شعار قسم ميدان

خليفة "هابل" الأكثر تقدما.. لماذا تطلق ناسا التلسكوب جيمس ويب على بعد مليون ميل من الأرض؟

مقدمة للترجمة

تنطلق اليوم إلى الفضاء مهمة انتظرها هواة ومتخصصو علوم الفلك لعقود طويلة، إنه التلسكوب "جيمس ويب"، والذي سيتمكن من النظر إلى أعماق الكون في الزمان والمكان ليحمل لنا معارف جديدة، وربما تساعدنا قدرات هذا التلسكوب التي تعد الأدق في تاريخنا على الإجابة عن الكثير والكثير من الأسئلة عن نشأة هذا الكون ومصيره وطبيعة قوانينه، لكن بينما نتأمل صعود "جيمس ويب" ونتائجه الأولى التي ستصل خلال أشهر، ونتائجه اللاحقة في المستقبل القريب، وجب علينا -لا شك- أن ننظر أيضا إلى الماضي، إلى علماء رياضيات مثل ليونارد أويلر وجوزيف لويس لاغرانج وإنجازاتهما التي تقودنا اليوم إلى المستقبل "بسرعة الصاروخ" حرفيا.

مادة الترجمة

يُعَد نظامنا الشمسي مفعما بظواهر خلابة، فنرى مثلا أن كوكب المشتري يتميز بمناخ عاصف، وتشبه غيومه طبقة الكريمة التي تعتلي كوبا من القهوة الساخنة. أما كوكب زحل، فيتميز بحلقات ذات سمك رقيق، مكونة من قطع لا تُعَد ولا تحصى من الجليد والصخور، مصفوفة مثل الأخاديد الحلزونية الموجودة على قرص الفونوغراف، والأجمل من كل ذلك هي ظاهرة الشفق القطبي التي نشهدها على كوكب الأرض نتيجة حدوث اصطدام بين جزيئات مفعمة بالطاقة من الشمس وغازات الغلاف الجوي، راسمة في الليل مشهدا خلابا يملأ السماء بلونٍ أخضر خافت. كل ذلك لا يُعَد شيئا أمام حقيقة أن أكثر الظواهر سحرا في محيطنا الكوني هي في الواقع مخفية تماما.

إحدى هذه الظواهر هي نقاط في الفضاء يتحول وصفها فيزيائيا إلى ما يشبه الشعوذة، فعند هذه النقاط تتآمر الأرض والشمس لخلق نوع خاص من التوازن، بحيث إن أي جسم هناك -مثل كويكب، أو مركبة فضائية، أو حتى سحابة من الغبار- سيبقى ساكنا ومعلقا بفعل قوى الجاذبية غير المرئية الناتجة عن هذا التوازن. استطاعت قوى الجاذبية هذه منحنا 5 نقاط رصد تقع بالقرب من الأرض، وفي وقت لاحق من هذا الشهر(ديسمبر 2021)، سيتجه التلسكوب الفضائي الجديد "جيمس ويب" التابع لناسا إلى إحدى نقاط الرصد هذه الواقعة على بعد حوالي مليون ميل، أي أربعة أضعاف المسافة التي تفصل بين كوكب الأرض والقمر.

جيمس ويب.. خليفة هابل الأكثر تقدما

قبل تصميم تلسكوب جيمس ويب، كان هناك تلسكوب آخر يُسمَّى "هابل"، وهو أشهر تلسكوب فضائي لوكالة ناسا، عمره الآن أكثر من 30 عاما، ويدور على ارتفاع 340 ميلا فقط فوق الأرض. يُعتبر تلسكوب ويب الفضائي هو خليفة هابل الأكثر تقدما، إذ يهدف إلى الكشف عن الأعماق الخفية لكوننا، والتحديق في الضوء الخافت للنجوم والمجرات المبكرة التي نشأت بعد الانفجار العظيم. (سيرى ويب الكون بالأساس من خلال الأشعة تحت الحمراء، ويلتقط الضوء الذي لا تراه العين البشرية، أما هابل فقدرته على الرؤية بالأشعة تحت الحمراء محدودة. كما أن مرآة ويب أكبر بكثير من مرآة هابل، هذه المرآة الضخمة المجمِّعة للضوء تعني أن ويب يستطيع أن ينظر إلى فترات أبعد من الماضي مقارنة بهابل).

من هنا، سيكون ويب قادرا على رؤية كل شيء، بداية من الكواكب في نظامنا الشمسي إلى أبعد المجرات في الكون (مجرات الكون الأولى) إن وقف على هذه النقاط، وتُعرَف هذه النقاط الخفية باسم "نقاط لاغرانج (Lagrange points)"، والتي سُميت على اسم عالم الرياضيات الفرنسي جوزيف لويس لاغرانج، الذي توصل إلى وجودها في أواخر القرن الثامن عشر.

في هذا الصدد، يقول لي نيل كورنيش، عالم الفيزياء الفلكية في جامعة ولاية مونتانا الأميركية: "في العادة، تدور الأجسام الأقرب إلى الشمس من الأرض بسرعة أكبر، بينما تدور الأجسام البعيدة عن الأرض (الموجودة في مدارات أبعد من الأرض والشمس) بسرعة أبطأ". لكن اتحاد التأثيرات الناتجة عن الجاذبية الأرضية والشمسية عند نقاط لاغرانج يسمح للأجسام بالدوران بنفس معدل دوران الأرض"، بمعنى أنه عند نقطة لاغرانج، تُخضِع هذه الجاذبية الجسم ليسير في الاتجاه نفسه متزامنا مع رحلة الأرض حول الشمس. وكما نرى، فإن البشر لم يكتشفوا وجود هذه الظاهرة فحسب، بل طوّعوها لخدمة أغراضهم الخاصة. وعلى مر السنين، ركزت وكالات الفضاء على جميع أنواع المهام التي يمكن لأول نقطتَي لاغرانج، المعروفتين باسم L1 وL2، تأديتها. في هذا الصدد، تقول ميشيل ثالر، عالمة الفلك في مركز جودارد لرحلات الفضاء التابع لناسا: "تُعَد هذه طريقة مذهلة ومتقنة حقا في استخدام جاذبية النظام الشمسي".

نقاط لاغرانج بين الأرض والشمس

بالمثل، تبقى النقطتان L4 وL5 مستقرتين أيضا، وبسبب ثباتهما فإن الكويكبات تميل إلى أن تتراكم فيها. أما النقطة الثالثة "L3" فتقع خلف الشمس، مقابل مدار الأرض. لم يكتشف العلماء في الوقت الراهن استخداما لهذه البقعة، لكن قوى الجاذبية بين الكتلتين تتعادل عندها بحيث يحافظ الجسم الثالث على السرعة المدارية نفسها، بمعنى أن القمر الصناعي مثلا عند النقطة L3 سيبقى متواريا تماما خلف الشمس، (افترض بعض العلماء من فترة أنه لو كانت هناك حضارة ذكية تود أن تراقبنا دون أن نعرف، فستقف مركباتها في النقطة L3، والتي لا يمكن لنا أبدا رصدها).

لكي يعمل تلسكوب ويب بصورة صحيحة، لا بد أن يُحَاط بمناخ شديد البرودة، لذا قرر المهندسون إرساله إلى النقطة L2 التي تقع على خط امتداد الشمس والأرض على الجانب الآخر من كوكبنا، حيث تكون حماية مركبة فضائية من وهج الشمس أسهل بكثير. وفقا لحسابات خبراء الميكانيكا المدارية (وهي أحد فروع الميكانيكا الكلاسيكية التي تركِّز على مدارات الأقمار الصناعية، ومسارات المركبات الفضائية، والمشكلات العملية المتعلقة بها)، فإن تلسكوب ويب سيُقيم على بعد مسافة صغيرة من نقطة L2.

يحتوي التلسكوب الجديد على خزان مليء بالغاز لإطلاق محركات الدفع الخاصة به بين الحين والآخر، مع إجراء تعديلات طفيفة حتى لا ينجرف نحو الأرض. سَيُزوَّد التلسكوب بأحد أكثر الدروع الواقية من الشمس تطورا على الإطلاق، والذي يقَسِّم المرصد (التلسكوب) إلى جزأين: الجانب المواجه للأرض والشمس سيحتوي على أنظمة دفع واتصالات بإمكانها التعامل مع الحرارة، بينما يحتوي الجانب المواجه للفضاء على مرايا التلسكوب والآلات الأخرى التي تحتاج إلى البرودة المطلقة.

تعليقا على ذلك، تفيد ناسا بأن الاختلافات الكبيرة بين هذين الجزأين من التلسكوب "تسمح لك بغلي الماء تقريبا على الجانب الساخن، وتجميد النيتروجين على الجانب البارد"، (يصل هذا التأرجح بين اختلاف درجة الحرارة على الجانبين إلى حوالي 600 درجة فهرنهايت). نظرا إلى أن المركبة الفضائية التي تقع بالقرب من L2 ستبقى، من وجهة العلماء، في البقعة نفسها من السماء، ستتمكن ناسا من التواصل مع التلسكوب ويب، لكن إذا جرت الأمور بما لا نشتهي وحدث خطأ ما، فسيتمكن المهندسون حينها من إرسال الأوامر فقط، وليس طاقما للمساعدة.

على عكس التلسكوب هابل الذي استطاع رواد الفضاء الذهاب إليه وإصلاحه، فإن ويب أبعد من أن يصلوا إليه باستخدام أي تكنولوجيا حالية، بالإضافة إلى عدم وجود أي بوابات خاصة في تصميمه لرواد الفضاء. لكن في النهاية، أدركت ناسا أن موقع L2 مناسب للغاية بحيث لا يمكن غض الطرف عنه أو تفويته، لذا فهي على استعداد لتحمل المخاطر. ونتيجة لموقع ويب الذي يجعل الشمس والأرض خلفه، ستتمكن مراياه المطلية بالذهب من مشاهدة الكون كاملا دون أي عوائق.

كل ما نحتاج إليه هو جِرمانِ سماويان

يمتلئ نظامنا الشمسي بنقاط لاغرانج، لذا فإن كل ما تحتاج إليه الطبيعة لخلق هذه النقاط غير المرئية هما جرمانِ سماويان، سواء كانا نجما وكوكبه مثلا، أو كوكبا وقمرا. نجد أن كوكب المريخ يحتفظ بأربعة كويكبات (يُقال إنها بقايا كوكب صغير دُمّرَ بسبب الاصطدامات قبل مليارات السنين) في نقاط لاغرانج الخاصة به، وأحد هذه الكويكبات يُدَعى "يوريكا (Eureka)". وعند الانتقال إلى كوكب زحل، سنجد أن "تيثيس (Tethys)"، خامس أكبر قمر لزحل، يحتفظ بقمرين أصغر عند نقطتي L4 وL5.

أما كوكب المشتري الذي لطالما حطم الأرقام القياسية بين جميع الكواكب، فإنه يجمع آلافا من الكويكبات في نقاط لاغرانج الخاصة به، وأطلقت وكالة ناسا مؤخرا مركبة فضائية لدراسة بعض هذه الكويكبات. في هذا الصدد، اقترح الفيزيائي الأميركي "جيرارد أونيل" في السبعينيات أن البشر بإمكانهم الانتقال يوما ما إلى منازل طافية تقف على إحدى نقاط لاغرانج التي تقع بين الأرض والقمر. لكن عالم الفيزياء الفلكية "كورنيش" يقترح استخداما مختلفا وأكثر واقعية لنقاط لاغرانج، وذلك باستخدام خصائص الجذب الخاصة بها لتحريك المركبة الفضائية بسرعة مخيفة من نقطة لاغرانج إلى أخرى بأقل قدر ممكن من قوى الدفع.

نظريا، يمكن لوكالة الفضاء تحريك تلسكوب من النقطة L2 البعيدة نحو نقطة أقرب تقع بين الأرض والقمر، والتي ستسهل على رواد الفضاء الوصول إليها. تعليقا على ذلك، قال كورنيش: "قد يكون لدينا أدوات صيانة وتصليح في المركبة التي تقف عند النقطة L1 الواقعة بين الأرض والقمر، ومن يعلم؟! فربما يساعدنا هذا الوضع في خدمة وتصليح التلسكوبات الفضائية مستقبلا عند L1، وإرسالها فيما بعد إلى L2".

ألا يُعَد اكتشاف البشر لكيفية استخدام هذه النقاط لتعلم شيء أو شيئين عن الكون أمرا مدهشا وجامحا؟

استفادت ناسا من هذه الإستراتيجية سابقا في أوائل القرن الحالي عندما سافرت مركبة فضائية إلى النقطة L1 التي تقع بين الأرض والشمس، وجمعت بعض جزيئات الرياح الشمسية، (ظاهرة تتميز بانبعاث الجسيمات المشحونة كهربائيا من الشمس إلى الفضاء)، ثم انزلقت هذه المركبة فيما بعد إلى النقطة L2 (في النهاية، تحطم المسبار الفضائي، وهو مركبة فضائية آلية بدون طاقم تُستعمل لاستكشاف الفضاء الخارجي، لكن هذه قصة مختلفة عن موضوعنا).

ترى عالمة الفلك الأميركية "ميشيل ثالر" أن وجود نقاط لاغرانج يُعدّ تذكيرا عميقا بالطبيعة الأساسية للنظام الشمسي، وبكونه مكانا تحدث فيه حركات مستمرة. تعقيبا على ذلك، تقول ثالر: "تشعر حقا وأنت بداخل هذه الكرات الصغيرة (المركبات الفضائية) التي تسبح في الفضاء، وكأنك في خضم رقصة جميلة، وبينما تتراقص المركبات، ستقابل في طريقها هذه النقاط حيث تتوازن عندها الجاذبية. وبعد كل ذلك، ألا يُعَد اكتشاف البشر لكيفية استخدام هذه النقاط لتعلم شيء أو شيئين عن الكون أمرا مدهشا وجامحا؟".

يتذكر عالم الفيزياء الفلكية "كورنيش" علماء الرياضيات العظام، مثل ليونارد أويلر، وجوزيف لويس لاغرانج، باعتبارهما أول من أدركا هذه النقاط الكونية التي تتوقف عندها الأجسام، فيقول: "تخيل لو أخبرتهما قبل بضع مئات من السنين عن وجود مركبة فضائية تراقب الكون، ومدى استفادتنا في الواقع من حساباتهما الرياضية، ألن يُفقدهما ذلك صوابهما؟!"

_______________________________

ترجمة: سمية زاهر

هذا التقرير مترجم عن The Atlantic ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.

المصدر : الجزيرة