شعار قسم ميدان

"ميدان" يحاور مستشارة توظيف عالمية.. كيف تتخلص من حيرة البحث عن أفضل وظيفة؟

"ميدان" يحاور مستشارة توظيف عالمية.. كيف تتخلص من حيرة البحث عن أفضل وظيفة؟

أنت شاب يافع في الخامسة عشرة، تجلس على مكتبك وتتأمل سقف الحجرة وتنجرف إلى أحلام اليقظة: أريد أن أصبح طبيبا، ولكنني أحب الموسيقى وأرغب في تعلُّم البيانو، بينما ينصحني صديقي بتعلُّم اللغة الألمانية فورا حتى أتمكَّن من الحصول على فرصة عمل بالخارج، كم أتمنى العيش في بلد أوروبي!

في الوقت نفسه، أنت تراقب أخاك الأكبر وهو يقود سيارته الـ "X6" التي اشتراها مؤخرا بعد فوزه بصفقة أعمال رابحة، وتتطلَّع في الوقت نفسه إلى ابن خالتك الذي درس علوم الفضاء ويعمل الآن في ناسا ويعيش حياة مرفَّهة في الولايات المتحدة، تُفكِّر لوهلة أن الحياة في الولايات المتحدة قد تكون أفضل من أوروبا، ولكن إحدى صديقات أختك حصلت على منحة من كلية الألسن لدراسة اللغة اليابانية في طوكيو، وأنت تعشق أفلام الأنيمي التي يصنعونها.

يدفع الأحلام الأدرينالين في جسدك، تشعر أن لديك الكثير من الطاقة لفعل كل شيء، لكنَّ أباك لا يهتم لكل هذا، ويستمر في الإلحاح عليك لاختيار كلية الهندسة لتصبح مهندسا مثله، فما العمل؟

ضريبة العولمة

قبل عدة عقود كانت الخيارات قليلة والطرق واضحة ولا لبس فيها. تقول الدكتورة "ميشيل توليير"، التي عملت مستشارة توظيف لأكثر من 20 عاما، في حديثها مع "ميدان": "في الماضي، كان الشباب لا يعرفون سوى الوظائف التي يقوم بها الآباء أو أفراد العائلة، أو مِهَن الأشخاص الذين يتعرَّضون لهم في حياتهم اليومية مثل الأطباء والمعلمين".

في الغالب كنت ستكبر لتعمل في الزراعة أو التجارة، أو في بعض الأحيان قد تصبح طبيبا أو مهندسا أو حتى عالم ذرّة. اليوم، بعد أن أصبح العالم كله على بُعد نقرة من إصبعك، لم يعد من الممكن الاكتفاء بما هو متوفر في بلدك. كيف ذلك وأنت تشاهد العالم الواسع والثقافات المختلفة وفرص العمل الجديدة والمجالات التي لم تسمع بها من قبل تستولي على سوق العمل؟

يتمتع جيل ما بعد الألفية بتوافر فرص عمل لم تكن متاحة للأجيال السابقة، ولم يعد مضطرا للعمل في الوظيفة نفسها التي تتوارثها العائلة.

لم يكن السفر للدراسة بالخارج أيضا ذا شعبية هائلة كما هو الحال الآن. فتح لنا الإنترنت الباب على مغارة "علي بابا" المكدَّسة بالمنح المختلفة للدراسة بالخارج، وضاعفت مواقع التواصل الاجتماعى فرص وصول هذه المنح إلى الجميع بلا استثناء.

تُضيف توليير: "خلال نشأة الجيل زِد (Generation Z) وجيل الألفية، تعرَّضوا للعديد من الأمثلة المهنية بفضل نظرتهم الشاملة للعالم والعدد الهائل من الصِّلات عبر وسائل التواصل الاجتماعي". الآن باستطاعتك الاختيار ليس فقط من بين الكليات الموجودة في بلدك، بل من بين كل كليات العالم تقريبا إن كنت مطابقا لشروط الالتحاق. بالطبع كلما نلت تعليما جامعيا مرموقا، زادت فرص فوزك بوظيفة لامعة فيما بعد.

يبدو هذا مبهجا وجذابا، وقد يكون جيل ما بعد الألفية حقا أكثر حظا من الأجيال السابقة، ولكن ماذا لو كانت هذه الاختيارات وبالا عليك؟ كيف يمكنك الاختيار من بين هذا البحر الواسع من مجالات الحياة؟

الكثير من المربى

في تجربة شهيرة في بداية الألفية، عُرض 24 مذاقا مختلفا من المربى على المستهلكين، ثم خُفِّض هذا العدد إلى 6 مذاقات فحسب. كان الهدف من هذه التجربة تحديد ما إذا كان عدد الاختيارات المتاحة أمام المشتري سيؤثر على قراراته الشرائية أم لا.

زادت نسبة مبيعات المربى 10% بعد تخفيض عدد الخيارات من 24 مذاقا إلى 6 فحسب.

تمخَّضت هذه التجربة عن مصطلح "مفارقة الاختيار" (Paradox of choice)، حيث وُجد أن مبيعات المربى زادت بنسبة 10% عند تقليل الاختيارات إلى 6 فحسب، على عكس المتوقَّع. تعني مفارقة الاختيار أن قدرتك على اتخاذ قرار تتناسب عكسيا -عند مرحلة معينة- مع عدد الخيارات المتاحة أمامك، وما ينطبق على اختيار المربى ينطبق على اختيار مسار حياتك.

ليس من الغريب في يومنا هذا أن نجد الشباب في حيرة من أمرهم، ضائعين أمام هذا القدر المخيف من الدورات التدريبية ومراكز تعليم اللغات والمنح الدراسية والورش التدريبية المؤهِّلة للوظائف المختلفة. بنظرة واحدة على قائمة "الحفظ" في ملفك الشخصي على فيسبوك يمكننا أن نرصد عشرات القوائم لمواقع تُقدِّم دورات مجانية، وروابط تُعلِّمك اللغات في 3 أشهر، ناهيك بإعلانات الوظائف المختلفة التي تطلب المبرمجين والمصممين وكُتَّاب المحتوى. قد تقول لنفسك: "أنا أستطيع فعل هذا"، ولكن كيف يمكنك اختيار وظيفة ما إن كنت تمتلك حرية أن تصبح أي شيء على وجه الأرض؟

تقول توليير في حوارها مع "ميدان": "تجربة المربى قطعا وثيقة الصلة بعملية اختيار المهنة. رغم أن الكثير من الأبحاث حول وفرة الخيارات كانت تُركِّز على سلوك المستهلك -أي كيف نتَّخذ القرارات فيما يخص المنتجات والخدمات التي نشتريها- فإن تطبيق المبدأ نفسه على الخيارات المهنية ممكن".

يمكننا أن نعتبر سوق العمل يوفِّر "وظائف للبيع"، وعليك بوصفك مستهلكا أن تختار المذاق الأفضل، والعُملة التي ستدفع بها هي سنوات التعليم وتكاليف الدورات والدراسات العليا وخلافه. تستكمل توليير حديثها: "نحن نستخدم كلمة سوق في سياق سوق العمل أو السوق المهني، لذا مجازا يمكننا اعتبار الاختيارات المهنية للشباب مثل عملية تحديد أي اتجاه وظيفي سوف تشتري".

شلل الاختيار

قبل تجربة المربى، غالبا ما كان يُحتفى بالوفرة في الخيارات باعتبارها وسيلة لحياة أفضل وأكثر سعادة. وجود الخيارات المتنوعة أمامك يرفع من مستوى الإحساس الداخلي بالتحكم، لأنك ستختار ما تشعر بالشغف تجاهه، لا ما تفرضه عليك اختيارات الحياة المحدودة. ولكن بعد عدد معين من الاختيارات، قد تُصبح الوفرة وبالا عليك. تقول توليير لمحررة "ميدان": "أرى هذه المشكلة كثيرا مع عملائي اليافعين. عندما يرون نتائج تقييمهم المهني (المعروف أيضا بالاختبار الوظيفي) يفاجئهم العدد الكبير، أحيانا المئات، من المهن التي تتوافق مع قدراتهم واهتماماتهم ونقاط قوتهم، ويمكن أن يضيعوا وسط الآلاف من الاختيارات".

تخيَّل أنك تختار بين 10 مسارات مهنية مختلفة، وتدرس مزايا وعيوب كلٍّ منها، وتبحث عن تجارب الآخرين ممن سبقوك في كل مسار، وتستمر في تحليل كل معلومة جديدة حتى تصل إلى "الخيار المثالي" الذي سيمنحك أكبر قدر من السعادة وتحقيق الذات والتحقق المادي.

بالطبع لا يوجد مهنة مثالية، لذلك قد تستمر في البحث للأبد دون اتخاذ قرار حقيقي. أنت الآن في حالة من الشلل تُعرف باسم "الشلل التحليلي" (Analysis Paralysis). تُفسِّر نظرية عالم النفس "جورج ميلر" الأمر، حيث يُعتقد أن الذاكرة العاملة تستوعب من 5-9 مؤثرات فقط في الوقت نفسه، لذا فإن أي عدد من الخيارات يفوق هذا الرقم قد يؤدي بك إلى الحيرة والتشتت.

وجود المئات من الخيارات المهنية أمامك قد يؤدي بك إلى عدم الاختيار على الإطلاق فيما يسمى بـ"الشلل التحليلي".

ليس الأمر بهذه البساطة قطعا، فحتى لو اخترت المسار الوظيفي الذي يمنحك الاستقرار والسعادة، قد تشعر بالندم لاحقا وأنت جالس في تجمُّع عائلي وزوج أختك يتحدَّث عن إنجازاته العديدة، أو وأنت تراقب أقرانك عبر وسائل التواصل الاجتماعي يتحدَّثون عن وظائفهم الرائعة.

تستطرد توليير: "أما الآن، فإنهم [الشباب] يرون أشخاصا من حول العالم (عبر الإنترنت)، وربما من خلال شبكات علاقاتهم الشخصية، يقومون بكل أنواع الأعمال الشائقة، مما قد يُورِّث لديهم شعورا بالقلق من الاضطرار للاستقرار في وظيفة واحدة فقط". قد تشعر أن مَن حولك يمتلكون حياة أفضل، أو أكثر سعادة، وبالطبع وظائف أفضل منك.

في العالم الذي نعيش فيه اليوم ويحتوي على آلاف الخيارات، وعلى الكثير من البشر المولعين باستعراض ما يفعلون وما يملكون عبر وسائل التواصل الاجتماعي، من السهل أن تُصاب بالندم. يصف "باري شوارتز" في كتابه الشهير "مفارقة الاختيار" (The Paradox of choice) حالة "ندم المشتري" (Buyer’s remorse) قائلا: "بعد قرار الشراء، نبدأ في إعادة التفكير وإقناع أنفسنا بأن الخيارات التي رفضناها كانت في الحقيقة أفضل من الخيار الذي اتخذناه، أو نتخيَّل أن هناك بدائل أفضل لم نكتشفها بعد". يُولِّد هذا شعورا بعدم الرضا نحو ما اخترناه، حتى لو كان اختيارنا في الحقيقة جيدا.

كتاب مفارقة الاختيار -باري شوارتز.

قرارات خاطئة

هناك عامل آخر لا يمكن إغفاله أثناء اختيارك لمسارك الوظيفي، وهو "أنت"، ما الذي تُفضِّله وتقدر على فعله، وليس فقط ما يُقدِّمه السوق من وظائف تبدو واعدة في المستقبل. تقول توليير لـ "ميدان": "من المهم اختيار مجال وظيفي آخِذ في النمو أو من المتوقَّع أن يظل مستقرا -إذا كان النمو الوظيفي والاستقرار وزيادة العائد المادي أولوية للفرد-، لكنها ليست دائما فكرة جيدة أن تختار وظيفة ما لمجرد توقُّع ازدهارها".

يقع الآباء في هذا الفخ أحيانا حينما يدفعون أطفالهم دفعا نحو تعلُّم مجال ما بسبب التوقُّعات أنه سيكون المجال المسيطر في المستقبل. تستكمل توليير: "لقد شاهدنا هذا في الاهتمام بالبرمجة، حيث كان متوقَّعا من كل فرد أن يتعلَّم البرمجة من سن صغيرة جدا. تُعَدُّ البرمجة مهارة قيمة جدا، ولكن قد لا يكون الجميع مناسبين للعمل مهندسي برمجيات".

ربما ننسى أحيانا أن الأطفال مختلفون، ولكلٍّ منهم قدراته وتفضيلاته الخاصة التي لا تتفق بالضرورة مع ما يرغب فيه آباؤهم، تقول توليير: "أرى ذلك مع الآباء الذين يتوقعون من أبنائهم أن يصبحوا علماء أو مهندسي حاسوب، في حين أن ذلك ليس الاختيار المناسب لأبنائهم".

أحيانا ما يدفع الآباء أبناءهم تجاه تعلُّم تخصص ما لمجرد أن له مستقبلا واعدا، دون أخذ رغبة الطفل وقدرته في الاعتبار.

لا يقتصر الأمر على الآباء، فأحيانا ما يكون مصدر هذه الضغوطات هو الشخص نفسه، كما تشرح توليير: "أحيانا ما يفرض الشباب هذه الضغوطات على أنفسهم. قد يسمعون أن الوظائف في مجال الاستدامة (بناء الأنظمة الحيوية) مثيرة، دون الأخذ في الاعتبار إن كان ذلك من اهتماماتهم، أو ربما يشاهدون آلاف الوظائف المُعلَنة للممرضين أو العاملين بالرعاية الصحية، ويفكرون أنه ربما عليهم سلوك هذا الاتجاه رغم أنهم يفقدون الوعي عند رؤية الدماء". هذه الحماسة نحو الجديد والمثير عادة ما تستقطب الشباب نحو خيارات غير ملائمة لقدراتهم، خاصة إن كانت هذه الوظائف تدرُّ دخلا ماديا عاليا.

أيضا يمتلك الشباب اليافع نظرة قاصرة نحو المستقبل، تقول توليير لـ "ميدان": "على سبيل المثال، كثيرا ما أعمل مع أشخاص يبلغون من العمر 20 أو 25 عاما ويشعرون أن المهنة التي سيختارونها الآن هي التي سيستمرون فيها بقية أعمارهم". هذا الشعور بأبدية الاختيار لا بد أن يُولِّد داخلك قلقا عنيفا، ماذا لو أسأت الاختيار؟ ماذا لو بزغت فرص عمل أفضل فيما بعد؟ وهذا يُعيدنا إلى الشلل التحليلي الذي سيعوق اتخاذك أي قرار حقيقي. تُكمل توليير: "بعد تدريبهم حول إمكانية تغيير المهن أو البدء في التجارة عدة مرات خلال فترة حياتهم، فإنهم يرتاحون أكثر".

كل ما ينطبق على اختيار وظيفة جديدة ينطبق أيضا على تغيير المسار الوظيفي فيما بعد. لا عجب أن تشعر بعد عدة سنوات في وظيفتك أن هذا المكان لا يلائمك، وأنك لا تحتاج فقط إلى البحث عن مكان آخر للعمل، بل والبحث عن وظيفة جديدة من الأساس، ربما الوظيفة التي كنت تحلم بها وأنت طفل ولم تتحقَّق لسبب ما.

في هذه المرحلة من حياتك، لا تتوقف مشكلات تغيير مسارك الوظيفي عند وفرة الخيارات فحسب، بل تمتد إلى قلقك تجاه أمانك المادي. ماذا لو لم تنجح في مسارك الجديد؟ ماذا لو أنفقت مدخراتك على مشروع سيفشل لاحقا؟ ويزداد هذا القلق في وجود أسرة تعتمد عليك بالطبع.

في ختام لقائها مع "ميدان"، تعطي توليير نصيحة للشباب المقبلين على اختيار مساراتهم المهنية: "ليس من الحكمة اختيار وظيفة راكدة أو من المحتمل أن تندثر قريبا، ولكن ليس من الحكمة أيضا اختيار وظيفة لمجرد أنها في قائمة (المهن الواعدة)".

لتقليص الخيارات المتاحة أمامك إلى عدد معقول تستطيع الاختيار منه حقا، ربما يجب أن تبدأ عملية البحث بالعكس، تقول توليير: "بدلا من ذلك، على الشباب أن يعرفوا نقاط قوتهم واهتماماتهم، وما نوع المهام التي تُحفِّزهم، وما شكل بيئة العمل التي يستطيعون التكيُّف فيها، ثم اختيار المهنة الأكثر لمعانا التي تنطبق عليها هذه الشروط".

_________________________________________

المصادر:

1- Dr. Michelle Tullier, PhD, CCC, CPRW, Atlanta, GA, 30324 | Psychology Today

2- كتاب مفارقة الاختيار – باري شوارتز The Paradox of choice – Barry Schwartz

المصدر : الجزيرة