شعار قسم ميدان

خرافة الأطعمة قليلة الدسم.. كيف أصبحت الدهون شرير النظام الغذائي المعاصر؟

low fat product
(شترستوك)

"قليل الدسم" أو "خالي الدسم"، من المحتمل أنك تنجذب إلى شراء المنتجات التي دُوِّن على عبوتها مثل هذه العبارات، التي يحرص المصنعون، في الأغلب، على إبرازها من خلال تظليلها بلون مميز عن بقية العبوة، فهم يعرفون جيدا أن عبارة واحدة مكونة من كلمتين يمكن أن تبيع ملايين العبوات الإضافية دون إعلان إضافي واحد على التلفاز.

 

هذا النمط من الترويج المضاد للدسم أو الدهون يمتد إلى قرابة أربعة عقود مضت، ففي الثمانينيات، تعرضت "الدهون" لهجوم حاد وانتقادات شديدة من جانب المتخصصين في نطاقات القلب والأوعية الدموية، وأصبحت المنتجات قليلة الدسم أو الخالية من الدهون عنصرا أساسيا في النظام الغذائي الصحي. لكن هذا الاعتقاد لم يصمد طويلا. اليوم، يتفق خبراء التغذية إلى حدٍّ كبير على أن النظام الغذائي الصحي يجب أن يتضمن بعض الدهون، بما في ذلك تلك الموجودة في اللبن كامل الدسم على سبيل المثال.

 

الدهون.. الشرير الغذائي

الأدلة العلمية لا تدعم أن المنتجات القليلة أو خالية الدسم صحية أكثر من المنتجات كاملة الدسم.
الأدلة العلمية لا تدعم أن المنتجات القليلة أو خالية الدسم صحية أكثر من المنتجات كاملة الدسم. (شترستوك)

خلال العقود الماضية، أوصت الإرشادات الطبية المبنية على عدد من الدراسات العلمية، التي قُدِّمت في المملكة المتحدة والولايات المتحدة في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات، بتقليل الاستهلاك الكلي للدهون الغذائية. لكن الدراسات الحديثة، ومنها ورقة بحثية نُشرت في المجلة البحثية "أوبن هارت" (Open Heart) عام 2015، تقول إن هذه الإرشادات التوجيهية افتقرت إلى أي دليل تجريبي قوي.

 

تُشير الدراسة إلى أن المبادئ التوجيهية الغذائية الوطنية التي قدَّمتها حكومتَا الولايات المتحدة والمملكة المتحدة كانت تهدف إلى الحدّ من الإصابة بأمراض القلب التاجية، عن طريق الحدّ من تناول الدهون، غير أنها تؤكد أن النصائح الغذائية التي قُدِّمت لـ220 مليون أميركي و56 مليون مواطن بريطاني صِيغت بناء على دراسة عدد صغير من الرجال غير الأصحاء، بينما تؤكد نتائج تحاليل التلوي أنه لا توجد أدلة كافية تدعم تقديم توصيات بشأن تقليل استهلاك الدهون الغذائية من أجل تقليل مخاطر الإصابة بأمراض القلب التاجية أو الوفيات ذات الصلة. (1).(2)

 

تجادل الدراسة بأنه عند وصف الدهون بأنها "الشرير الغذائي الرئيسي"، لم تولِ فرق الصحة العامة اهتماما كافيا للمخاطر التي تشكلها الأغذية الأخرى، خاصة الكربوهيدرات، التي يُعتقد أنها تساعد في تعزيز أزمة السمنة بما تحمله من آثار صحية سلبية مؤكدة. (3) فوفقا لمنصة جامعة هارفارد الطبية، فإن من غير الصحي تجاهل الدهون تماما، يمكن للدهون الصحية، بما في ذلك الدهون الموجودة في زيت الزيتون والمكسرات والبذور والأفوكادو (الدهون غير المشبعة)، أن تساعد الجسم على امتصاص العناصر الغذائية الأساسية، الأمر الذي يجعلها تلعب دورا في دعم وتعزيز الصحة العامة للجسم.

 

لكن ماذا عن الدهون الموجودة في منتجات الألبان، هل الحليب أو الجبن قليل الدسم أو منزوعه أفضل من منتجات الألبان كاملة الدسم؟ الجواب الذي يُقدّمه الدكتور فرانك هو، أستاذ التغذية وعلم الأوبئة في كلية "تي إتش تشان" للصحة العامة بجامعة هارفارد، هو: "لا"، موضحا أن الأدلة العلمية لا تدعم أن المنتجات القليلة أو خالية الدسم صحية أكثر من المنتجات كاملة الدسم.

خفض تناول الدهون المشبعة واستبدالها بالدهون غير المشبعة، وخاصة الدهون المتعددة غير المشبعة، سيُقلل من الإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية.
خفض تناول الدهون المشبعة واستبدالها بالدهون غير المشبعة، وخاصة الدهون المتعددة غير المشبعة، سيُقلل من الإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية. (شترستوك)

ما يجعل البعض يجنح إلى القول إن الألبان غير صحية هو حقيقة أنها تحتوي بشكل أساسي على الدهون المشبعة (تلك الموجودة في الجبن والزبدة وقطع اللحم التي تحتوي على نسب عالية من الدهون وزيت النخيل وجوز الهند وغيرها) التي أوضحت الدراسات سابقا أنها يمكن أن تساهم في زيادة مخاطر الإصابة بأمراض القلب، وهي تختلف عن الدهون غير المشبعة الموجودة في زيت الزيتون أو المكسرات. علاج هذا الأمر، الذي ينصح به الدكتور فرانك، هو "الاعتدال" لا الامتناع.(4)

 

يتفق مع هذا التوجه العديد من الخبراء الذين يُجادلون بأن التركيز حصريا على الدهون المشبعة بدلا من النظام الغذائي كله هو أمر لا يأخذ في الاعتبار تأثيرات المكونات الغذائية الأخرى، مثل السكريات المضافة، التي قد تؤثر سلبا على الصحة. مثلا، ثبت أن استبدال الأطعمة الغنية بالدهون المشبعة لصالح نظام غذائي عالي الكربوهيدرات يزيد بشكل غير مقصود من مخاطر الإصابة بأمراض القلب. هنا يكون أخذ النظام الغذائي كله في الاعتبار هو المهم وليس عنصرا واحدا منه فقط. (5)

 

في غضون ذلك، لا تزال الأدبيات الطبية مليئة بالمقالات التي تناقش المواقف المتعارضة حول الدهون المشبعة. على سبيل المثال، في عام 2017، بعد مراجعة الأدلة، أيدت جمعية القلب الأميركية بشدة أن خفض تناول الدهون المشبعة واستبدالها بالدهون غير المشبعة، وخاصة الدهون المتعددة غير المشبعة، سيُقلل من الإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية. جاء في نتائج هذه الدراسة أن التجارب التي خفضت تناول الدهون المشبعة الغذائية واستبدلتها لصالح الزيوت النباتية غير المشبعة شهدت تقلص الإصابة بالأمراض القلبية الوعائية بنسبة 30%.(6)

 

ثم بعد ثلاثة أشهر فقط من التأييد السابق، خلصت دراسة أخرى شملت 18 دولة إلى نتيجة عكسية تماما: لم ترتبط الدهون الكلية وأنواع الدهون الأخرى بأمراض القلب والأوعية الدموية أو الوفيات الناتجة عنها. على النقيض، قالت الدراسة إن تناول الكربوهيدرات هو الذي ارتبط بخطر ارتفاع الوفيات الناجمة عن هذه الأمراض. (7) هذا ويرى الباحثون أن الاختلاف الكبير في نتائج الدراسات قد يعود إلى التعقيد المتأصل في النظم الغذائية البشرية، والاعتبارات المنهجية، بخلاف الدور الذي قد يلعبه التحيز.

لا يصح تجاهلها تماما

أشارت إلى أن تناول منتجات الألبان كاملة الدسم له تأثير محايد أو وقائي على مخاطر الإصابة بأمراض القلب، والسكتات الدماغية وارتفاع ضغط الدم.
أشارت إحدى الدراسات إلى أن تناول منتجات الألبان كاملة الدسم له تأثير محايد أو وقائي على مخاطر الإصابة بأمراض القلب، والسكتات الدماغية وارتفاع ضغط الدم. (شترستوك)

توضح منصة جامعة هارفارد للصحة أن العشرات من أنواع الدهون المشبعة تُعَدُّ لبنات بناء مهمة ومستودعات طاقة للجسم، وأن المشكلة تحدث فقط حين نتناول الكثير من هذه الدهون المشبعة (الألبان أو اللحوم) مع تقليل الدهون غير المشبعة (زيت الزيتون أو المكسرات)، لأن ذلك يزيد من كمية الكوليسترول المنتشرة في مجرى الدم وداخل جدران الشرايين. يمكن لهذه الرواسب، التي تسمى اللويحات، أن تضيق الشرايين التاجية، مما قد يتسبب في الإصابة بالذبحة الصدرية.(8)

 

لتجنب حدوث هذا، توصي جمعية القلب الأميركية بالسعي إلى نمط غذائي يجلب 5-6% من السعرات الحرارية اليومية من الدهون المشبعة. على سبيل المثال، إذا كنت بحاجة إلى نحو 2000 سعرة حرارية في اليوم، فيجب ألا يأتي أكثر من 120 سعرا منها من الدهون المشبعة، وهو ما يُعادل نحو 13 غراما من الدهون المشبعة يوميا.(9)

 

وفقا لموقع "هيلث لاين"، من المهم كذلك أن نضع في اعتبارنا أن الأشكال المختلفة للدهون المشبعة لا تتساوى في تأثيراتها. على سبيل المثال، من المرجح أن يؤثر النظام الغذائي الغني بالدهون المشبعة، التي تأتي على شكل وجبات سريعة ومنتجات مقلية ومخبوزات سكرية ولحوم مصنعة، على الصحة بشكل مختلف عن النظام الغذائي الغني بالدهون المشبعة التي تأتي على شكل منتجات ألبان كاملة الدسم ولحوم طبيعية غير مصنعة.(5)

 

هذا الأمر توضحه إحدى مراجعات الأبحاث، نُشرت عام 2016، وأشارت إلى أن تناول منتجات الألبان كاملة الدسم له تأثير محايد أو وقائي على مخاطر الإصابة بأمراض القلب، والسكتات الدماغية وارتفاع ضغط الدم. (10) في المقابل، أوضحت دراسة نُشرت عام 2015 أن تناول الأطعمة المصنعة الغنية بالدهون المشبعة، بما في ذلك الوجبات السريعة والأطعمة المقلية، ارتبط بالفعل باستمرار بزيادة خطر الإصابة بالسمنة وأمراض القلب والعديد من الحالات الصحية الأخرى مثل مرض السكري ومتلازمة التمثيل الغذائي وأمراض القلب والأوعية الدموية (11)، وهو ما يؤكد أن المصدر الذي نحصل منه على الدهون المشبعة يُعَدُّ أمرا جوهريا.

 

يعني ذلك أنه عندما يواجه البعض مشكلات صحية ناتجة عن نظامهم الغذائي، فإن هذا نادرا ما يكون فقط بسبب أنهم اختاروا منتج ألبان كامل الدسم بدلا من منتج آخر قليل الدسم، لكن السبب الأرجح سيكون هو إفراطهم في تناول المقليات والمنتجات المصنعة. عندما يركز الناس أحيانا على تقليل الدهون، فإنهم يبدأون في تناول المزيد من الكربوهيدرات المكررة والسكر بوصفها بديلا، مما قد يؤدي إلى مخاطر صحية أخرى رُبما تكون خطورتها مؤكدة بدرجة أكبر.(4)

هل المنتجات خالية الدسم صحية فعلا؟

المنتجات قليلة الدسم
الحليب الخالي من الدسم والقليل الدسم يمر بمعالجة إضافية لإزالة الدهون، ما ينتج عنه منتج يحتوي على نسبة من السكر. (شترستوك)

أضف إلى ذلك مشكلة أخرى غاية في الأهمية، حيث يربط الكثير من الناس بين عبارة قليل أو خالي الدسم المُدونة على المنتجات الغذائية وبين كون هذه الأطعمة صحية ومفيدة رُبما أكثر من غيرها. يغفل هذا الربط حقيقة أن العديد من الأطعمة المصنعة تُصنف على أنها قليلة الدسم، بدءا من حبوب الإفطار المفضلة وحتى الزبادي والآيس كريم قليل الدسم. ولكن هل هذه الأطعمة "قليلة الدسم" هي في الواقع بديل صحي للأطعمة العادية أو كاملة الدسم؟ في الواقع هناك العديد من المكونات التي تضاف إلى هذه الأطعمة "قليلة الدسم" التي لا تجعلها خيارا صحيا على الإطلاق، ومنها الألوان الصناعية والمحليات، والنكهات المضافة، والمثبتات، والسكر المضاف والملح، وشراب الذرة عالي الفركتوز.(12)

 

على سبيل المثال، تحتوي حبوب الإفطار المحلاة قليلة الدسم، التي يروج لها بوصفها طعاما صحيا استنادا إلى أنها تحتوي على نسبة منخفضة من الدهون، بالإضافة إلى كونها مدعومة بالفيتامينات والمعادن، على الكثير من السكر المضاف. في قسم المكونات المُدون على عبوات هذه الحبوب، عادة ما يكون السكر هو العنصر الثاني أو الثالث المُدرج، مما يعني أنه موجود بكميات كبيرة. (13)

 

أيضا يحظى الزبادي قليل الدسم بانتشار واسع باعتباره غذاء صحيا، ومع ذلك، لا يمكن اعتبار الزبادي المحلى بالسكر خيارا صحيا حتى إذا كان قليل الدسم. كذلك قد يُفضل البعض شراء زبدة الفول السوداني قليلة الدسم، وهذا المنتج أيضا قد لا يكون صحيا بالدرجة المُتصوّرة. تحتوي زبدة الفول السوداني الطبيعية فقط على الفول السوداني وربما القليل من الملح، وفي المقابل، تحتوي زبدة الفول السوداني قليلة الدسم على السكر وشراب الذرة ومواد مضافة أخرى لجعلها شهية أكثر. علاوة على ذلك، ورغم انخفاض إجمالي الدهون في زبدة الفول السوداني قليلة الدسم، فإن بعض الدهون الصحية الأحادية غير المشبعة الموجودة في زبدة الفول السوداني العادية تُستبدل بالزيت النباتي المعالج لإنتاج الزبدة قليلة الدسم.(14)

الوجبات السريعة والأطعمة المصنعة عموما هي إحدى المشكلات الكبرى التي تواجهنا
الوجبات السريعة والأطعمة المصنعة عموما هي إحدى المشكلات الكبرى التي تواجهنا. (شترستوك)

فيما يتعلق بالحليب خالي الدسم، الذي وُصف منذ فترة طويلة بأنه أكثر أنواع الألبان صحية، تشير الأبحاث الحديثة إلى أن هذا الأمر مشوب بالشكوك في أدنى الأحوال. بداية، علينا أن نشير إلى أن الحليب الخالي من الدسم والقليل الدسم يمر بمعالجة إضافية لإزالة الدهون، ما ينتج عنه منتج يحتوي على نسبة من السكر، التي تفوق نسبة السكر الموجودة في حصة متساوية من الحليب كامل الدسم.(14)

 

بخلاف ذلك، تُشير دراسة مهمة نُشرت عام 2019 إلى أن منتجات الألبان كاملة الدسم، وخاصة الزبادي والجبن، ليس لها التأثيرات الضارة المتوقعة السابقة على حساسية الإنسولين وملف الدهون (Lipid profile) في الدم وضغط الدم؛ هذه المنتجات أيضا لا تزيد من مخاطر الإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية، بل إنها قد تحمي في الواقع من أمراض القلب والأوعية الدموية ومرض السكري من النوع الثاني، وفقا للدراسة.(15)

 

في النهاية، ربما علينا أن نعرف أن التغذية الصحية لا تتعلق باصطلاحات دعائية مثل "كامل الدسم" أو "خالي الدسم"، ولكن بنظامنا الغذائي كله. ويبدو أن الشر ليس إذن في الدهون عموما، فهناك الكثير من الجدل في هذا النطاق، ولكن ما يتفق عليه الجميع أن الوجبات السريعة والأطعمة المصنعة عموما هي إحدى المشكلات الكبرى التي تواجهنا، وهي الشرير الرئيسي في هذه الرواية.

————————————————————————

المصادر:

1- Evidence from randomised controlled trials did not support the introduction of dietary fat guidelines in 1977 and 1983: a systematic review and meta-analysis

2- Randomised controlled trials—the gold standard for effectiveness research

3- Research criticising 1980s fat guidelines misguided, say scientists

4- Is low-fat or full-fat the better choice for dairy products?

5- Is Saturated Fat Unhealthy?

6- Dietary Fats and Cardiovascular Disease: A Presidential Advisory From the American Heart Association

7- Associations of fats and carbohydrate intake with cardiovascular disease and mortality in 18 countries from five continents (PURE): a prospective cohort study

8- – New thinking on saturated fat

9- Saturated Fat

10- Systematic Review of the Association between Dairy Product Consumption and Risk of Cardiovascular-Related Clinical Outcomes1,2,3

11- Fast Food Pattern and Cardiometabolic Disorders: A Review of Current Studies

12- The Myth Of ‘Low Fat’Food

13- Dietary Fructose and the Metabolic Syndrome

14- 10 ‘Low Fat’ Foods That Are Low In Nutrients

15- Effects of Full-Fat and Fermented Dairy Products on Cardiometabolic Disease: Food Is More Than the Sum of Its Parts

المصدر : الجزيرة