شعار قسم ميدان

انسحاب القهوة الرمضاني.. هل حان الوقت لإعادة التفكير في علاقتنا بالكافيين؟

"والقهوة، لمَن أدمنها مثلي، هي مفتاح النهار".

(محمود درويش)

مع حلول شهر رمضان، يبدأ عشاق القهوة في وداع الطقس الصباحي المحبب إليهم، هذا الذي لا يشبه أي عادة أخرى. في الأيام الأولى، نفتقد ذلك الفنجان الدافئ في بداية اليوم، ونبدأ في الشعور ببعض الصداع أو ضعف التركيز، ربما تكون فرصة جيدة للنظر في تأثير المشروب الذي تعشقه في حياتك كلها، والتعرُّف على ما يحل بك عندما تتوقف عن تناوله، وهل سيكون عليك العودة لتلك العادة يوميا والتقيد بها أم أن عليك اعتبار شهر رمضان فرصة للتحرر منها؟

الفنجان الذي غيَّر وجه الأرض

الفنجان الذي غيَّر وجه الأرض

ما يُثير الدهشة أن مشروبك المفضل حديث نسبيا، ومع ذلك فإن معرفة البشر بالكافيين كانت علامة فارقة غيَّرت الكثير في عاداتنا وحتى في طريقة ممارستنا لأعمالنا. فمع حلول القرن الخامس عشر، ظهر البن لأول مرة (تقول بعض الروايات إن زراعته بدأت في القرن العاشر) في مزارع شرق أفريقيا وانتقل إلى شبه الجزيرة العربية، ليتناوله الصوفيون في اليمن حتى يساعدهم في أداء شعائرهم الدينية دون الاستسلام للنوم، بعد أن ظهر أثر المشروب الجديد في القدرة على التركيز. وتتعدد الروايات حول المكان الذي ظهر فيه البن لأول مرة، وكيف اهتدى الناس إلى تحميصه ليكتسب المذاق المميز، لكنه ظل ينتقل شيئا فشيئا بين فئات المجتمع في البلدان المختلفة.

 

بعد قرن تقريبا ظهرت المقاهي لتكون جزءا من المجتمعات العربية والتركية، وفي عام 1629 ظهر أول المقاهي في أوروبا، وبعد بضعة عقود كان هناك آلاف المقاهي في لندن، ليكون هناك مقهى واحد لكل 200 من سكان لندن، ويصبح للمقاهي عموما دور كبير في المجتمع والسياسة والثقافة والفنون، واكتسب كل مقهى روحه الخاصة ورواده المميزين، وعلى اختلاف اهتماماتهم وتنوعها، كان الجميع يلتف حول القهوة. (1)

 

تأثير المقاهي ودورها في المجتمع كان كبيرا، لكنها قصة أخرى، ما يعنينا هنا هو الدور الذي لعبه الكافيين في تفكير البشر وقدراتهم. فمع انتقاله بين الدول، حرَّر الكافيين البشر من الإيقاعات الطبيعية للجسم التي ارتبطت غالبا بضوء الشمس، وبمرور الوقت صار من الممكن أن تستيقظ عقولنا مهما كانت متعبة، وأيًّا كانت الساعة، بحيث يمكننا العمل حتى لو لم نحصل على القسط الكافي من الراحة.

 

هكذا كان الكافيين حاضرا ومؤثرا في عصر العقل والتنوير، ولعب دورا مهما في ظهور الرأسمالية. فقدرتنا على البقاء متيقظين ومُنتبهين لوقت أطول حيَّدت بشكل كبير تأثير الإرهاق، فتحرَّرنا من إيقاع الساعة البيولوجية، ومع ظهور الضوء الاصطناعي أيضا لم يعد هناك حدود لأوقات العمل، لكن ما الذي يُحدِثه الكافيين في عقولنا تحديدا؟ ولماذا نرتبط به بهذا الشكل؟ (2)

ما يفعله بك فنجان من القهوة

ما يفعله بك فنجان من القهوة

عادة ما يبدأ هذا التأثير بمجرد أن تنتهي من آخر رشفة في فنجانك، وخلال 30-60 دقيقة يصل الأمر إلى ذروته، يعمل الكافيين في المقام الأول على تنشيط الجهاز العصبي المركزي من خلال منع عمل الأدينوزين، الجزيء الذي يتراكم تدريجيا في الدماغ على مدار اليوم لإعداد أجسامنا للراحة بنهاية اليوم. يَحُول الكافيين دون أداء الأدينوزين لوظيفته، فنشعر بالنشاط واليقظة، ما يُحدث أثره في تعزيز الأداء الرياضي وتحسين مستويات الطاقة وتقليل التعب والشعور بالنعاس. (3) (4)

 

إلى جانب ذلك، ترتفع مستويات الأدرينالين (الهرمون الذي تفرزه الغدد الكظرية طبيعيا في مواجهة شعورنا بالإجهاد)، ويزيد نشاط الناقلات العصبية المثيرة للدوبامين والنورأدرينالين، وهكذا يرتفع معدل ضربات القلب وضغط الدم، مما يُحفِّز الدماغ ويزيد اليقظة ويُحسِّن قدرتنا على التركيز، وتتحسَّن الوظائف المعرفية. (5)

 

يُسكت الكافيين معدتنا الخاوية أحيانا، كما يمنحنا بمزجه بالسكر السعرات الحرارية اللازمة لأداء تلك المهمة، وهكذا صار يمكن العمل لساعات أطول وفي ظروف ليست الأفضل حتى عند المعاناة من الجوع، يستمر التأثير المنشط لفنجان القهوة نحو 4-6 ساعات فقط، وفي الغالب نرغب في تكرار هذا التأثير، ولهذا نتناول عدة أكواب من القهوة على مدار اليوم بُغية الحصول على التأثير نفسه، وهكذا يرتفع استهلاكنا للكافيين دون حساب. (6) (7)

 

لكن مهما بلغ عدد أكواب القهوة التي تتناولها، يحترق الكافيين في النهاية ويغمر الأدينوزين مستقبلات الجسم لنشعر فجأة بكثير من التعب، بحيث يبدو وكأن الوقت قد حان لسداد الديون التي منحنا إياها الكافيين من الطاقة، لكن لحُسن الحظ، ليست الطاقة وحدها هي ما نبحث عنه مع القهوة، هناك شعور بالسعادة يصاحبنا مع تصاعد رائحة البن من الفنجان الساخن. (8)

هناك شعور بالسعادة يصاحبنا مع تصاعد رائحة البن من الفنجان الساخن.

"يختلف الناس في سر القهوة وتختلف آراؤهم: الرائحة، اللون، المذاق، القوام، الخلطة، الهال، درجة التحميص، شكل الفنجان، وغير ذلك من الصفات، أما أنا فأرى أنه التوقيت، أعظم ما في القهوة التوقيت، أن تجدها في يدك فور أن تتمناها، فمن أجمل أناقات العيش تلك اللحظة التي يتحول فيها تَرَف صغير إلى ضرورة".

(مريد البرغوثي)

حسنا، لا يزال هناك المزيد. فمنع تراكم الأدينوزين لا يمنحنا فقط الشعور باليقظة، لكنه يُحسِّن الحالة المزاجية، ويخفض خطر الإصابة بالاكتئاب. في دراسة نُشرت عام 2011 في موقع "شبكة العلوم" (web of science) وأُجريت على نطاق واسع على ما يقرب من خمسين ألف امرأة أميركية، تبيَّن أن النساء اللاتي تناولن أربعة أكواب أو أكثر من القهوة يوميا كان لديهن خطر أقل بنسبة 20% للإصابة بالاكتئاب مقارنة بالنساء اللاتي يشربن قليلا من القهوة أو لا يشربن على الإطلاق، كان خطر الاكتئاب يتناقص مع زيادة استهلاك القهوة التي تحتوي على الكافيين. (9)

 

يبلغ متوسط زمن تأثير الكافيين في الجسم من 3 إلى 5 ساعات، ويختلف هذا الوقت حسب كل شخص بحيث لا يستغرق البعض أكثر من ساعة واحدة، بينما يحتاج البعض إلى 9 ساعات حتى تختفي آثار الكافيين في جسمه، أيًّا كان عدد الساعات فإننا نجد أنفسنا في الصباح في أمس الحاجة إلى كوب القهوة المعتاد، بكل ما يحمله لنا من تأثيرات، وهنا تكمن النشوة التي نشعر بها في صحبة الفنجان الصباحي أكثر من غيره؛ إنه ينقذنا من أعراض انسحاب الكافيين، التي تتمثَّل في الصداع وبعض التعب وصعوبة التركيز، فيبدو تناوله الحل الأمثل للتغلب على مشكلة خلقها الكافيين نفسه لا غير. (10) (11)

انسحاب الكافيين

انسحاب الكافيين

"رائحةُ القهوةِ لأتماسَكَ، رائحة القهوة لأقف على قدميَّ، لأتحولَ من زاحِفٍ إلى كائن، لأوقف حصتي من هذا الفجر على قدميها، لنمضي معا أنا وهذا النهار إلى الشارع بحثا عن مكان آخر".

(محمود درويش)

عندما يعتمد الجسم على الكافيين، فإن الانقطاع المفاجئ عنه يمكن أن يُسبِّب أعراض انسحاب تبدأ عادة بعد 12-24 ساعة من التوقف عن تناوله، ويُعَدُّ "انسحاب الكافيين" تشخيصا طبيا معروفا يؤثر في مَن يستهلكون الكافيين بانتظام. (12)

 

أبرز أعراض انسحاب الكافيين هو الصداع، يتسبَّب الكافيين في تقلُّص الأوعية الدموية في الدماغ وبالتالي إبطاء تدفق الدم، وحين نُقلِّل أو نتوقف عن تناوله يُسمح للأوعية الدموية بالتمدد ويزيد تدفق الدم إلى الدماغ، هذا التغيير المفاجئ هو ما يتسبَّب في حدوث الصداع الذي يختلف في الطول والشدة بين الأفراد، إلى أن يتكيَّف الدماغ مع زيادة تدفق الدم، فيتوقف الصداع. (13)

 

التعب هو العرض الثاني لانسحاب الكافيين، فاعتمادنا على القهوة يوميا للحصول على دفعة من الطاقة بتعطيل عمل الأدينوزين يُحدث أثرا عكسيا عند التوقف عنه، فيُسبِّب النعاس والتعب، في الغالب فإن اعتمادنا على القهوة في تجديد النشاط كل بضع ساعات، والإفراط في تناول الكافيين، يزيد أعراض الانسحاب سوءا. (14)

 

الفنجان الساحر الذي نلجأ إليه ليساعدنا على التركيز، عند المذاكرة أو عند بدء العمل، يقوم بالمهمة على أكمل وجه بالفعل؛ يزيد مستويات الأدرينالين، ويُعزز نشاط الناقلات العصبية المثيرة للدوبامين والنورأدرينالين، ويُحفز الدماغ، لكن توقفنا عن تناوله يتطلَّب جهدا كبيرا من الجسم لكي يعمل وحده، وهكذا نعاني من صعوبة التركيز. (15)

 

يؤثر إيقاف الكافيين أيضا في حالتنا المزاجية، في مقال له بصحيفة الغارديان كتب مايكل بولان يقول عن اليوم الأول في تجربته في التوقف عن تناول الكافيين يقول: "أشعر وكأنني قلم رصاص غير حاد". (16)

فكِّر في علاقتك بالقهوة

القهوة

على الرغم من فوائده، فإن زيادة جرعة الكافيين قد تؤثر سلبيا في قدراتنا، يمكن ملاحظة زيادة استهلاك الكافيين من خلال أعراض مثل سرعة دقات القلب، والشعور بالقلق والتوتر، والصداع وآلام المعدة والتهيج وارتعاش العضلات، كما أن تأثيره في النوم أحد أهم الأعراض التي يجب الانتباه لها، إذ يمتد تأثيرها طويلا في الصحة العامة. (17)

 

في كتاب "لماذا ننام؟"، أفرد عالم الأعصاب الإنجليزي في جامعة كاليفورنيا ماثيو ووكر مساحة كبيرة للتنبيه لهذا الخطر الذي يتسبَّب فيه اعتمادنا على الكافيين، ويتمثَّل في عدم حصولنا على ما يكفي من ساعات النوم، يُحذِّر ووكر من أن قلة النوم قد تكون عاملا رئيسيا في تطور أمراض مثل الزهايمر وتصلُّب الشرايين والسكتة الدماغية وفشل القلب والاكتئاب والقلق والانتحار والسمنة، ولهذا السبب فهو يَعتبر النوم أكثر أهمية ربما حتى من الغذاء الجيد والجسم الرشيق، إذ لا يمكن تعويض ساعات النوم التي فقدناها، وهو يوضح أنه حتى مع النوم لساعات كافية، فعليك التفكير في أن نسبة ما من الكافيين قد تكون موجودة في الدم، تؤثر في جودة النوم. (18)

لهذه الأسباب ربما يكون شهر رمضان فرصة مناسبة لإعادة النظر في علاقتنا بالكافيين، وما إذا كانت الجرعة التي نتناولها مناسبة بحيث نحصل منها على فوائد هذا المشروب دون أن يمتد أثره السلبي إلينا. إذا كنت تتناول الكافيين بكمية زائدة، فربما آن الأوان أن تُفكر في تقليص حصتك تدريجيا.

 

بالنسبة للبالغين الأصحاء، تقول إدارة الغذاء والدواء الأميركية إن 400 ملليغرام يوميا -أي نحو 4 أو 5 أكواب من القهوة- هو مقدار لا يرتبط عموما بآثار سلبية وخطيرة. ومع ذلك، هناك تباين كبير في حساسية الأشخاص لتأثيرات الكافيين ومدى سرعة تأثيره في الجسم وتعامل الجسم معه.

 

بإمكانك تجنُّب حِدَّة الأعراض المزعجة لانقطاع الكافيين أو التقليل منها حين تنقطع بالتدريج عن تناول القهوة قبل الشهر الكريم بفترة، يمكن كذلك لغرض تقليل كمية الكافيين اليومية أن تمزج بين القهوة العادية وتلك المنزوعة الكافيين لتقليل الاعتماد عليه ببطء، كما أن شرب كمية كافية من الماء أمر بالغ الأهمية عند التوقف عن تناول الكافيين، فالجفاف قد يؤدي إلى تفاقم أعراض الانسحاب مثل الصداع والتعب.

 

سيكون عليك الحصول على قسط كافٍ من النوم لمواجهة التعب، لذا حاوِل الحصول على 7-9 ساعات من النوم كل ليلة، فعند التوقف عن تناول الكافيين سيكون على الجسم أن يعمل دون المساعدة التي اعتادها، ابحث هنا عن مصادر زيادة الطاقة طبيعيا، ويمكنك دمج المصادر الطبيعية للطاقة مثل التمارين والأطعمة الغنية بالعناصر الغذائية مع تقنيات تقليل التوتر مثل التأمل واليوغا والتنفس العميق للحصول على أفضل النتائج. (19)

———————————————————————————–

المصادر

  1. The invisible addiction: is it time to give up caffeine?
  2. المصدر السابق
  3. Absolutamente Todo Lo Que Tienes Que Saber Sobre El Café (Preguntas Y Respuestas)/
  4. The invisible addiction: is it time to give up caffeine?
  5. 8 Symptoms of Caffeine Withdrawal
  6. The invisible addiction: is it time to give up caffeine?
  7. Absolutamente Todo Lo Que Tienes Que Saber Sobre El Café (Preguntas Y Respuestas)
  8. The invisible addiction: is it time to give up caffeine?
  9. Coffee, Caffeine, and Risk of Depression Among Women
  10. Absolutamente Todo Lo Que Tienes Que Saber Sobre El Café (Preguntas Y Respuestas)
  11. The invisible addiction: is it time to give up caffeine?
  12. 8 Symptoms of Caffeine Withdrawal
  13. المصدر نفسه
  14.  Caffeine: How to Hack It and How to Quit It
  15. 8 Symptoms of Caffeine Withdrawal
  16. The invisible addiction: is it time to give up caffeine?
  17. Coffee After Noon? How Does It Affect Our Bodies?
  18. Why We Sleep by Matthew Walker
  19. Caffeine: How to Hack It and How to Quit It
المصدر : الجزيرة