شعار قسم ميدان

لأن الأضواء الليلية الساطعة تؤثر في صحتك أكثر مما تظن!

في أثناء زلزال هزَّ لوس أنجلوس في تسعينيات القرن الماضي، انقطع التيار الكهربائي لبعض الوقت، وبعد أن ساد الظلام المدينة، انهالت مكالمات المواطنين يستنجدون بالطوارئ، إذ كان ما أفزعهم هو ظهور شريط فضي ضخم شعروا أنه مزَّق السماء فوقهم، الأمر الذي أصابهم الرعب. ولكن في الواقع، فإنّ ما رآه الناس ساعتها هو مشهد السماء على حقيقته، ففي غياب الأضواء الليلية، تمكَّنوا من رؤية الضوء الخافت الصادر عن مجرة درب التبانة. (1)

السماء التي لا نعرفها

نعم، يتغير مشهد السماء بمرور الزمن. لم نَعُد نرى اليوم تلك الإضاءة الطبيعية الليلية للأقمار والنجوم التي عرفها أجدادنا، وفي المقابل، اعتدنا تلك الأضواء الصناعية الباهرة التي تكاد تماثل ضوء النهار، فوفق ما تكشفه صور الأقمار الصناعية فإن الأرض تزداد سطوعا في الليل بنسبة 2% كل عام أكثر من الذي قبله. (2)

لطالما كان للضوء مكانة بارزة في مسيرة الحضارات. منذ اكتشاف النار ظلَّ النور مرادفا للحضارة، الظلام يعني الجهل والضوء يعني الرفاهية والحقيقة والمعرفة، وظلَّ نقص الإمداد بالضوء والكهرباء مقترنا بالبُعد عن التحضُّر، لكن هذا السطوع في المقابل يحرمنا من رؤية صورة السماء ليلا كما عرفها أجدادنا.

في مقال نشرته مجلة "ساينس أدفانس" (Science Advances) بعنوان "أطلس العالم للسطوع الاصطناعي لسماء الليل"، رصد الباحثون من خلال بيانات الأقمار الصناعية الجديدة عالية الدقة قياسات دقيقة لسطوع الضوء في سماء كوكبنا وانتشار التلوث الضوئي فيها، وحذَّر المقال من أن أكثر من 80% من سكان العالم عموما، وأكثر من 99% من الأميركيين وسكان أوروبا خاصة، يعيشون تحت سماء مُلوَّثة بالضوء، ومن أن أكثر من ثلث البشر لا يمكنهم رؤية مجرة درب التبانة في السماء، من بينهم 60% من الأوروبيين ونحو 80% من سكان أميركا الشمالية. (3)

لكن الآثار السلبية للتلوث الضوئي لا تقتصر على حرماننا من تأمُّل سماء الليل الصافية، وإعاقة جهود علماء الفلك لرصد السماء، لكن تلك الآثار تمتد إلى صحتنا، إذ يتسبَّب التعرُّض للضوء ليلا في تغيرات جوهرية في الساعة البيولوجية مع ما يصحب ذلك من أمراض، ويؤثر في توازن بيئتنا بشكل يعوق تطور العديد من المخلوقات والأنواع ويُهدِّد بقاءها على قيد الحياة.

تأثير كبير في صحتنا

كشفت الدراسة عن وجود علاقة بين العمل ليلا والتعرُّض للضوء الأزرق وما يصحبه من اضطراب في الساعة البيولوجية.

يبقى التأثير الأكثر وضوحا ومباشرة للتلوث الضوئي على صحتنا هو زيادة معدلات الأرق والتوتر، وكما أوضح المعهد الوطني للعلوم الطبية العامة في الولايات المتحدة، يتسبَّب الضوء في إصابتنا بأمراض العيون والأرق والاكتئاب أحيانا. ولا تزال الدراسات تكشف عن عواقب أخرى، كتلك التي كشفت عنها دراسة أجراها الاتحاد الإسباني للبحوث الطبية الحيوية في علم الأوبئة والصحة العامة لبحث العوامل المُسبِّبة لأنواع السرطان الشائعة والعمل على الوقاية منها، حيث درس فريق من الباحثين العلاقة بين التعرُّض للضوء الصناعي ليلا وخطر الإصابة بسرطان الثدي وسرطان البروستاتا.

كشفت الدراسة عن وجود علاقة بين العمل ليلا والتعرُّض للضوء الأزرق وما يصحبه من اضطراب في الساعة البيولوجية، إذ يقلل الضوء الصناعي من إفراز الميلاتونين، وهو الهرمون الذي يفرزه الجسم ليلا ليساعد في الاسترخاء والنوم وينظم أنشطة الجسم اليومية، وهو ما يزيد خطر الإصابة بأنواع أمراض السرطان المرتبطة بالهرمونات (سرطان الثدي وسرطان البروستاتا)، ولاحظت الدراسة خصوصا أن الرجال الذين ينامون في غرف نوم مضاءة كانوا أكثر عُرضة للإصابة بسرطان البروستاتا من غيرهم. وقد فسَّر الباحثون ذلك بأن الهرمون الليلي يؤثر في جهاز المناعة، ويؤدي إلى شيخوخة الخلايا، ويتسبَّب في الإصابة بالأمراض مثل السكري والسمنة، وحتى بعض السرطانات. (4)-(5)

حشرات منهكة وسلاحف تضل طريقها

حسنا، لا يقف الأمر عند البشر، فالضوء الذي يخترق سكون الليل يزعج الحيوانات والطيور أيضا، ويتسبَّب في فقر التنوع البيولوجي، إذ إنه يُشوِّش أنظمة التوجيه الليلي للعديد من الحيوانات، ويُعرِّضها لهجوم الحيوانات المفترسة.

تمتد آثار الضوء الصناعي إلى مئات الكيلومترات، ويكون الضوء الأبيض المزرق هو الأكثر تأثيرا، إذ يمتد لمسافات أكبر مخترقا ظلام البحار ليؤثر سلبا على قدرة الأنواع القريبة من السطح على الحصول على غذائها، ويتسبَّب بالتبعية في التقليل من تنوع البرمائيات والأنواع البحرية بما فيها الشعاب المرجانية، ما قد يؤدي إلى انقراضها. (6)

في ألمانيا تحديدا، يموت ما يُقدَّر بنحو 100 مليار حشرة كل صيف بسبب انجذابها إلى الضوء الصناعي. تعتمد الحشرات على ضوء النجوم والقمر في تحديد وجهتها، لكنها في وجود الضوء الاصطناعي تطير حول أعمدة الإنارة والأضواء الليلية باستمرار خلال الليل، تصطدم بها أحيانا فتتسبَّب لبعضها في حروق كبيرة، وعند قدوم النهار تكون مُنهكة بحيث لا يمكنها أداء وظائفها مثل تلقيح النبات، كما أنها تكون صيدا سهلا لمفترساتها. (7)

كما لوحظ أن التلوث الضوئي يؤثر تأثيرا مباشرا على الأنواع الأخرى، مثل الطيور التي يمكن أن تصطدم بالمباني عندما تنبهر بالضوء، والسلاحف البحرية التي تواجه المزيد من الصعوبات في العثور على الشواطئ المظلمة لوضع بيضها عليها.

ولسوء الحظ، فإن مشكلات السلاحف تحديدا لا تتوقف هنا. المفترض أن تتجه السلاحف الصغيرة جدا بعد خروجها من البيض مباشرة نحو البحر، وهي تسترشد بضوء القمر والنجوم لتعرف وجهتها، فتتجه بالفطرة نحو أكثر الأماكن إضاءة وهو البحر، لكن إضاءة الشواطئ دائما تتسبَّب في زحف السلاحف إلى الشاطئ المتوهج بأضواء ليلية ساحرة فتضل طريقها في الشوارع، وهو ما يتسبَّب في موت أعداد كبيرة منها. (8)

لا تقف الأمور عند هذا الحد، حيث يظهر واحد من أكثر التأثيرات السلبية للضوء الصناعي في عمليات التلقيح في النباتات. تعتمد أكثر من 75% من المحاصيل الغذائية في العالم على التلقيح، وفق منظمة الأغذية والزراعة، وتُشير دراسة نشرتها مجلة "نيتشر" (Nature) إلى أن الضوء الاصطناعي في الليل يعطِّل عمليات التلقيح الليلية ويؤثر سلبيا في نجاح تكاثر النباتات بنسبة 62% في المناطق المضاءة صناعيا مقارنة بالمناطق المظلمة، ما أدى إلى انخفاض إجمالي بنسبة 13% في إنتاج الفاكهة. (9)

تتأثر الأشجار أيضا بالضوء في الليل، فتنمو أوراقها في وقت مبكر عندما تكون بالقرب من أضواء الشوارع، وتكون النباتات التي تنمو بالقرب من مصابيح الشوارع أقل تلقيحا بشكل ملحوظ، وتؤتي ثمارا أقل من نظيراتها التي لا تتعرَّض للضوء الصناعي.

أموال تهدر في السماء

علميا، يُعرَّف التلوث الضوئي بأنه إدخال الضوء الاصطناعي في بيئة مظلمة بطبيعتها دون داعٍ، فتكون الإضاءة قوية جدا في مكان حركة المرور فيه قليلة أو في وقت لا يمر فيه أحد، تُشير منظمة "دارك سكاي" (Dark-sky International) غير الحكومية إلى أن نحو ثلث الإضاءات الخارجية في الولايات المتحدة تظل مضاءة طوال الليل دون حاجة حقيقية، وهو ما يُكلِّف الدولة 3 مليارات دولار سنويا، إلى جانب ما يُسبِّبه من تلوث الهواء وتغير المناخ. (10)

في السياق ذاته، يتتبع التقرير، الذي نشره مكتب جودة السماء التابع للمعهد الأندلسي للفيزياء الفلكية، نتائج تحليل الوضع الضوئي بين عامَيْ 1992-2017، فيُشير إلى أنه خلال الـ 25 عاما تلك يبدو التأثير السلبي واضحا جدا؛ زاد التلوث الضوئي في تلك الفترة بنسبة 49% على الأقل، ويُتوقَّع أن يواصل ارتفاعه ليبلغ 270% وحتى 400% في بعض المناطق، مع ملاحظة أن أجهزة استشعار الأقمار الصناعية لا تتعرَّف على الضوء الأزرق، ما يعني أن نسبة التلوث قد تكون أعلى من ذلك بكثير.

يُشير التقرير أيضا إلى وجود تدهور واضح كشفته الصور المأخوذة من محطة الفضاء الدولية، ارتبط بظهور وانتشار مصابيح "LED". في دراسة أجراها المركز الألماني لأبحاث علوم الأرض في بوستدام ونشرته مجلة "ساينس أدفانس" (Science Advances)، حلَّل العلماء بيانات التقطها القمر الصناعي على مدار خمس سنوات في محاولة لاكتشاف تأثير التحول من المصابيح الصفراء التقليدية إلى أضواء "LED" في المدن والبلدات، ليتبيَّن أن هذا التحوُّل لم يؤدِّ إلى توفير في إجمالي استهلاك الطاقة، لكن ما حدث هو العكس تماما. (11)-(12)

في سياق مُشابه، يؤكد أليخاندرو سانشيز، مدير مشروع "مدن في الليل" الذي يقوده فريق من علماء الفلك من جامعة كومبلوتنسي بمدريد ومركز "Cégep" في كندا، أن الهالة التي شوهدت من الفضاء فوق مدن مختلفة، وكان يُعتقد لبعض الوقت أنها ناتجة عن أعطال بصريات الأقمار الصناعية، ليست سوى الضوء المتناثر من أضواء الشوارع والمباني. وجد الفريق أيضا أن البلدان والمدن التي لديها أكبر قدر من الدَّيْن العام هي تلك التي تستهلك أكبر قدر من الطاقة في الإضاءة لكل فرد، ومن المفارقات أن التكلفة الإجمالية لاستهلاك الكهرباء لإنارة الشوارع الأوروبية وصلت إلى 6.3 مليارات يورو سنويا. (13)

كيف نتجنَّب مزيدا من التلوث الضوئي؟

حسنا، دعونا نؤكد أننا لا ندعو هنا للعودة إلى الظلام، وكل ما نأمل فيه أن تتضرر السماء فقط بأقل قدر ممكن من الضوء الصناعي. يمكننا فعل ذلك بتجنُّب المبالغة في استخدام الأضواء مع استخدام الضوء الدافئ (درجة حرارة اللون تساوي أو تقل عن 2200 كلفن) وإيقاف تشغيل الإضاءة عند عدم الحاجة إليها، فضلا عن التوقُّف عن استخدام أضواء الاحتفالات والزينة والإعلانات. (14)

يُفضَّل كذلك ألا توجِّه مصابيح الشوارع الضوء لأعلى بل باتجاه الأرض، ويمكن تنظيم الجداول بحيث يتم إيقاف تشغيل الأضواء في المناطق ذات حركة المرور الأقل. كما يمكن استخدام أجهزة الاستشعار التي تكتشف مرور شخص أو سيارة مثلا بحيث تعمل الأنوار تلقائيا ثم تنطفئ.

لا يزال المهتمون يرصدون أكثر الأماكن ظلمة حول العالم التي يمكن فيها مراقبة السماء الليلية على طبيعتها دون تلوث ضوئي، وقد تأسس البرنامج الدولي لأماكن السماء المظلمة (IDSP) عام 2001 لتشجيع المجتمعات والمتنزهات والمناطق المحمية في أنحاء العالم للحفاظ على المواقع المظلمة وحمايتها، وهي أماكن يقع أغلبها في الولايات المتحدة، لكنها على ما يبدو ورغم الجهود المبذولة لحمايتها لن تظل في الظلام طويلا.

هذه الأماكن النادرة مُهدَّدة اليوم بسبب سعي الشركات لتوفير الإنترنت في الأماكن النائية، إذ تُطلق شركات الأقمار الصناعية أقمارا صغيرة في مدارات قريبة من الأرض لتوصيل الإنترنت، وهو المشروع الذي بدأته شركة "سبيس إكس" عام 2020 بإطلاق 240 قمرا صناعيا صغيرا في الفضاء جزءا من مشروع ستارلينك. هناك اليوم مئات الأقمار الصناعية، ويتصاعد العدد بدخول شركات منافسة مثل "وان ويب" (OneWeb)، وهو ما يُهدِّد عمل علماء الفلك في رصد السماء.

تعمل شركة "سبيس إكس" مع مجتمع علم الفلك لتكون أقمارها الصناعية أقل سطوعا، لكنها ستظل مرئية بالعين المجردة.

في إبريل/نيسان الماضي، قدَّم الاتحاد الفلكي الدولي نسخة موجزة من تقرير عن تأثير هذه الأقمار الصناعية إلى لجنة تابعة للأمم المتحدة لاستخدام الفضاء الخارجي في الأغراض السلمية، تضمَّن التقرير بعض التوصيات للتخفيف من تهديدات فقدان سماء الليل الخالية من التلوث الضوئي. لكن هذه الأقمار الصناعية قريبة جدا، وغالبا ما تكون مرئية بالعين المجردة، وهي تُهدِّد الصور التي تلتقطها التلسكوبات المستخدمة في علم الفلك، ما يُهدِّد بعض المشاريع العلمية فضلا عن تأثيره على الهواة الذين يرغبون في التقاط صور للسماء ليلا.

تعمل شركة "سبيس إكس" مع مجتمع علم الفلك لتكون أقمارها الصناعية أقل سطوعا، لكنها ستظل مرئية بالعين المجردة وستظل في مجال رؤية المراصد والتصوير الفلكي، وستبقى المشكلة الأكبر أن الأمر خاضع لتجاوب الشركات، في ظل عدم وجود لوائح دولية تُنظِّم كيفية ظهور الأقمار الصناعية لنا على الأرض، وهو ما يُهدِّد بفقدان العلاقة العلمية والثقافية للإنسانية بسماء الليل. (15)

_____________________________________________________

المصادر:

  1. La contaminación lumínica podría haber aumentado un 400% en 25 años en algunas regiones
  2. Contaminación lumínica: el lado oscuro de la luz
  3. The new world atlas of artificial night sky brightness
  4. Evaluating the Association between Artificial Light-at-Night Exposure and Breast and Prostate Cancer Risk in Spain (MCC-Spain Study)
  5. Ritmos circadianos
  6. La contaminación lumínica, la gran desconocida
  7. Contaminación lumínica: el lado oscuro de la luz
  8. La contaminación lumínica podría haber aumentado un 400% en 25 años en algunas regiones
  9. Artificial light at night as a new threat to pollination
  10. Contaminación lumínica: el lado oscuro de la luz
  11. La contaminación lumínica podría haber aumentado un 400% en 25 años en algunas regiones
  12. Artificially lit surface of Earth at night increasing in radiance and extent
  13. Un ‘Google maps’ de la contaminación lumínica
  14. La contaminación lumínica, la gran desconocida
  15. Astronomers are very frustrated with Elon Musk’s satellites 
المصدر : الجزيرة