شعار قسم ميدان

صوتك الداخلي.. تعرف على العلم المدهش وراء الثرثرة اليومية الحاصلة في دماغك

صوتك الداخلي.. تعرف على العلم المدهش وراء الثرثرة اليومية الحاصلة في دماغك

يوبخك أحيانا بالهمس: "كم كنتَ غبيا" أو "أنت لستَ جذابا بالمرة"؛ فيصيبك بالإحباط، ويدعمك في أحيان أخرى ويؤكد لك أنك "قوي" وأن الأمور "ستكون بخير"، يدندن بأغنية عالقة في رأسك، أو يعيد عليك كلمة سر لا تريد نسيانها، تسمعه عندما تقرأ كتابا أو تستمع إلى محاضرة يردد الكلمات بصوتك، وتستدعيه حين ترغب في تذكر شيء ما تاه بين ركام عقلك. يحضر في مواقف مختلفة، يدعمنا أو يقرِّعنا، لكنه يتحدث طوال الوقت تقريبا، أو هذا ما نتخيله، فمن أين يأتي ذلك الصوت الداخلي في رؤوسنا، هذا الذي يرافقنا دائما ويكاد لا يصمت أبدا؟

 

آلاف الكلمات في دقيقة واحدة

تقول دراسة أجرتها باحثة من جامعة ووستر الأميركية إننا نتحدث إلى أنفسنا بمعدل يصل إلى 4000 كلمة في الدقيقة. فكِّر هنا في الوقت الذي يستغرقه الاستماع إلى عدد مماثل من الكلمات في تقرير إخباري مثلا، وتخيل كيف يكون الاستماع إلى حديث النفس مرهقا، خاصة إذا أخذنا بالاعتبار محتواه الذي قد يكون أفكارا متناثرة أو اجترارا لأحداث مؤلمة أو لوما أو حوارا غاضبا(1).

 

في الطفولة، نتحدث أثناء اللعب بجمل متفرقة غير مترابطة يبدو منها أننا نحاول فهم العالم المحيط، هذا الصوت نفسه يكبر معنا ونتحكم فيه أكثر ليصبح داخل رؤوسنا فقط، لا يسمعه أحد سوانا، هكذا يكون كل شيء هادئا في الخارج بينما يسود الضجيج في الداخل. كثيرا ما يكون هذا الصوت أداتنا لمواجهة المشكلات وترتيب عالمنا الداخلي والخارجي، وكما يصفه "إيثان كروس"، المتخصص في علم الأعصاب وعلم النفس التجريبي، بأنه "قوة عظمى نمتلكها تميزنا عن الأنواع الأخرى".

يدير إيثان كروس مختبر المشاعر والتحكم في النفس (Emotion and Self Control Lab) في جامعة ميشيغان الأميركية، ويعمل بشكل أساسي في دراسة المحادثات الصامتة التي يجريها الناس مع أنفسهم، وكيف تؤثر في حياتهم بحيث يستفيد البعض من الانزواء إلى الداخل، فيفهمون مشاعرهم ويتعاملون معها، بينما يكون الانفراد بالنفس جحيما بالنسبة إلى آخرين، ما يثير التساؤل عما إذا كانت هناك طرق صحيحة وأخرى خاطئة للتواصل مع الذات(2).

 

صوت صديق وآخر عدو

في دراسة نُشرت عام 2013 في مجلة "جورنال أوف سيكولوجي (The Journal of Psychology)"، حددت باحثة متخصصة في علم النفس في جامعة جون بول الثاني الكاثوليكية في أربعة أنماط مختلفة من الأصوات الداخلية، هي: صديق وفي، ووالد متناقض يكيل الانتقادات، ومنافس فخور يهتم بالنجاح أكثر مما يقدم الدعم، وطفل عاجز. يظهر كل صوت من الأصوات الأربعة في نوع مختلف من المواقف، مُقدمة لنا وصفة خاصة لتجاوزها(3).

 

كثيرا ما يكون للصوت الداخلي تأثير إيجابي كبير في سلوكنا بالفعل، وكما تشير دراسة لباحثين من قسم التربية البدنية وعلوم الرياضة بجامعة ثيساليا اليونانية، فالصوت الداخلي يؤثر إيجابيا في أداء الرياضيين، ويعتبر إستراتيجية لتسهيل التعلم وتحسين الأداء(4). كذلك يلعب الصوت الداخلي دورا في التذكر والاحتفاظ بالمعلومات نشطة، فيكرر لك رقم الهاتف الذي تحاول تذكره عدة مرات، ويساعدك في التخطيط للمستقبل، ويُجري معك حوارا متواصلا لتتخيل الأخطار المحتملة وتفكر في كيفية مواجهتها قبل أن تحدث، يطرح عليك كثيرا من الأسئلة، تؤثر في النهاية في خياراتك وسلوكك(5).

 

ما يؤكده إيثان كروس من خلال تجاربه هو أن الصوت الداخلي أقوى أثرا من كل ما يحيط بنا من الخارج، وهذا ما يفاقم تأثيره السلبي إذا كان مُثبطا، فبإمكانه أن يُفسد عليك حدثا سعيدا تشهده، كأن تكون في حفل مع أصدقائك مثلا، فقط لأنه قرر أن يجتر معك في تلك اللحظات حدثا أليما مضى. هكذا يكون الصوت الداخلي أحيانا عدوا يرافقنا، ينتقدنا، ويزعزع احترامنا لذواتنا وثقتنا في أنفسنا، فيقول: "لستِ جميلة مثل صديقتك"، يثير الشك في قوة علاقاتنا بالآخرين، فيردد: "إنهم لا يحبونك"، ويقلل من شأن إنجازاتنا في العمل، فيكرر: "لن تنجح أبدا"، أو "لا أحد يقدر ما تفعله".

تفكير

لذلك، كثيرا ما تكون نتيجة الاستماع إلى هذا النوع من الصوت الداخلي هي الإصابة بالاكتئاب والقلق. فكما يوضح كروس، التوتر وحده ليس قاتلا لهذا الحد، والإجهاد ليس سيئا، فالتوتر الذي نشعر به حين نواجه خطرا ما، يكون مفيدا في دفعنا للتصرف، لكن ما يفاقم الأضرار هو ذلك الصوت الذي لا يكف عن تذكيرك بالتجارب السلبية، تمر أسباب التوتر، بينما يظل الصوت يجترها ويكررها، فيُبقي التجربة حية في ذاكرتك، ويصنع ضغطا يصعب على الجسم تحمله؛ ولذلك يصاب البعض بالأمراض النفسية والجسمانية أيضا.

 

من المفهوم أن يكون الحديث الذي يجتر التجارب السلبية مُنفرا دائما، تماما مثلما قد تنفر من ذلك الصديق الذي لا يحدثك إلا عن المشكلات، وتنجذب إلى الصديق الذي يشجعك. يبقى التساؤل الأهم إذن هو إذا كان بمقدورنا تسخير صوتنا الداخلي بحيث يمكننا التعايش معه دون أن تؤذينا ثرثرته، والبداية هي أن تتعرف على نمط الصوت بداخلك لتعرف كيف يؤثر فيك، تَخيَّل ببساطة أنك تسمع هذا الصوت من الخارج لا من الداخل، بنبرة أعلى، لتعرف قدر تأثير ذلك الرفيق الدائم(6)(7).

 

فيم كنت تفكر قبل لحظات؟

غالبا ما تكون الإجابة عن مثل هذا السؤال مراوغة تماما، ففي عقلك تمر الأفكار والصور والكلمات بسرعة وكثافة لا تكاد تلاحقها. البحث عن الكلام الداخلي ليس أبدا بالمهمة السهلة، ومجرد سؤال أحدهم عما كان يفكر فيه قبل لحظات لا يعني أنك ستحصل على الإجابة، فنحن لا نولي اهتماما لعقولنا الشاردة، وحتى حين تحاول الوقوف على ما كنت تفكر فيه قبل لحظة ستكون الأفكار والصور والكلمات قد غابت لتحضر غيرها في لحظات، مع ذلك فقد حاول العلماء التعرف على ما يحدث حقا.

تفكير

أجرى عالم النفس بجامعة نيفادا الأميركية "راسل هيرلبورت" تجربته على مئات الأشخاص للتعرف إلى ما يدور في أذهانهم، فوجد أن الأفكار التي تدور في رؤوسنا أكثر تنوعا مما نعتقد، وكان أول ما لاحظه أن الكلمات لا تظهر بشكل كبير في أفكارنا اليومية كما يعتقد كثير منا، نعم، نحن نظن أننا نفكر عبر الكلمات، لكن الحقيقة ليست كذلك.

 

كان على المشاركين في التجربة أن يحملوا جهازا أثناء ممارسة أنشطتهم اليومية العادية، وحين يصدر الجهاز صوتا بعينه، يكون عليهم تسجيل ما كان يدور في أذهانهم حينها (قبل الصوت مباشرة) والشكل الذي اتخذه الحوار مع النفس؛ هل كان في كلمات أم صور أم إحساس جسدي أم شيء آخر.

 

تمحورت الفكرة حول أن يصدر الجهاز صوت التنبيه مرات قليلة فقط خلال اليوم، خطط هيرلبورت لأن يكون الوقت كبيرا بين مرات صدور التنبيه، بحيث يكون الشخص نسي أمرها فلا تتأثر أفكاره بخضوعه للاختبار، وحين يصدر صوت التنبيه يكون عليه التفكير مليا فيما كان يجول بخاطره. يقول هيرلبورت إن الأمر يشبه الهبوط بالمظلة في وسط إحدى الغابات، ستندفع الحيوانات الصغير هاربة، لكن سيظل بالإمكان ملاحظة الكثير من ملامح المشهد في الغابة ووصفها وتوقع ما كانت عليه قبل لحظات.

 

في النهاية، وجدت التجارب أن حوارنا الداخلي مع الذات يتخذ أشكالا مختلفة، يكون بالصوت أحيانا، وفي أحيان أخرى يكون باستعراض عدد هائل من الصور، أشياء رأيتها في الواقع، مشاعر مثل الغضب أو السعادة، وأحيانا عبر التفكير غير الرمزي، وهو مفهوم أكثر تعقيدا، ولكنه في الأساس فكرة لا تبدو في رأسك على هيئة كلمات أو صور، ولكنها تظل حاضرة في ذهنك.

 

لاحظ أستاذ علم النفس أن هناك تفاوتا واضحا في الوقت الذي يقضيه الأفراد في الحديث إلى أنفسهم، كانت نسبة 23٪ من المشاركين يشغلون 100٪ من الوقت في ذلك المونولوج الداخلي، بينما قلت الأوقات التي يقضيها المشاركون الآخرون إلى أن وصلت إلى 0% (الصمت المطبق)، وهو يعني أن البعض لا يُجري أي حوار مع ذاته(8).

 

دماغ هادئ.. وكثير من الصور

تفكير

وفق نتائج تجارب هيرلبورت، هناك من ينخرطون في التفكير البصري والتجريدي، فلا يمارسون هذا الحوار الداخلي، بدلا من الكلمات تمر أمامهم مئات الصور، بينما يرن في دماغنا الصوت ليقول مثلا: "لا تنسَ شراء الخبز"، فإن البعض يرون صورتهم وهم في المتجر لشراء الخبز. لكن هؤلاء الأشخاص الذين استخدموا الحد الأدنى من الكلمات في أصواتهم الداخلية واجهوا أيضا المزيد من الصعوبات عند شرح أفكارهم، وهو ما يؤكد أن القدرة على "التحدث إلى الذات" لها عواقب إيجابية من حيث معرفة الذات وترتيب الأفكار.

 

وفي مقابل أولئك الذين لا يسمعون الصوت الداخلي وتمر الأفكار في رؤوسهم من خلال مجموعة من الصور والمشاهد، هناك من لا يمكنهم رؤية أي صور داخل عقولهم، وهو ما يُطلق عليه "أفانتازيا" أو "عمى عين العقل". لا يمكن لهذه الفئة تخيل وجه صديق لهم مثلا أو رسم مشهد غروب الشمس في أذهانهم، وهم يشكلون نسبة تتراوح بين 1-3%.

 

في دراسة لباحثين من جامعة نيو ساوث ويلز في أستراليا نُشرت في مجلة "كورتكس (Cortex)" عام 2018، وجد الباحثون أنه بينما يتذكر أغلبنا الماضي من خلال صور ومشاهد تمر في دماغنا كما لو كانت فيلما نشاهده، فإن المصابين بالأفانتازيا لا يمكنهم إنتاج صور ذهنية إطلاقا؛ بسبب الاختلافات في كيفية عمل الدماغ لديهم(9).

 

ما الذي يفعله الصوت الداخلي؟

تفكير

بإمكانك أن تتخيل كم هو صعب أن نتعرف إلى خصائص هذا الحديث الذاتي بالنظر إلى أن هناك أصواتا داخلية بعدد كل الناس تقريبا، مع ذلك فقد حاول العلماء اكتشاف ما يقوله ذلك الصوت الذي يحدثنا بمعدل أكبر حين نمر بضغوط، فيكرر إجابات لأسئلة مقابلة العمل المتوقعة مثلا، نسمعها في الغالب بأصواتنا الحقيقية، لنكون دوما على استعداد.

 

تميل أدمغتنا لتخيل موقف خطير مثلا والتدرب على كيفية مواجهته، أكثر من ميلها لتذكر أمور إيجابية؛ وهذا لأنها تهتم بسلامتنا وبقائنا على قيد الحياة أكثر مما تفكر في سعادتنا، ولذلك حين تطرح أدمغتنا أسئلة على شاكلة "هل أنت محبوب من الآخرين؟"، فإن الهدف يكون إبقاءك ضمن مجموعة تحميك، إذ لا يمكننا العيش دون مساعدات الآخرين، ولذلك يتكرر السؤال: هل يحبونك؟ وهل أنت جدير بأن تكون معهم؟ لا للتقليل من ثقتك بذاتك، ولكن لضمان بقائك المجموعة.

 

في تجربة قامت بها "فاميرا راسي"، منسقة معمل الكلام الداخلي في جامعة ماونت رويال بكندا، للتعرف إلى أسباب استخدامنا الحديث الداخلي، وجد الباحثون أننا نتحدث إلى أنفسنا عن كل شيء، عواطفنا والآخرين وأنفسنا، أثناء قيامنا بالمهام اليومية العادية مثل المشي والنهوض من السرير، وأن هذا الكلام الداخلي يلعب دورا مهما في التأمل الذاتي وحل المشكلات وحتى التفكير النقدي والتفكير المنطقي(10).

 

ليكن حديثه في صالحك

تفكير

الخبر الجيد هو أن الحديث الإيجابي إلى النفس أمر يمكن اكتسابه والتدرب عليه، إذا كانت طبيعة صوتك الداخلي متشائمة وكثيرة اللوم والانتقاد فيمكن البدء بتغيير ذلك تدريجيا، بأن تحيط نفسك بأشخاص إيجابيين، وأن تقاوم الشعور بالتوتر فتلجأ إلى الضحك ومشاهدة مقاطع فيديو مضحكة مثلا ليتوقف دماغك عن اجترار الأمور السلبية، وبأن تحيط نفسك طوال الوقت بجمل وصور وكلمات إيجابية في مكتبك ومنزلك والأماكن التي تقضي فيها معظم وقتك، بحيث تساعدك رؤيتها على إعادة توجيه أفكارك.

 

في النهاية، لا يزال صوتنا الداخلي سرا كبيرا، ولا يزال العلماء يطرحون أسئلة كثيرة عن سبب وجود اختلافات فردية في كيفية استخدامنا الكلام الداخلي ومداه وهل يختلف باختلاف الثقافات وهل ترتبط أنواع الصوت الداخلي بأنماط الشخصيات، لكنه بحث يستغرق وقتا طويلا. ورغم ذلك، المؤكد أن هذا الصوت الداخلي هو المصباح الذي يمكننا استخدامه لرؤية ما تحتوي عليه الغرفة المظلمة، دماغنا، وما تحمله من أسرار، وأن تطويع ذلك الصوت ليكون صديقا يدعمنا يمكن أن يسهم بشكل فارق في جودة حياتنا.(11)- (12)

———————————————————–

المصادر

  1. The Rate of Inner Speech
  2. How to look past the chatter and manage your inner voice
  3. Self-Talk: Conversation With Oneself? On the Types of Internal Interlocutors
  4. Self-Talk and Sports Performance: A Meta-Analysis
  5. How to look past the chatter and manage your inner voice
  6. Why your most important relationship is with your inner voice
  7. How to look past the chatter and manage your inner voice
  8. Toward a phenomenology of inner speaking
  9. The blind mind: No sensory visual imagery in aphantasia
  10. What the voice inside your head says about you
  11. Positive Self-Talk: How Talking to Yourself Is a Good Thing
  12. What the voice inside your head says about you
المصدر : الجزيرة