شعار قسم ميدان

التألق بين النظام والفوضى.. هل وصل تشافي وبرشلونة إلى "كيمياء النجاح"؟

"النهائيات تُكسب ولا تُلعب"، عبارة تتردد دائما لدرجة أنها ترقت إلى اعتقاد راسخ عند الجماهير، لكن الفريق الوحيد الذي يُنتقد في حالة فوزه ببطولة هو برشلونة إذا غاب عنه الأداء المقنع، وذلك لأن الطريقة هناك ربما أهم من الفوز، والرحلة تتخطى في معناها لذة الوصول، وربما يُغفر لك عدم الوصول لأن القاعدة هناك أن تسافر جيدا.

استفاد تشافي بصفته مدربا للفريق من تلك القاعدة، لم تتحسن النتائج جذريا بعد وصوله الموسم الماضي خلفا لرونالد كومان، ناهيك بالخروج من بطولة الدوري الأوروبي على يد فرانكفورت الألماني، لكن ما شفع له كان عمله الذي بدا جليا على أرض الملعب خاصة في المباريات الكبيرة، حتى لو شابه أوجه من القصور، وحتى عندما لم تخدمه النتائج كما في كلاسيكو السوبر. (1)

بعد معاناة السنوات الأخيرة والخروج دون بطولة بالموسم الماضي، احتفل برشلونة وجماهيره ببطولة كأس السوبر قبل أيام احتفالا مضاعفا، ليس فقط لأنها كانت على حساب الغريم الأزلي، ولكن لأن الفوز بها جاء بالطريقة المرغوبة، وبارسا عاد بالكأس من الأراضي العربية وهو وفي لتقاليده، تلك التي كانت على وشك الذهاب بلا عودة!

نظام معقد

لماذا بارسا مع تشافي على الطريق الصحيح؟ قد تكون الإجابة مُعقدة ولكن المرور بها يُعَدُّ حتميا؛ بداية علينا تعريف النظام المعقد (Complex System)، وهو جملة العناصر المتفاعلة والمترابطة التي تُشكِّل كيانا واحدا بخصائص جديدة. في منهجيات التدريب الحديثة، يُتعامل مع لاعب كرة القدم على أنه نظام معقد، نظرا لكم المتغيرات التي تُنسج معا لتكوينه، سواء تكتيكية أو ذهنية أو بدنية أو فنية، بعد ذلك يتكون الفريق الذي يصبح كذلك نظاما معقدا من 11 لاعبا، وداخل المباراة يكون في مواجهة نظام نظير له. (2)

داخل الفريق تتفاعل مجموعة من اللاعبين مع بعضهم بعضا بشكل معين (أسلوب اللعب) لتحقيق هدف مشترك (الفوز)، في عملية تفكير جماعية معقدة، والعمليات المشابهة ينطبق عليها بضعة مبادئ كما أوردها الفيلسوف الفرنسي إدغار مورين، مثل صعوبة التنبؤ بنتائجها على المدى الطويل، وحقيقة أن الفريق لن يساوي حاصل جمع أفراده أبدا، بل سيزيد وينقص لأسباب مختلفة، بالإضافة إلى استمرار التبادل المعرفي والعاطفي بين أفراد الفريق، وهو ما يحوله إلى ما يشبه النسيج؛ فلا يمكن تقييم أجزائه منعزلة، ولا يمكن تقييمه دون النظر لأجزائه في الوقت ذاته، لأن الكل متشابك وكل عنصر معتمد على الآخر. (3)

من هذا المنظور، يكون الفريق دائما في حالة ديناميكية تتأرجح بين مراحل النظام ممثلة في الجماعة أو النسيج، وبين مراحل الاضطراب ممثلة في الفرد أو الجزء، وهو ما يجعل هذا الفريق قادرا على التعلم، باحتكاك أجزائه ببعضها وبالكل، وبالتالي يكتسب الفريق قدرة ما على تنظيم نفسه تلقائيا لضمان التأقلم مع التقلبات التي تواجهه.

"أنت لا تلعب منفردا، أنت تلعب ضمن إطار الفريق، إذا أخذ اللاعب الكرة وجلس لاعبو الخصم على الأرض، فركض بطول الملعب وراوغهم وسجّل، فذلك ليس سلوكا فرديا، لأنه لولا جلوسهم لما تَمكَّن من فعل ذلك، ما يقوم به الخصم يؤثر عليك، وما يقوم به زميلك يؤثر عليك، لا توجد سلوكيات فردية في كرة القدم".

(خوانما ليو) (4)

نعلم أنك تتساءل الآن ما علاقة كل ذلك ببرشلونة وتشافي، الحقيقة أن معرفة ما وراء النظام هو ما سيُمكننا من اكتشاف كيف ولماذا يعمل النظام (الفريق)، وبالنسبة لبرشلونة، علاوة على الأداء العظيم للفريق بعد توقف المونديال، فإن المتابع الجيد للفريق حاليا يمكنه بسهولة ملاحظة قدرته على تنظيم نفسه ذاتيا داخل سياقات اللعب المختلفة، دفاعا وهجوما، وتلك هي البداية الحقيقية لنمو الفريق والتأقلم مع متطلبات اللعبة ومع مختلف المخططات التي يفرضها المنافسون، لكن كيف وصل الفريق إلى ذلك؟

بين النظام والفوضى

داخل فوضوية اللعبة، يُمثِّل المدرب الطرف القابل للتوقع، بينما في الملعب يُمثِّل اللاعبون النقيض، حيث الغموض والمباغتة. الفكرة أنه كلما زاد التنظيم من المدرب تقلصت ديناميكية الفريق وتدفقه، فيصبح نمطيا جامدا غير قادر على التأقلم مع معطيات المباراة. والعكس بالعكس، فكلما زادت الفردية طغت فوضى غير مرغوبة، من شأنها تدمير تماسك الفريق، حيث يتصرف كل لاعب بما يحلو له، غير مبالٍ بكونه جزءا من كل. (5)

الجدير بالذكر أن تشافي فور وصوله حاول "تنميط" الفريق، واللعب وفقا لأنماط محددة خاصة في المراحل الهجومية، وتحديدا في عمليات الاختراق والوصول للثلث الأخير، إذ كانت نِيّات الفريق جلية في عمليات عزل أداما تراوري للاستفادة من خصائصه في المواجهات الفردية 1 على 1 أو استخدام لاعب الوسط "البعيد" في القطع من خلف المدافعين ومهاجمة المساحة في ظهورهم، وكانت مباراة الكلاسيكو 0-4 في البرنابيو متخمة بالأنماط الهجومية التي يمكن ملاحظتها بسهولة. (6)

الفكرة أن الفريق المُنمّط يسعى -لا إراديا- لتقليص الخيارات على لاعبيه، من خلال وضع بعض القواعد التأسيسية التي تتجاهل التغيرات المستمرة في البيئة المحيطة؛ مثل التمرير إلى القدم الضعيفة للظهير، أو دوران لاعب الوسط للاتجاه المزدحم، أو التحرك المبكر من الجناح، أو التداخل غير المخطط من المهاجم، فكلها أمور كفيلة بإفساد الأنماط، ولا يمكن كذلك أن نغفل استجابة الخصم كجزء من المعادلة، فكلما كان قادرا على قراءة المعطيات والتعامل معها زادت الحاجة إلى الخروج من النمط والابتكار، لذلك سقط الفريق الموسم الماضي أمام غالاتاسراي وفرانكفورت، لأنه كان مُتوقعا ورتيبا وعاجزا عن التكيف مع المعطيات الجديدة التي فرضها منافسوه.

"أحاول فعليا التأكد من أن اللاعب لا يملك مخططا مُسبقا عما سيحدث في المباراة، لأنه قد يكون بلا قيمة، إذا أقصيت المتغيرات وأعطيت أهمية لأمر ما، فإنك بذلك تُهمل أمرا آخر، إذا ركزت على سرعة اللاعب، فإنك بشكل لا واعٍ تُضعف بقية قدراته، وتلك ليست فكرة جيدة، صفات البشر مترابطة وليست هرمية"

(خوانما ليّو)

لا يمكننا الجزم بالأسباب التي دفعت تشافي لذلك، ربما الوضع الحرج للفريق واحتياجه إلى تعديل الموقف "سريعا"، وربما عجز لاعبي الخط الأمامي عن صنع الفارق بأنفسهم، وحاجتهم إلى اللعب وفق أطر محددة سلفا، وهو ما يُفسر رحيل كلٍّ من أداما وأوباميانغ وعبد الصمد الزلزولي وغيرهم.

بوصول ليفاندوفسكي ورافينيا وكوندي وكريستنسن، ودخول أليخاندرو بالدي، وعودة عثمان ديمبيلي، حظي الفريق بطفرة نوعية على مستوى الجودة والخصائص، لذلك كان لزاما على تشافي والكادر الفني الانطلاق بمقاربة مختلفة، أقرب للإرشاد منها لخلق الأنماط التكتيكية، وصنع لغة مشتركة بين اللاعبين تساعد الجميع على تفسير المواقف داخل الملعب بالمنظور نفسه، لأن المجموعة الحالية قادرة على حل المشكلات بذاتية، لأن خصائصهم تسمح لهم بالابتكار. (7)

تشافي، بكونه لاعبا سابقا، هو أفضل مَن يعرف احتياجات لاعبيه بين التقييد والحرية، وبين التوجيه والأمر، وبين الفوضى والنظام. (الأناضول)

وفي ظل مستوى التعقيد المصاحب للعبة وعدم اليقين في ملعب كرة القدم، ثمة حاجة ماسة إلى العفوية والابتكار والتنظيم الذاتي، ما يمكن العمل عليه من خلال تطوير سلوكيات اللاعبين في اتجاهات معينة وتوطيد الصلات بينهم من خلال رفع مستويات التواصل مع العناصر الأساسية؛ مثل موقع الكرة والزميل والخصم والمساحة، ومن خلال الإطار العام للتنظيم يعود اللاعب إلى عشه بين الفينة والأخرى، لأن النمط سيعمل مرة أو مرتين، لكن التفاعل الصحيح واستيعاب متطلبات اللعب والاستجابة السليمة له هي أمور ستظل محكومة بالموهبة. (8)

"نحن نبني بيننا لغة مشتركة نفهم من خلالها ما نقوم به. غالبا ما تكون تلك اللغة لا واعية؛ إنه التفاهم. ولكن حتى بدون مدرب يحدث ذلك؛ عندما كنا أطفالا نتعلم أنه عندما تظهر مواقف معينة، فمن الأفضل القيام بأمور معينة".

(خوانما ليـّو)

يكمن دور المدرب في التوجيه، وبناء عادات وسلوكيات معينة، محاولا تقليص عشوائية اللعبة وتقليص المصادفات، وتحفيز سلوكيات أكثر نفعا للفريق من خلال تكرارها في التدريبات بشتى الإستراتيجيات، على أن يستدعيها اللاعبون بمختلف الكيفيات وفق ما تقتضيه الحاجة، وتشافي، بكونه لاعبا سابقا، هو أفضل مَن يعرف احتياجات لاعبيه بين التقييد والحرية، وبين التوجيه والأمر، وبين الفوضى والنظام.

فريق بلا أنماط

لعب برشلونة السوبر الإسباني ضد ريال بيتيس وضد مدريد برسمين مختلفين لكل مباراة، وربما أصاب ذلك بعض المتابعين بالإحباط، لأنهم رأوا فريقا بلا أنماط واضحة تقريبا، وبلا خطوط أو مراكز صريحة، بل على النقيض كانت اللا مركزية هي السائدة، ولم يتعامل الفريق مع اللعب كمراحل مختلفة، وإنما خاض المباراتين مهاجما حتى وهو يدافع.

تشكيلتا برشلونة ضد ريال بيتيس وريال مدريد في كأس السوبر الإسباني 2022/23  (سوفاسكور)

ضد مدريد في النهائي، وبغض النظر عن عدد مهاجمي ريال مدريد في الضغط، يعرف لاعبو بارسا جيدا أن المطلوب دائما في الثلث الأول هو خلق زيادة عددية من أجل وصول الكرة إلى اللاعب الحر للخروج من الضغط، لذلك إذا ضغط بنزيما وفينيسيوس، فإن بوسكيتس يقوم بمساندة الحارس والمدافعين، على أن يُثبت دي يونغ وبيدري لاعبي وسط مدريد، أما إذا انضم فالفيردي لخط الضغط الأول، فإن دي يونغ يهبط تلقائيا للمساندة ليكون هو اللاعب الإضافي. (9)

يُنظم تشافي مؤخرا تلك التداخلات، لكنه لا يُنمطها، بينما يقود اللاعبون اللحظة والموقف، انطلاقا من النية الجماعية للفريق والهدف من الموقف، يشرح لهم المفاهيم التي تساعدهم في مختلف الحالات؛ مرر لكي تستدعي الضغط، تقدم بالكرة لسحب خصمك، قف كي تثبت ذلك الخط، اهبط للاستلام، وإذا كان زميلك قريبا منك فاسقط مصطحبا أحد المدافعين لكي تفتح له المساحة بظهرك، وإن كنت رجلا ثالثا في لعبة أخرى فعليك التحرك والكرة في طريقها إلى اللاعب الثاني، وفي هذا السياق عليك البقاء قريبا من زميلك، نريد تجميع اللعب هنا ثم تغييره للجهة الأخرى، 3 لاعبين على خط واحد للوصول للرجل البعيد، إلخ.

كمدرب، أنت لن تُعلم دي يونغ أين يمرر وكيف يسوق الكرة للأمام، لكن يمكنك تنظيم تداخلاته وإيجاد دور له وفقا لخصائصه، كما أن بوسكيتس يمكنه أن يعطينا دروسا في كيفية صنع زوايا اللعب التي تدعم التقدم. كوندي يملك قدما يمنى حريرية وقدرة غير عادية على اتخاذ المخاطر المحسوبة، لذلك فهو الأجدر بالتدرج بالكرة من الخلف للأمام، وبناء على المعطيات يقرر متى يتقدم ويخترق، ومتى يلعب ويقف، ومتى يدعو الخصم للضغط، وبالذهاب إلى بيدري وجافي فإنهما يملكان كل الدهاء والفطنة الموجودة في العالم اللازمة لحل المشكلات داخل الملعب، أنت تراقب بيدري ولا تعرف ماذا سيفعل بالكرة لأنه في كل مرة يقوم بتصرف مختلف وفق ما يستدعيه الموقف، كما أن غافي لا يبدو عليه أنه يلعب بمخطط مُسبق!

يوفر ديمبيلي من ناحية -وبالدي من أخرى- الاتساع المناسب للفريق، بينما يتبادل ليفاندوسكي وجافي مهام توفير العُمق، إذ يجب على أحدهما دائما أن يدفع المدافعين للخلف، إذ مال أحدهما للمساندة فإن الآخر يجب أن يبقى، وعند تقدم الفريق للثلث الثاني فإن بيدري ودي يونغ لا يتوقفان عن البحث عن المساحات المتاحة وشغلها، على أن يتم كل ذلك في التوقيت المناسب، لأن المساحة الشاغرة الآن لن تكون كذلك بعد ثانيتين، ومسار التمرير المفتوح حاليا حتما سيُغلق في لحظة، وبشكل جماعي يتقدم الفريق من منطقة إلى أخرى وصولا إلى مرمى الخصم.

واللافت أن بارسا يلعب الآن كفريق، في تحالف تام بين الأنا ونحن، يتصرف اللاعبون بأنانية إيثارية، بحيث يتنازل كل لاعب عن شيء من حريته لمصلحة الفريق، بالنسبة لجافي، فأنا أساعدك كي تساعدني، وصحيح أن ليفاندوفسكي يريد التسجيل لكن لأن ذلك يصب في مصلحة الفريق في الوقت ذاته، وبذلك تتمتع العناصر داخل النظام باستقلالية نسبية، قادرة على التأثير وقابلة للتأثر دون قيود مُعيقة.

بسبب فهم تشافي لجوهر وظيفته بصفته مدربا وتكيّفه مع جودة وخصائص اللاعبين الحالية، أصبح الفريق على مسافة مناسبة بين الحرية والنظام، والآن بدأت المفاهيم تتبلور، والعلاقات تتوطد، والكيمياء بين اللاعبين تتطور، والفريق أصبح أكبر من مجموع أجزائه، حيث زادت قدرته على التكيف وإعادة تنظيم نفسه، وبالتالي أصبح على مستوى أعلى من التعقيد، وكلما زادت درجة تعقيد الفريق أصبح أقدر على التأقلم وغير قابل التنبؤ، وبالتالي يُصبح أقل عُرضة للإيقاف.

تطور الفريق كثيرا في الحالة الهجومية، في عمليتي صنع وإنهاء الفرص، لكن ما زال تشافي ينتظر العمل على عدة مراحل دفاعية كالضغط العالي، إذ يتعين عليه ضبط زوايا وتوقيتات الضغط للاعبيه، حتى يستطيع خنق خصومه باستخدام خط التماس كمدافع إضافي حتى لا يستطيع الخصم الفكاك بإعادة التدوير من طرف لآخر وتخطي الضغط، كما يحتاج الفريق إلى التحسن في مرحلة الدفاع المتأخر، إذ يتأذى منها أكثر من غيرها، لكن الخبر السار أن الفريق أخيرا بات على الطريق الصحيح ويتطور كثيرا مؤخرا، والأهم أن ذلك يتم بتقاليد بارسا.

___________________________________________________

المصادر:

  1. تعيين تشافي مدربا خلفا لرونالد كومان
  2. الأنظمة المعقدة – دراسة حالة بيب غوارديولا
  3. مبادئ التعقيد لإدغار مورين
  4. مقابلة خوانما ليو مع ذا بليزارد
  5. كرة القدم المعقدة (خافيير مالو)
  6. أنماط لعب برشلونة مع تشافي
  7. دفاتر تعاقدات برشلونة لموسم 2022/23
  8. كرة القدم في رحاب التعقيد
  9. فصل غوارديولا
المصدر : الجزيرة