شعار قسم ميدان

لأن "البساطة" أكثر تكلفة وتعقيدا مما قد تظن

البساطة
الطريقة التي يمكن أن تتأكد من خلالها أنك حققت الكمال في التصميم ليست عندما لا يكون لديك المزيد لتضيفه، بل عندما لا يكون لديك المزيد لتتخلص منه. (شترستوك)

"البساطة يمكن أن تكون أصعب من التعقيد، سيكون عليك أن تعمل بجد لتعديل طريقة تفكيرك لتتمكَّن من جعل أفكارك والأشياء حولك بسيطة. لكن الأمر يستحق بذل مثل هذا الجهد، لأنك في النهاية، بمجرد أن تتمكَّن من تحقيق البساطة، فسيمكنك تحريك الجبال".

ستيف جوبز، مؤسس شركة "أبل" التقنية. (1)

لاقت الصور التي تداولتها وكالات الأنباء والمواقع الإلكترونية، التي وثقت لقطات من حفل زفاف الأميرة إيمان، ابنة الملك عبد الله الثاني، ملك المملكة الأردنية الهاشمية، إعجابا واسعا يصل إلى حد الانبهار، منبت هذا الإعجاب هو بساطة مظهر الأميرة، وأناقة ورُقي الإطلالة المريحة التي ظهرت بها خلال حفل زفافها. خلال الصور المُتداولة ظهرت الأميرة مُرتدية فستانا حريريا أبيضَ بأكمام طويلة وياقة من الشيفون عالية ومطرزة بورود بسيطة.(2)

 

بعد تداول صور الزفاف، امتدح الكثيرون "البساطة" وقدرتها على فرض حالة من الأناقة والرقي، وسخر البعض من البهرجة المُعتادة في تجميل وجوه العرائس واختيار فساتين زفاف متكلفة، مُدعين أن كل هذا القدر من التكلف يعكس في النهاية درجة من درجات القبح. لكن ما يغفل عنه الكثيرون هو أن تحقيق البساطة والقدرة على تغطية كُلفتها ليس بالأمر المُتاح للجميع، فالبساطة بالفعل يمكن أن تكون أصعب من التعقيد كما قال جوبز.

 

"البساطة" مُحببة للعين والعقل

رغم تنوع التفضيلات واختلافها من شخص إلى آخر، فإننا نشترك في سمة مشتركة متأصلة في أدمغتنا، وهي رغبتنا الفطرية في تبسيط تعقيد العالم من حولنا. يطلق على هذا الأمر اسم "مبدأ البساطة"(3)، وهو يعني أنه عند تقديم خيارين لعقولنا، أحدهما مركب أو معقد والآخر بسيط، فإننا بتلقائية نختار النتائج التي نتصور أنها بسيطة قدر الإمكان.(4)

 

تخيل أنك تفتح موقع ويب ما للبحث عن شيء محدد، لتجد أن اللافتات والإعلانات المنبثقة تبدأ في الوميض في آنٍ واحد، وتكتشف أن الرسومات التي تحويها واجهة الموقع تدور وتتحرك، أو أن النص الذي تحاول قراءته يومض. هنا، ستبدأ بشكل محموم في النقر والإغلاق والتقليل من هذه المؤثرات والعناصر والتفاصيل، أو أنك ستشعر بالارتباك والانزعاج وتغادر مُغلقا الموقع بالكامل.(5)

 

لذلك، يذهب الكثير من المصممين، سواء كانوا يعملون في تصميم الأزياء أو تصميم المنازل أو الأثاث أو مستحضرات التجميل أو أغلفة الكتب أو واجهات المواقع الإلكترونية أو الإعلانات المرئية وغيرها من العناصر التي تتعامل مع العين بشكل مُباشر إلى تبني البساطة. على هذه الفكرة، قام نهج "زِن" (Zen) في التصميم، الذي يهدف إلى تحقيق أقصى استفادة بأقل قدر ممكن من التفاصيل، بهدف تعزيز تجربة المستخدم المُريحة والوصول في النهاية إلى نتائج أفضل.

البساطة
أوضحت حركة المينيماليزم أنه يمكن قول الكثير بالقليل جدا. (شترستوك)

يقوم نهج "زن" على فكرة الاتحاد بين الطبيعة والتصميم مع تطبيق قانون أساسي وهو "الأقل كثير"، يقوم هذا النهج على استخدام ظلال ناعمة شاحبة، مثل الأبيض والرمادي بدون زخرفة. استُلهِم هذا النهج في التصميم من اندماج العمارة اليابانية والأفكار البوذية، (6) ولأن البساطة مُحببة وتحظى بشعبية كبيرة أينما طُبقت، أصبح تبني أسلوب "زِن" شائعا بشكل متزايد لمصممي الديكور الداخلي.(7)

 

أيضا في أوائل الستينيات في نيويورك، ظهرت حركة تصميم تُسمى المينيماليزم "Minimalism"، تدور فكرتها حول إبقاء الأشياء بسيطة. تحاول حركة التصميم هذه الابتعاد عن الزخارف والتصاميم المعقدة المليئة بالتفاصيل، وتضم قطعا فنية تحتوي على زخرفة قليلة إن لم تكن من دون زخرفة على الإطلاق. أوضحت حركة المينيماليزم أنه يمكن قول الكثير بالقليل جدا، لكن اختصار ما تريد قوله أو التعبير عنه إلى أقل عدد ممكن من الكلمات والألوان والصور وغيرها من التفاصيل ليس بالأمر السهل.(8)

 

الأبسط أكثر تعقيدا مما قد تظن

مثل معظم الأشياء في الحياة، تبدو "البساطة" من الخارج سهلة وميسورة وفي المتناول، لكن الأمر ليس كذلك، لننظر مثلا إلى فستان الأميرة إيمان الذي بدا أنيقا وراقيا من فرط بساطته، هذا الفستان جاء من تصميم دار الأزياء الفرنسية العالمية "ديور"، والتاج الذي وضعته الأميرة فوق رأسها كان من علامة شوميه، وهي علامات تجارية تتخذ البساطة نهجا، لكننا بالطبع نعرف أنها علامات مرتفعة الثمن. (9)

 

خلال إحدى محاضرات "TED"، يوضح أستاذ الكيمياء بجامعة هارفارد، جورج وايتسايدز، تعريف كلمة "بسيط" بأنها تعني أن يكون الشيء موثوقا ويمكن التنبؤ به وقابلا للتكرار. يعود حُبنا للأشياء البسيطة إلى "القدرة على التنبؤ" بها، نحن نحبها لأنها سهلة على عقولنا، ليس من الضروري أن تبذل أدمغتنا جهدا كبيرا لفهم وإدراك الأشياء البسيطة أو التعامل معها أو الحصول عليها أو القيام بها.(10)

 

لكن لأن عقولنا تعمل بوتيرة سريعة، فإن هذا الأمر يجعلنا ننخدع إلى درجة كبيرة، فنصف الأشياء التي كان تصميمها وتنفيذها مُعقدا وصعبا للغاية بأنها "بسيطة"، لمُجرد أن مظهرها مُريح للعين وخالٍ من الازدحام بالتفاصيل، الدليل العملي على أن عقولنا تعمل بهذه الطريقة هو دراسة أجرتها غوغل وجامعة بازل عام 2012، تحت عنوان: "دور التعقيد البصري والنموذج الأولي فيما يتعلق بالانطباع الأول للمواقع الإلكترونية". وجد الباحثون أن المستخدمين سيحكمون على مدى قدرة مظهر الموقع على تحقيق المعايير الجمالية في 1/20 – 1/50 من الثانية، هكذا تصدر أحكام سريعة للغاية على شيء معقد مثل موقع الويب. هذه السرعة الكبيرة في إصدار الأحكام قد تجعل أحكامنا تتصف بكونها غريزية أو عاطفية وليست أحكاما قائمة على حسابات عقلية أو منطقية.(11) هذا الأمر هو ما يجعلك تنظر إلى شيء تكلف تصميمه الكثير من الوقت والجهد وتصفه بأنه "بسيط"، ليس فقط في الشكل، بل في الصنعة كذلك.

 

ينقل جورج وايتسايدز، خلال محاضرته، قول الكاتب الفرنسي دو سانت إكزوبيري: "الطريقة التي يمكن أن تتأكد من خلالها أنك حققت الكمال في التصميم ليست عندما لا يكون لديك المزيد لتضيفه، بل عندما لا يكون لديك المزيد لتتخلص منه". فما يظهر لعينيك بسيطا هو في الواقع شيء يحتاج إلى بذل الكثير من الجهد والوقت ليصل إلى مرحلة "الكمال في التصميم".

 

يُضيف وايتسايدز أن نقطة الاختلاف هنا بين صانع الشيء ومُستقبِله هي أن الصانع يبذل قدرا كبيرا من الجهد والوقت ليصنع شيئا يراه الناظر "بسيطا"، هذه هي النقطة التي تميز العالم الحقيقي للأشخاص الذين يصنعون الأشياء، وعالم الأشخاص الذين يستقبلون هذه الأشياء. يقول وايتسايدز: "الصانعون يستغرقون الكثير من جهدهم ووقتهم للتفكير في إجابة سؤال: ماذا نفعل لنجعل الأشياء بسيطة وعملية ومفيدة قدر الإمكان؟ إذا صنعنا هذا النوع من "البساطة" في تقنيتنا ثم أعطيناها لكم يا رفاق، فيمكنكم الانطلاق والقيام بكل أنواع الأشياء الرائعة بها". يتضح مما سبق أن البساطة هي أداة تصميم قوية، يستغرق الحصول عليها الكثير من الوقت والجهد ورُبما المال أيضا.

 

البساطة المُكلفة

المشكلة قد لا تكون في أن الناس لا يحبون البساطة، لكنهم في الحقيقة لا يملكون تكلفتها في كثير الأحيان.
المشكلة قد لا تكون في أن الناس لا يحبون البساطة، لكنهم في الحقيقة لا يملكون تكلفتها في كثير الأحيان. (شترستوك)

صحيح أن الجمال يقترن كثيرا بالبساطة، لكن القدرة على إظهار الجمال من خلال استخدام أدوات زينة ومستحضرات تجميل ذات ألوان هادئة طبيعية قد لا يكون أمرا "بسيطا" على الإطلاق. في الحقيقة، وفي مجتمع مهووس بتحقيق الجمال، تُنفَق ملايين الدولارات ومئات الساعات في السعي وراء إطلالات لا تشوبها شائبة. تنجذب الكثيرات إلى شراء مستحضرات التجميل التي تُنتجها الماركات العالمية التي غالبا ما تكون مرتفعة الزمن، بل ويزداد ثمنها يوما بعد يوم. (12)، (13).

 

بشكل رئيسي، تنقسم منتجات العناية الشخصية إلى فئتين رئيسيتين: فئة تشمل منتجات العناية بالشعر والأسنان ومنتجات العناية الشخصية المتنوعة، والأخرى لمستحضرات التجميل والعطور. أوضحت التقارير أنه خلال الفترة من أغسطس/آب 2021 إلى أغسطس/آب 2022، ارتفعت أسعار فئة الشعر والأسنان بنسبة 7.6%، بينما ارتفعت أسعار فئة مستحضرات التجميل والعطور بنسبة 4.2%. كذلك، أصبحت خدمات التجميل أكثر تكلفة أيضا، حيث زادت تكلفة قص الشعر وخدمات العناية الشخصية الأخرى بنسبة 4.4% مما كانت عليه في أغسطس/آب 2021.(14)

 

هنا قد يكون البديل للطبقات الاجتماعية المتوسطة والدنيا هو الإفراط في استخدام مستحضرات التجميل رديئة الصنع بسيطة التكلفة، التي قد لا تمتلك المقدرة نفسها على إبراز جمال الوجه وهدوء الملامح، وهو ما يخبرنا أن المشكلة قد لا تكون في أن الناس لا يحبون البساطة، لكنهم في الحقيقة لا يملكون تكلفتها في كثير الأحيان.

———————————————————————–

المصادر:

1- Steve Jobs > Quotes

2- الملكة رانيا تنشر فيديو جديدا من حفل زفاف الأميرة إيمان

3- Simplicity at the Center of It All

4- The simplicity principle in perception and cognition

5- The Power of Simplicity

6- Zen Style: where nature meets design

7- Zen Interior Design is the 2020 Trend

8- Minimalism

9- Princess Iman of Jordan Was a Radiant Bride in Dior and Chaumet for Her Royal Wedding

10- Toward a science of simplicity

11- The role of visual complexity and prototypicality regarding first impression of websites: Working towards understanding aesthetic judgments

12- Why Is Makeup So Expensive?

13- Beauty has a cost as retail prices rise at fastest rate in decade

14- Beauty Products Are the Most Expensive They’ve Been Since 2016

المصدر : الجزيرة