شعار قسم ميدان

هنرييتا لاكس.. حكاية الأم الفقيرة التي أنقذت 25 مليون طفل حول العالم

قلائل هم مَن نجحوا في تغيير العالم وتركوا بصمة لا تُمحى في تاريخ البشرية، منهم من كان التغيير هدف حياته ومسعاه الأسمى، ومنهم من حالفه الحظ. لكن أشخاصا يعدون -بالكاد- على الأصابع هم من استطاعوا أن يصنعوا تأثيرا ملموسا في حياة كل شعوب العالم دون حتى أن يدروا، وربما لم ينسب الفضل إليهم في ذلك إلا بعد سنوات طويلة. تُعد حكايتنا اليوم حول إحدى تلك النوادر، حيث إن سيدة فقيرة ومغمورة أصبحت سببا في إنقاذ ملايين الأطفال حول العالم إلى اليوم.

 

خلايا لا مثيل لها

كانت البداية في مستشفى "جون هوبكنز" في بالتيمور عام 1951، المشفى الوحيد الذي قبل علاج الأميركيين الأفارقة في المنطقة في ذلك الوقت. وبعد ولادة طفلها الخامس، اكتشف الأطباء وجود ورم داخل عنق الرحم لدى السيدة "هنرييتا لاكس (Henrietta Lacks)"، مزارعة التبغ الأميركية فقيرة الحال صاحبة البشرة السمراء، لكنها لم تعلم قطّ أن الورم الذي أودى بحياتها في 4 أكتوبر/تشرين الأول من العام نفسه، وكانت ما تزال في الـ31 من العمر، سيكون البداية للعديد من الاكتشافات العلمية التي غيرت وجه العالم وحصدت جوائز نوبل، حتى إنها وُصفت بـ"أم الطب الحديث" في اللوحة الزيتية التي صوّرها فيها الفنان "قدير نيلسون (Kadir Nelson)" عام 2017 وقدّمها هدية لمتحف سميثسونيان الوطني للتاريخ والثقافة الأميركية الأفريقية بواشنطن العاصمة. فما هو المميز بشأن خلايا هنرييتا السرطانية الخبيثة؟

هنرييتا لاكس - للفنان نيلسون قادر - فنان أمريكي - مواليد 1974
هنرييتا لاكس – للفنان قدير نيلسون – فنان أمريكي – مواليد 1974

 

بعد أن أزال الطبيب هوارد جونز، الطبيب المعالج لهنرييتا آنذاك، جزءا من الورم الكامن في عنق رحمها دون علمها، وأرسل العينة إلى المختبر لتحليلها، لاحظ البروفيسور الأميركي، الألماني الأصل، جورج أوتو جاي، والذي كان يرأس مختبر زراعة الأنسجة بجامعة جونز هوبكنز في ذلك الوقت؛ أن هذه الخلايا لا تتصرف كالخلايا العادية، فهي تمتلك القدرة على التكاثر خارج الجسد مرارا وتكرارا، وهو الأمر الذي لم يحدث من قبل في تاريخ زراعة الأنسجة. قبل اكتشاف هذه الخلايا الفريدة، كان العلماء يصارعون من أجل استنبات الخلايا البشرية وإبقائها حية لفترة كافية لإجراء تجاربهم عليها، وكانوا يفشلون رغم كل شيء، ولكن مع خلايا هيلا (HeLa) كما أطلق عليها، اختصارا لاسم صاحبتها، صار المستحيل ممكنا.

صورة البروفيسور جورج أوتو جاي - المحفوظات الطبية آلان ماسون تشيسني من معهد جونز هوبكنز الطبي
صورة البروفيسور جورج أوتو جاي – المحفوظات الطبية آلان ماسون تشيسني من معهد جونز هوبكنز الطبي

 

بدافع من الشغف بالعلم، سارع البروفيسور "جاي" إلى إرسال عينات من هذه الخلايا لمختلف المختبرات حول العالم، حتى تعم الفائدة من استخدامها في الأبحاث الطبية وتطوير الأدوية واللقاحات، ولم يتكسّب ماديا من وراء هذا الأمر، وإنما كان يرسل العينات على حسابه الشخصي أحيانا؛ لأن التكسب من وراء الاكتشافات الطبية في ذلك الوقت كان يعتبر عملا غير أخلاقي يرفضه المجتمع العلمي، لكنه غفل عن إبلاغ المريضة صاحبة الخلايا الأصلية بنواياه أو حتى باكتشافه المثير، وتوفيت وهي لا تعلم أن اسمها سيظل خالدا إلى الأبد، وأن خلاياها سيتم استغلالها من أجل العلم أحيانا ومن أجل التربح بملايين الدولارات في أحيان أخرى، بينما تعيش عائلتها في فقر مدقع وبلا تأمين صحي في أحيان كثيرة(1).

 

سر الخلود

الحمض النووي
الحمض النووي

لفهم السر وراء خلود خلايا هيلا (HeLa)، دعنا أولا نتعلم عن الحمض النووي، والذي يتكوّن من آلاف الوحدات التى تسمى الجينات، وهي -ببساطة- الوصفة التى تعتمد عليها خلاياك لإنتاج البروتين الذي يبني أجزاء جسدك ويحدد لون عينيك وطولك وحتى مستوى ذكائك. هذا الحمض النووي طويل جدا، ولذلك فهو يلتف حول نفسه في صورة كروموسومات، يمتلك كل كروموسوم نهايات تسمى التيلوميرات (Telomeres)، وهي مجموعة من الجينات التي لا تنتج أي بروتينات، ولكنها تعمل غطاءً واقيا يحمي الكروموسوم من التآكل مع كل عملية انقسام.

 

يُضحَّى بالتيلوميرات لصالح بقاء الكروموسوم، ولكن بعد مرور 50-70 عملية انقسام، تتآكل التيلوميرات حتى تصبح عاجزة عن حماية الكروموسوم من الانهيار، في تلك اللحظة يتم تفعيل بروتوكول وفاة الخلية، حيث تشيخ الخلايا وتموت في النهاية، كطبيعة كل الكائنات الحية على الأرض.

صورة التيلوميرز في نهايات الكروموسوم باللون الزهري
صورة التيلوميرز في نهايات الكروموسوم باللون الزهري – المصدر

 

غير أن هذه العملية الطبيعية لا تحدث في الخلايا السرطانية، مثل خلايا هيلا، ففي هذه الحالة "غير الطبيعية" يتم تفعيل نظام حماية التيلوميرات، حيث يعمل إنزيم خاص يسمى "تيلوميريز" (Telomerase) على ترميم التيلوميرات بعد كل عملية انقسام؛ ما يجعل الكروموسومات محمية طوال الوقت ومقاومة للتآكل والزمن، وهذا ما يمكّن الخلايا السرطانية من التكاثر بتوحّش دون أن تموت كما هو مفترض، ولكن تظل هذه العملية غير مفسَّرة بشكل كامل بعد.

 

رغم أن هذا النظام يعمل بكفاءة في الأورام الخبيثة داخل الجسد، فإن هذه الخلايا السرطانية لا تستطيع الاستمرار في التكاثر خارج الجسد في أنابيب الاختبار لفترة طويلة، على عكس خلايا هيلا التى كانت تملأ أطباق بيتري (أطباق الاختبار المعملية) حتى لا تستطيع احتواءها(2).

 

عالم بدون هنرييتا

دعونا نتخيل للحظةٍ عالَماً لم تُولَد فيه هنرييتا لاكس، أو عالما لم تصب فيه بسرطان عنق الرحم، أو -ببساطة- عالما لم يهتم فيه أحد بأخذ عينة من الورم لفحصها، مجرد ورم عادي سنقوم بإزالته وإرساله للمحرقة. كان من المتوقع أن يصاب ما يقرب من 17 مليون طفل حول العالم بشلل الأطفال لو لم تُستخدَم خلايا هيلا لتطوير لقاح "سُلك" الشهير الذي أسهم في القضاء على المرض حول العالم بنسبة 99%. بالمثل، أسهمت خلايا هنرييتا في جهود القضاء على المرض نفسه الذي أودى بحياتها، فبعد اكتشاف العلاقة بين فيروس الورم الحليمي البشري (HPV) وسرطان عنق الرحم، طُوِّر لقاح فعال ضد الفيروس باستخدام خلايا هيلا، ويبدو أن العالم في طريقه للقضاء على سرطان عنق الرحم بحلول نهاية القرن الحالي(3).

لقاح سُلك لشلل الأطفال - يتم حقنه في الذراع
لقاح سُلك لشلل الأطفال – يتم حقنه في الذراع

 

لم تتوقف هنرييتا عن بذل العطاء لهذا العالم، الذي لم يعاملها بالمثل، حين أسهمت خلاياها في إنجاز علمي خارق آخَر. عام 1978، في مانشستر بإنجلترا، أنجبت "ليزلي براون" طفلة جميلة أسمتها "لويز جوي براون (Louise Joy Brown)"، وهي أول طفلة تُنجَب عن طريق الإخصاب خارج الجسم (IVF) المعروف باسم "أطفال الأنابيب". لويز كانت الطفلة الأولى ضمن 8 ملايين طفل أُنجبوا بالطريقة نفسها حتى يومنا هذا، بمن فيهم أختها الصغرى "ناتالي". كان العالم سيفتقد كل هذا العدد من الأطفال لولا خلايا هيلا التي أسهمت بشكل مباشر في تطوير عملية الإخصاب خارج الجسم، والتي تطورت كثيرا منذ ذلك الوقت(4).

 

هذا ولم نتحدث بعدُ عن دور خلايا هذه المرأة في عدد من الكشوف العلمية المهمة، وفي مقدمتها اكتشاف أن عدد الكروموسومات داخل الخلية 23 زوجا، واكتشاف الخريطة الكاملة للجينوم البشري، ودراسة تأثير الأشعة السينية على الخلايا البشرية، وتطوير مناهج بحث مرض السرطان، وفهم آلية حدوث العدوى لبعض الميكروبات مثل (السل، الإيدز، السالمونيلا، الإيبولا، وأخيرا كوفيد-19)، ناهيك بالعديد من الاكتشافات الحائزة على جوائز نوبل في الطب والفسيولوجيا والكيمياء أعوام (2008 و2009 و2014).

 

معارك أخلاقية وتكريم طال انتظاره

هنرييتا لاكس
هنرييتا لاكس

حاول البروفيسور "جاي" حماية عائلة هنرييتا من الصحافيين الفضوليين، في البداية لم يذكر اسمها الكامل بوصفها صاحبة لعينة الخلايا المميزة، لكن ربما لم يكن هذا في مصلحة العائلة كليا. لم يكتشف أي من أبناء هنرييتا أن خلايا والدتهم تجوب العالم منذ وفاتها، ولا أنها استُخدمت في 17000 براءة اختراع حتى عام 2020، حتى تواصل معهم فريق من الباحثين من جون هوبكنز عام 1973 لأخذ بعض عينات الدم منهم؛ لدراستها والوصول إلى فهم أفضل لخلايا هيلا. كان اكتشاف الحقيقة أمرا مفاجئا ومثيرا للمشاعر في الوقت نفسه، لقد خُدِعوا على مدار أكثر من عشرين عاما، كان إخبارهم بالأمر باكرا سيغير حياتهم بشكل لا يمكن تصوّره.

 

أثارت قضية هنرييتا وخلاياها الخالدة الكثير من الجدل في الأوساط العلمية، والكثير من التحفظات الأخلاقية بشأن خلاياها التي استُغلت حول العالم على مدار سبعة عقود، دون علمها أو موافقتها، ودون أن يعود أي مردود مادي على عائلتها التي عانت كثيرا منذ وفاتها. أثار هذا أكثر حفيظة المجتمع الأميركي-الأفريقي في الولايات المتحدة، والذي اعتُبر جزءا لا يتجزأ من العنصرية ضد السود، وانتهاكا لحقوق الأميركيين الأفارقة. لم تقف الأمور عند هذا الحد، ففي عام 2013، قام مختبر البيولوجيا الجزيئية الأوروبي، بهايدلبرغ ألمانيا، بنشر الخريطة الجينية الخاصة بخلايا هيلا، دون أخذ موافقة أي من أفراد أسرتها، ما قد يكشف معلومات جينية خاصة للغاية بشأن أسرتها وأحفادها(5).

 

وبعد اعتراضات واسعة، أُزيلت الخريطة الجينية الخاصة بخلايا هيلا لاحقا، وأُصدرت "اتفاقية استخدام بيانات جينوم هيلا"، كما انضم اثنان من أفراد أسرتها إلى المجموعة المسؤولة عن منح الإذن باستخدام تسلسل جينوم خلايا هيلا في المعاهد الوطنية الأميركية للصحة. أصبحت قضية هنرييتا لاكس نقطة التحول في مجال أخلاقيات العلوم الحيوية، الآن تمتلك معظم الدول اتفاقيات خاصة حول الموافقة المستنيرة للمرضى لحماية حقوقهم وخصوصيتهم. وكمحاولة للتكفير عن ما اقترفته، قامت جامعة جون هوبكنز بإطلاق اسم هنرييتا لاكس على أحد مباني الجامعة الملاصقة لمعهد بيرمان لأخلاقيات البيولوجيا، وسيظل هذا المبنى شاهدا على ما قدمته هذه السيدة للبشرية إلى الأبد(6).

صورة: لقاء د. فرانسيس كولينز بعائلة هنرييتا لاكس إبان إلقائه لمحاضرة لتكريم ذكراها بجامعة جون هوبكنز
صورة: لقاء د. فرانسيس كولينز بعائلة هنرييتا لاكس إبان إلقائه لمحاضرة لتكريم ذكراها بجامعة جون هوبكنز – المصدر

 

في عام 2010، نشرت الصحفية العلمية والكاتبة "ريبيكا سكلوت (Rebecca Skloot)" كتابا بعنوان "الحياة الخالدة لهنرييتا لاكس (The immortal life of Henrietta Lacks)" يحكي هذه القصة الفريدة بالتعاون مع ديبرا لاكس، الابنة الصغرى لهنرييتا، والتي توفيت عام 2009. استغرق الأمر من سكلوت عاما كاملا فقط لتكسب ثقة ديبرا وتنال موافقتها على نشر قصة والدتها ثم صراع عائلتها بعد وفاتها وتتبع الأثر الذي تركته خلاياها الخالدة في حياتهم. حُوِّل الكتاب إلى فيلم من إنتاج "HBO" عام 2017 يحمل الاسم ذاته، تقوم ببطولته "أوبرا وينفري (Oprah Winfrey)" في دور ديبرا لاكس، بينما تقوم الممثلة الأميركية "روز بيرن (Rose Byrne)" بدور الصحفية ريبيكا سكلوت.

 

خلايا خالدة في مواجهة جائحة شرسة

رغم أنه لم يتم استخدام سلالة خلايا هيلا في تصنيع أي من لقاحات كوفيد-19، فإن هذا لا يعني أن هذه الخلايا لم تقدم خدمة جديدة للبشرية في هذا الصدد، فكما استُخدِمت خلايا هيلا لدراسة آلية العدوى لبعض أشهر الميكروبات التي عصفت بالبشر، مثل فيروس الإيدز والإيبولا وبكتيريا السل والسالمونيلا، أسهمت الخلايا أيضا في دراسة فيروس "سارس-كوف2 (SARS-Cov2)" المسبّب لمرض كوفيد-19. بدراسة تأثير الفيروس على خلايا هيلا، وجد الباحثون في الدراسة المنشورة في دورية "نيتشر (Nature)" أنه عاجز عن إصابة الخلايا بالعدوى، ما دفعهم للبحث عن البروتين المسؤول عن إدخال الفيروس إلى الخلية، بالاستعانة بمعرفتهم السابقة بخصائص فيروس سارس-كوف (SARS-Cov) المسبب لمرض سارس والمكتشَف عام 2003(7).

 

قام الباحثون في الدراسة بالتلاعب ببضع خلايا هيلا لتقوم بتصنيع مستقبِل يسمى "ACE2" وتعرضه على سطحها. تفتقر خلايا هيلا العادية لهذا المستقبِل، ما يحميها من الإصابة بالفيروس، إلا أن الفيروس نجح في اختراق الخلايا المعدّلة مستخدما هذا المستقبِل الجديد، ومن ثَم تمكن من إصابتها بالعدوى، واستغلال عضياتها لأجل التكاثر، وهذا بالضبط ما يفعله الفيروس في خلايا البشر التي تحتوي بالفعل على مستقبِل "ACE2". يُعدّ فهم آلية العدوى هو الخطوة الأولى دائما في رحلة البحث عن علاج أو لقاح لأي ميكروب يواجهه البشر، لذا يمكننا القول إن هنرييتا لاكس لم تتوقف عن خدمة الإنسانية طوال السبعين عاما الماضية، ولا يبدو أنها ستتوقف عن ذلك في أي وقت قريب(8).

 

بعد اكتشاف خلايا هيلا، تتابع اكتشاف العديد من سلالات الخلايا الخالدة الأخرى (Immortalized Cell lines)، أو التلاعب في جينات بعض الخلايا لجعلها خالدة في بعض الأحيان، والهدف منها أن يتم زراعتها خارج الجسم، لتتكاثر باستمرار لعدة أجيال، حتى يتمكن العلماء من إجراء تجاربهم عليها وإجراء المقارنات بين التجارب المختلفة.

 

من بين أشهر تلك الخلايا، هناك سلالة خلايا الكلى الجنينية البشرية (HEK-293T) المأخوذة من جنين بشري مجهض عام 1973، والتي استُخدمت بالفعل في تطوير بعض من لقاحات كوفيد-19، لأنها تمتلك خاصية مميزة للغاية عن بقية سلالات الخلايا، فهي تستطيع بسهولة نسبية أخذ أي حمض نووي وإنتاج البروتين من خلاله، ما يجعلها سلالة الخلايا الأفضل لتطوير اللقاحات، خاصة عندما يكون الوقت محدودا والعالم بحاجة ماسة للقاح بسرعة كما حدث خلال جائحة كورونا الحالية.

صورة مجهرية لخلايا الكلى الجنينية البشرية - المصدر
صورة مجهرية لخلايا الكلى الجنينية البشرية – المصدر

 

رغم أن خلايا هيلا ليست الخلايا الخالدة الوحيدة التي تُستخدَم في البحث العلمي، فإنها الأولى من حيث الاكتشاف، والأكثر شهرة واستخداما حتى الآن. بعد سبعة عقود من اكتشافها، فإن خلايا هيلا عاشت في المختبرات ضعف الوقت الذي أمضته داخل جسد هنرييتا. لو كان لنا أن نجمع كل خلايا هيلا التي تكاثرت حتى الآن، لَتحوّلت إلى خيط طويل يمتد إلى مسافة 120000 كيلومتر، أي إنه يستطيع أن يلف حول الكرة الأرضية 3 مرات. لكن بعد كل هذه الأعوام وملايين الانقسامات الخلوية والتغييرات في التركيب الجيني للخلية، يرى مجموعة من علماء البيولوجيا أن خلايا هيلا أصبحت جنسا جديدا قائما بذاته، ولم تعد خلايا بشرية بعد الآن.

صورة خلايا هيلا - المصدر
صورة خلايا هيلا – المصدر

 

نتيجة لذلك، يفترض بعض علماء البيولوجيا الثوريين أن الخلايا السرطانية عامة، وسلالة خلايا هيلا خاصة، ليست مجرد تحوّر لخلايا بشرية، ولكنها عملية "انتواع (Speciation)"، أي أنها نشوءا لكائن جديد فريد من نوعه. لو صحت هذه الفرضية، فقد يعني هذا أن سلالة خلايا هيلا الموجودة حاليا قد لا تعتبر بشريةً من الأساس، وقطعا لا تمت بصلة لخلايا هنرييتا الأصلية التي فُصِلت عن جسدها قبل سبعين عاما. قد يترتب على هذا سقوط حقوق أسرتها في ضمان سرية خريطتها الجينية، والتحكم في حقوق بيع واستخدام سلالة خلايا هيلا في البحث العلمي(10).

لافتة لتكريم ذكرى هنرييتا لاكس بمحل مولدها الأصلي - ولاية فرجينيا - الولايات المتحدة - المصدر
لافتة لتكريم ذكرى هنرييتا لاكس بمحل مولدها الأصلي – ولاية فرجينيا – الولايات المتحدة – المصدر

عاشت هنرييتا لاكس، مزارعة التبغ الفقيرة، حياة قصيرة، وربما ليست سعيدة تماما، لكنها أنجبت 5 أطفال ظلوا يذكرونها حتى وفاتهم، ونقلوا إرثها لأبنائهم وأحفادهم حتى تظل ذكراها، باعتبارها أُمّا وجدة، لا عيّنةً في أنبوب اختبار، حية في قلوب أسرتها الممتدة. ربما يكون من المحزن أن العالم لم يعرفها إلا من خلال الإنجازات الطبية والعلمية التي استغلت خلاياها، وأنه ما كان ليعرفها لو لم تصب بسرطان عنق الرحم الذي سلبها حياتها. ولكن ما قدمته خلاياها الفريدة إلى البشرية، وملايين الأرواح التي أسهمت في إنقاذها، والأطفال الذين منحتهم الفرصة ليكبروا ويحققوا أحلامهم بدلا من الموت أو العجز، ستظل أمورا حية في ذاكرة البشرية جمعاء، لتصبح ذكراها، كما خلاياها، خالدة إلى الأبد.

——————————————————————————-

المصادر

  1. The Tissue Culture Laboratory of Dr. George Otto Gey 60 yrs ago as recalled by a former student
  2. Telomerase: structure, functions, and activity regulation
  3. Impact of HPV vaccination and cervical screening on cervical cancer elimination
  4. World’s first "test tube" baby born – HISTORY
  5. Genetic privacy: We must learn from the story of Henrietta Lacks
  6. Johns Hopkins to name research building in honor of Henrietta Lacks
  7. A pneumonia outbreak associated with a new coronavirus of probable bat origin
  8. Cell entry mechanisms of SARS-CoV-2
  9. Dr. Angela Rasmussen on Twitter
  10. Henrietta Lacks (HeLa) cell genome: cell line identity and the personal privacy – On Biology
المصدر : الجزيرة