شعار قسم ميدان

البرُّ لا يبلى.. ملحمة شهداء العراق في فلسطين عام 1948

على الطريق الرئيسي شمال مدينة نابلس في الضفة الغربية المحتلة، الواقع بين التلال المنحدرة المغطاة ببساتين الزيتون، وقبل مدخل جنين الجنوبي مباشرة، يتفرع الطريق غربا باتجاه كنيسة أرثوذكسية يُعتقد أنها تعود إلى القرن الرابع الميلادي، وهي واحدة من أقدم كنائس العالم، عند تلك النقطة يمكنك أن تميز بسهولة ذلك العَلَم العراقي المرفرف فوق سارية قصيرة، وتحته مباشرة ورود نبتت على استحياء هُنا وهناك، وأعشاب تضخمت بين مقابر متواضعة، وأسماء كُتِبَت على المقابر لا يمكن التمييز بينها لمعرفة مَن مِن الشهداء المدفونين هُنا كان شيعيا، ومَن منهم كان سُنيا، فثمَّة كلمة واحدة لا غير على جميع المقابر: "شهيد عروبة فلسطين".

هنا مقبرة شهداء الجيش العراقي في فلسطين، التي تشهد على بسالة 44 جنديا وضابطا عراقيا ضحوا بحياتهم دفاعا عن فلسطين قبل أكثر من 70 عاما، ربما لا يذكر كثيرون تضحيات هؤلاء، لكنَّ الفلسطينيين لم ينسوها أبدا رغم مرور الأعوام والعقود، ولذلك تحديدا قصة شعبية طريفة يتناقلها الفلسطينيون إلى اليوم.

تقول الحكاية إن في عام 1967، بعدما شنَّت إسرائيل هجومها على سيناء والضفة الغربية وغزة في الوقت نفسه، واحتلتها جميعا في ستة أيام، سمع سكان مدينة "جنين" الفلسطينية عددا من الرجال يتحدثون باللكنة العراقية خارج منازلهم، فشعروا بسعادة غامرة، وظنوا أن جنود العراق الذين جاءوا عام 1948 للدفاع عنهم في وجه العصابات الصهيونية حينئذ قد عادوا من جديد، ولكن سرعان ما تبيَّن أن المتحدثين باللكنة العراقية على تخوم المدينة لم يكونوا سوى جنود في الجيش الإسرائيلي، وأنهم يهود من أصل عراقي لا أكثر.

بطولات العراقيين في فلسطين

للمفارقة لم يكن قد مرَّ على إنشاء الجيش العراقي سوى 27 عاما حين قرَّر خوض الحرب في فلسطين، لكنه أدَّى أداء استثنائيا، واحتل أفضل المواقع الإستراتيجية بين الجيوش العربية مع نهاية الحرب، حتى إن المدينة التي تُسمى الآن "تل أبيب" كانت في لحظة من اللحظات تحت مرمى نيران الجيش العراقي. وقد كانت الحركة الشعبية والطلابية في العراق واحدة من أقوى الحركات التي دفعت بالجيوش العربية إلى خوض حرب 1948، ووصل ضغط الحراك الطلابي المتفاقم إلى حد تنظيم الاعتصامات في المدارس العراقية. ولا عجب في ذلك، إذ إن العديد من مُدرسي المدارس العراقية كانوا فلسطينيين، ومن ثمَّ ارتبط الطفل والمراهق والشاب العراقي حينها بفلسطين منذ الأيام الأولى لدراسته.

(مواقع التواصل)

بدأت القوات العراقية رحلتها في فلسطين يوم 15 مايو/أيار 1948، وتشكَّلت من 3 آلاف جندي بقيادة العميد "محمد الزبيدي"، وعبرت نهر الأردن في اتجاه فلسطين، وكانت أولى خطواتها هي احتلال موقع مشروع "روتنبِرغ" لتوليد الكهرباء على الضفة الشرقية لنهر الأردن، ثم مهاجمة قلعة "كيشر" الحصينة. ولكن بعد نسف بوابة القلعة جاءت الأوامر العسكرية إلى الجيش العراقي بإيقاف محاولة السيطرة على القلعة، والتوجه نحو نابلس، والسيطرة على قرية "الجفتلك". وقد سارت التحركات العراقية على الأرجح في اتجاه الاستيلاء على مركز اقتصادي مهم للصهاينة، وهي مدينة "نتانيا" التي قامت على أنقاض مدينة "أم خالد" الفلسطينية، وذلك بهدف عزل القوات الصهيونية الشمالية والجنوبية عن بعضها بعضا. هذا واقتضت خطة الاستيلاء على نتانيا كما يبدو الاستيلاءَ أولا على "كفار يونا" الواقعة إلى شرق نتانيا.

على الجانب الآخر، امتلكت العصابات الصهيونية خطة للردع الاستباقي عن طريق الهجوم على بلدة "جنين". وبالفعل توجه 3 آلاف جندي إسرائيلي من لواء "كرملي" للاستيلاء على جنين ضمن خطة الهجوم الاستباقي. وقد بدأ الهجوم يوم 31 مايو/أيار 1948 وفق تحرك عسكري مُحكَم، ولم تكن هناك سوى حامية عراقية صغيرة بقيادة المُقدم "نوح الجبلي"، ضابط في كتيبة آلية عراقية، مع سيارات مدرعة وبطارية مدفعية وبعض المتطوعين الفلسطينيين. وقد بدأت العصابات الصهيونية في السيطرة على القرى بسهولة الواحدة تلو الأخرى، مع دعم من سلاح الجو الخاص بها سهَّل مهمة تطويق المدينة وإلحاق الخسائر بالعراقيين. ورغم سيطرة الإسرائيليين على معظم أرجاء المدينة بحلول يونيو/حزيران 1948، فإن الجنود العراقيين استطاعوا الاحتفاظ بالقلعة القديمة، وهي مخفر شرطة سابق في المدينة.

القائد العسكري العراقي "عمر علي البيرقدار"، قائد لواء المشاة الخامس في حرب 1948. (مواقع التواصل)

حدث التحول الأكبر حين ظهر القائد العسكري العراقي "عمر علي البيرقدار"، قائد لواء المشاة الخامس الذي سُطِّر اسمه في التاريخ. وكان من المفترض حسب الخطة أن يتجه اللواء إلى الهجوم على "نتانيا". ولم نتأكد حتى الآن إن كانت الأوامر قد أتت بالفعل من القيادة السياسية من أجل تغيير سير الخطة ثم التوجه نحو تحرير جنين، أم أن التحرك تمَّ دون وجود أوامر سياسية عُليا. على أي حال، تحكي الروايات الشعبية أن البيرقدار تحرك بعدما رأى العجائز والنساء الفلسطينيين الفارين من جنين، ورووا له ما حدث لهم على يد الصهاينة. ولذا، أخذ البيرقدار قرارا بالتوجه إلى المدينة من أجل تحريرها، ونظَّم قواته مع المجاهدين المتطوعين من فلسطينيي نابلس و"عرابة" و"برقين" و"رمانة" و"صانور"، واستطاع أن يصل جنين رغم التحرشات التي قابلها في الطريق من بعض جنود العصابات الصهيونية.

بدأت القوات العراقية القادمة في شن معركة تاريخية لاستعادة المدينة، واستهلت جهودها بضرب الجيش الإسرائيلي عند معابر بلدة "قباطية". ومع الأداء البطولي للجيش العراقي، انسحبت العصابات الصهيونية وعلى رأسها الهاجاناه من التلال الجنوبية لجنين. وبحلول يوم 4 يونيو/حزيران، أتمَّت القوات العراقية النصر وسحقت المقاتلين الصهاينة تماما. وقد كانت غنائم العراقيين من المعركة، بحسب بعض التقديرات، 10 مدافع هاون و20 رشاشا و4 أجهزة لا سلكية و300 بندقية من طرازات مختلفة، كما قُتل وجُرح من صفوف الصهاينة 300 مُحتَل، بينما قدَّم العراق 100 شهيد وجريح.

كان الجيش العراقي، بحسب شهادات، الأكثر اتساقا مع الخطة الموضوعة للجيوش العربية. فقد قاتل العراقيون قتالا مُشرفا في "طولكرم" و"أم الفحم" ومنطقة "المثلث"، علاوة على معركة جنين البطولية. واقترب الجيش العراقي كذلك من تحرير "حيفا" شمال غرب القدس، لولا الأوامر السياسية التي حوَّلته عن استكمال المهمة العسكرية هناك، وقد ضمنت بطولاته الحفاظ على أرواح عشرات آلاف الفلسطينيين ومنازلهم حينئذ.

كتاب "حرب فلسطين.. إعادة كتابة تاريخ حرب 1948" (مواقع التواصل الاجتماعي)

بيد أن الإدارة السياسية للجيش العراقي لا تزال محل الكثير من التساؤلات مثلها مثل بقية الإدارات السياسية للجيوش العربية التي شاركت في حرب 1948. وبحسب أستاذ العلوم السياسية الدكتور "أحمد عدنان الميالي"، في حديث سابق للجزيرة نت، فإن الجيش العراقي لم يحظَ في الحرب بالدعم الكافي من حكومته بسبب التأثير البريطاني على البلاد في تلك الفترة. وقد أشار كتاب "حرب فلسطين.. إعادة كتابة تاريخ حرب 1948"، الصادر عن جامعة كامبريدج البريطانية، إلى مفارقة تتعلق بالإدارة السياسية في العراق وقتها، إذ كانت القيادة العراقية أول مَن دعا إلى التدخل العسكري في فلسطين بعد قرار التقسيم، لكن أوامرها الفعلية التي أرسلتها إلى جيشها انصبَّت على احتلال مواقع دفاعية ليس إلا، كما أنها دَعَت إلى مقاطعة نفطية (حظر تصدير النفط) للدول الداعمة لخطة التقسيم، لكنها لم تُنفِّذ بنفسها مقاطعة نفطية من هذا النوع.

هناك العديد من الخطوات التي تثير علامات الاستفهام حول الأوامر الموجَّهة للجيش العراقي أثناء الحرب، بدءا من الهجوم على حصن كيشر، الذي استهلك وقتا طويلا وسقط فيه شهداء، حتى نُسِفَت بوابته بالفعل، قبل أن تأتي الأوامر بالتوجه إلى نابلس دون استكمال احتلال الحِصن. ويشير "عامر حسك"، أحد القادة الميدانيين في الحرب، إلى أن الانتقال إلى نابلس مَثَّل خطوة غريبة من وجهة نظره، إذ لم يكن هناك يهود محتلون من الأصل في تلك المدينة. وعند انتهاء المعارك، ورغم ما أظهرته القيادة العراقية من رفض لإنهاء الحرب والاستسلام للهزيمة، فإنها في الواقع لم تُطوِّر هجوما إستراتيجيا فعَّالا على مستوى الإدارة السياسية رغم الأداء المُميز لجيشها، ومواقعه الجيدة طوال الحرب.

"لا صهيوني يجرؤ على التحرش بجندي عراقي"

أتت الهدنة الأولى في الحرب بتاريخ 11 يونيو/حزيران 1948، وجسَّدت كارثة كبرى بحسب شهادة "صالح صائب الجبوري"، رئيس أركان الجيش العراقي الأسبق، فمن خلال هذه الهفوة التي ارتكبتها الإدارة السياسية العربية بقبول الهدنة، تمكَّن الصهاينة من الإعداد والتسليح على نحو أفضل لتحقيق مكاسب أوسع بعد انتهاء الهُدنة، وقد انتصرت العصابات الصهيونية بالفعل على القوات المصرية وجيش الإنقاذ المكوَّن من المتطوعين فيما بعد.

رغم ذلك، صنع الجيش العراقي إنجازه في جنين بعد الهُدنة، وظل يؤدي بامتياز في المهمات الصغيرة التي اضطلع بها على أرض المعركة. وبحسب الجبوري، فإن بطولات العراقيين لم تنتهِ هُنا، بل كُتِبَت نهايتها أثناء معركة "رامات هاكوفيتش"، التي سحقت فيها القوات العراقية في عملية دفاعية نظيرتها الصهيونية بعد محاولة انتزاع الصهاينة لمواقع جديدة عام 1949. كانت تلك آخر صفحة للجهود القتالية العراقية في فلسطين، ولم يجرؤ بعدها الصهاينة على التحرش بأي قطاع من قطاعات الجيش العراقي بصورة جدية.

بداية من يوم 7 يناير/كانون الثاني 1949، دخلت الحكومات العربية في مباحثات أُجريت في جزيرة "رودس" اليونانية لعقد الهدنة الدائمة مع دولة الاحتلال الإسرائيلي المُعلَن تأسيسها حديثا. لكن العراق وحده أبى التفاوض مع الكيان الجديد، ومن ثمَّ ظل العراق وإسرائيل من الناحية القانونية والفِعلية في حالة حرب. وبعد انسحاب الجيوش العربية، سلَّم الجيش العراقي المناطق التي سيطر عليها في الحرب لنظيره الأردني في يوليو/تموز 1949، إذ امتلك العراق الوضع الأفضل إستراتيجيا من بين الجيوش العربية حين وضعت الحرب أوزارها.

يمكننا هُنا أن نعود إلى كتاب "حرب فلسطين" المذكور آنفا، الذي تناول ضمن صفحاته القرارات المُلتبِسة للإدارة العراقية. فبينما رفض العراق وقف إطلاق النار، فإنه لم يطور من جهة أخرى أي هجوم إستراتيجي على الصهاينة، تماما مثلما كانت بطولاته في الحرب جهودا قتالية جبَّارة واستبسالا عظيما، لكن دون خُطة أوسع لتغيير الوضع القائم سياسيا وإستراتيجيا. كما أن رفض العراق التوقيعَ على الهدنة لم تتبعه رغبة منه في وضع إستراتيجية طويلة الأمد لمواجهة الوجود الإسرائيلي، بل إنه بدا عازما على سحب قواته في نهاية المطاف، وتسليم المناطق للأردن بأقصى سرعة.

ما زالت حرب عام 1948 حافلة بالألغاز، ولم تلقَ بعد ما تستحقه من العمل البحثي لحل ألغازها تلك، سواء تلك المتعلقة بالجيش العراقي أم المصري أم الأردني، وطبيعة إخفاقات كلٍّ منهم على حِدة، وما هو ميداني منها، وما هو مرتبط بخُطة القادة العسكريين وبإستراتيجيات القادة السياسيين، أو غيابها بالكُلية أحيانا. ولكن بعيدا عن طبيعة الإدارة السياسية في الدول العربية لحرب فلسطين 1948، وما شابها من علامات استفهام لم يُجَب عنها جوابا شافيا إلى يومنا هذا، فإن المؤكد أن الجندي العراقي لم يبخل بروحه على فلسطين، وأن بطولاته تستحق أن تُروَى. بل ووفق بعض الروايات فإن الجنود العراقيين تقاسموا الغذاء المُخصَّص لهم مع السكان الفلسطينيين، وكذلك اصطحبوا معهم لاجئين فلسطينيين إلى العراق أثناء عودتهم من الحرب. وقد ودَّع الفلسطينيون جنود العراق أثناء خروجهم من الأراضي الفلسطينية باحتفال مهيب -لم يخلُ من حُزن وحسرة بطبيعة الحال- فلم ينسَ هؤلاء تحت وطأة الهزيمة أن يقفوا محبة واحتراما لتضحيات الأبطال العراقيين على أرضهم.

__________________________________________________________

المصادر

  1. The Iraqi soldiers who sacrificed everything to defend Palestine in 1948
  2. معركة "رامات هاكوفيتش" الجيش العراقي يفتك بلواء جفعاتي في قلقيلية
  3. أشهر معارك العراقيين في فلسطين
  4. حرب 1948
  5. العراق والقضية الفلسطينية: قبل صواريخ صدام حسين على تل أبيب وبعدها
  6. التأريخ للهزيمة: مشاركة القوات العراقية في حرب عام 1947- 1949
  7. حوار أحمد منصور مع عارف عبدالرزاق 
  8. Babylon versus Zion: Changing Iraqi Perceptions of Israel
  9. دور العراق التاريخي في دعم القضية الفلسطينية (1920 – 2003م).
  10. The Myth of the "Few Against the Many" in 1948
  11. "محنة فلسطين وأسرارها السياسية والعسكرية" وأسرار حرب 1948 | مذكّرات صالح صائب الجبوري
المصدر : الجزيرة