاف وارتفاع الأملاح مما يسبب انهياره (نيويورك تايمز)

انهيار الطوب

وفي هذا الصدد، قال خبير الآثار جيف ألين، الذي يقود مشروع الصندوق العالمي للآثار والتراث في بابل منذ 2009، إن "الطوب في هذه المنطقة يتعرض بشكل متكرر للمياه والجفاف وارتفاع الأملاح؛ مما يسبب انهياره".

مع ذلك، يظل مصدر أكبر التهديدات التي يتعرض لها هذا الموقع الأثري من صنع الإنسان؛ فداخل أسوار مدينة بابل الخارجية تقوم وزارة النفط العراقية ببناء محطة قياس لأحد خطوط الأنابيب الثلاثة التي تم مدّها في السنوات الأخيرة، في حين يتزايد عدد المنازل التي يتم تشييدها في محيط المدينة الأثرية.

ورغم بذل المسؤولين العراقيين قصارى جهدهم لحماية الموقع أثناء العمل على تصنيفه ضمن لائحة التراث العالمي، وتمكّن مجلس الدولة للتراث من السيطرة على السكان، فإن هذه الجهود تراجعت منذ ذلك الحين، وبات من الصعب الآن إيقاف عمليات البناء غير القانونية في الموقع.

وأظهر تقرير صادر عن المتحف البريطاني أن بابل تعرضت لأضرار هائلة بعد غزو العراق عام 2003، حيث بنى المقاولون العسكريون الأميركيون قاعدة على أرض الموقع، وحفروا الخنادق، وقادوا مركباتهم المدرعة في الشوارع الهشة، وملؤوا أكياس الرمل بالتراب الممزوج بالفخار وشظايا العظام.

People visit the ancient city of Babylon near Hilla
بابل لم تستثمر سياحيا بسبب الإهمال (رويترز)

وقالت الكاتبة إن الأميركيين لم يكونوا أوّل المعتدين، حيث سبقهم البريطانيون في عشرينيات القرن الماضي، الذين مدّوا خطوط السكك الحديدية عبر الموقع الأثري كجزء من سكة حديدية تصل بين بغداد والبصرة. وفي وقت لاحق، بنى العراق طريقا سريعا مجاورا.

وفي ثمانينيات القرن الماضي، بنى الرئيس العراقي الراحل صدام حسين -الذي اعتبر نفسه خليفة للملك البابلي نبوخذ نصر- قصرًا كبيرًا يطل على الموقع الأثري، وأمر بترميم جديد لأجزاء من المدينة، مما زاد التحديات للحفاظ على الموقع الأصلي.

فقد وُضع الطوب الحديث الثقيل فوق الطوب الأصلي القديم، واحتجزت الأرضيات الإسمنتية الجديدة المياه، كما ضغط السقف الإسمنتي لأحد المعابد القديمة على الهيكل بأكمله.

A view of a dragon on the wall of the ancient city of Babylon near Hilla
أحد جدران بابل القديمة (رويترز)

وأوضحت مختصة العمارة الترابية الإيطالية جوزفين ديلاريو التي تعمل في الموقع أنه "خلال السبعينيات والثمانينيات كان من المعتاد استخدام الإسمنت، وبعد عقود نرى أن الإسمنت يتسبب في عدة أضرار".

وبعد تأخير استمر عامًا بسبب جائحة كورونا، عاد فريق الصندوق العالمي للآثار والتراث إلى بابل ليقرر أفضل السبل لإصلاح الضرر في الأماكن التي يمكن أن تؤدي فيها محاولات إزالة الإسمنت إلى تفاقم المشاكل.

بدوره، قام مشروع مستقبل بابل التابع لصندوق غير ربحي، والممول جزئيًّا من وزارة الخارجية الأميركية، بتدعيم الجدران الآيلة للسقوط وتثبيت تمثال أسد بابل الشهير، كما يقوم بتدريب فنيي الصيانة العراقيين وتقديم المشورة بشأن إدارة الموقع.

An overview of the ancient city.Credit...Abdullah Dhiaa Al-deen for The New York Times
منظر عام لمدينة بابل الأثرية (نيويورك تايمز)

مدينة من الأسرار

وذكرت الكاتبة أن بابل كانت حاضرة بشكل كبير في مخيلة العالم، إلا أن النقاب لم يكشف عن كل ما تحمله من أسرار وحقائق تاريخية.

ولم يكشف أي دليل أثري عن حدائق بابل المعلقة المعروفة بأنها إحدى عجائب الدنيا السبع في العالم القديم؛ ولم يتم تحديد موقع الزقورة التي قيل إنها برج بابل الموصوف في العهد القديم من الإنجيل.

ويعزى قدر كبير من الغموض إلى أن معظم المدينة -التي تبلغ مساحتها 4 أميال مربعة- لم يتم التنقيب عنه أو حتى مسحه.

وحيال هذا الشأن، قال أولوف بيدرسن الأستاذ الفخري في علم الآشوريات بجامعة أوبسالا السويدية ومستشار الصندوق العالمي للتراث والآثار إنه "لم يتم التنقيب إلا عن بعض المباني الكبيرة والمعروفة، في حين تبقى معظم أجزاء المدينة غامضة". ولأن الملك نبوخذ نصر بنى القصور والمعابد فوق أنقاض سابقتها، فهناك طبقات كاملة من المدينة تحت الأرض وتحت الماء.

وأضاف بيدرسن أنه "لا يسعنا إلا التخمين بأي عمق تصل المدينة". أما فيما يتعلق بالآثار والكنوز التي غرقت هناك، فقد أكد بيدرسن أنه "لا يملك أدنى فكرة عنها".

المصدر : نيويورك تايمز