ابن بطوطة في عُمان.. حين زار الرحالة العربي الأشهر منازل قوم عاد

ابن بطوطة
طاف ابن بطوطة "محمد بن عبد الله الطنجي" (1304-1377) قارات العالم القديم؛ أفريقيا وآسيا واقترب من أوروبا حين زار الأناضول في ثلاثينيات القرن الرابع عشر الميلادي. (مواقع التواصل)

كلنا يعلم ابن بطوطة، ذاك الشاب المتوقد الذكاء والحماسة، الذي ما إن بلغ العشرينيات من عُمره حتى انطلق لأداء الحج وطلب العلم، فكأنما لم يقنع ذاك الفتى المغربي بالبقاء في طنجة، مكان مولده ومنبته وشبابه، فعزم جادا على رحلة حول العالم استغرقت ثلاثة عقود كاملة تقريبا، كان له فيها صولات وجولات ومغامرات وعجائب، ونجاة من الهلاك والموت مرات ومرات، دوَّنها في مذكراته التي عنونها بـ "تُحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار"، وهي أعظم مؤلفات الجغرافيا وأدب الرحلات العربي والإسلامي على الإطلاق.

 

طاف ابن بطوطة "محمد بن عبد الله الطنجي" (1304-1377) قارات العالم القديم؛ أفريقيا وآسيا واقترب من أوروبا حين زار الأناضول في ثلاثينيات القرن الرابع عشر الميلادي. وقد اعتمر وحجَّ عدة مرات، وقرَّر أن يغوص في عمق القارة الآسيوية، مُستكشفا عجائب الهند وغرائب الملايو وإندونيسيا وعبق الصين وحضارتها وإمبراطوريتها القديمة، قبل أن يعود إلى الجزيرة العربية من جديد من شقّها الجنوبي حيث بلاد عُمان، التي انطلق منها إلى العراق والشام ومصر، ثم إلى الحج مرة أخرى قبل الرجوع إلى بلده في الأخير.

 

ورغم سرعة مُرور ابن بطوطة بعُمان وعلى رأسها ظُفار، فإنه حفظ لنا ملاحظات على جانب كبير من الأهمية عن هذا الإقليم الإستراتيجي في تجارة وبحرية العرب والمسلمين آنذاك، فضلا عن أهم الدول التي كانت تحكم المنطقة، وبعض أشهر مُدنها.

 

من أفريقيا إلى ظُفار

ابن بطوطة
ابن بطوطة (مواقع التواصل)

من الملاحظ أن ابن بطوطة زار عُمان مرتين على الأقل، مرة في ذهابه إلى الهند وشرق آسيا، ومرة عند عودته. كانت المرة الأولى بعد أدائه الحج، فزار اليمن ومنها اتجه إلى إريتريا والصومال، حيث زار زيلع ومقديشو، ثم إلى تنزانيا حيث حطَّت به الرحال عند زنجبار وكلوة في جنوبها. ومن هناك عزم ابن بطوطة على زيارة الهند لما سمعه عن أخبارها وعجائبها، بيد أنه ركب سفينة أخذته إلى ظفار في المنطقة الغربية من عُمان، ويبدو أن العُمانيين كانوا متوغلين بالفعل في شرق القارة الأفريقية وسواحلها آنذاك حين زار ابن بطوطة هذه البقاع، وعرف شهرة العُمانيين في عالم السفن والتجارة وعلوم البحار.

 

بعد شهر من تجوُّله في المحيط الهندي وبحر العرب، حطَّ ابن بطوطة رحاله في ظفار، تلك المدينة التي كان يحكمها الملك "المغيث بن الملك الفائز"، وقد كان ابن عم سُلطان اليمن الملك المجاهد "عُمر الرسولي". ويتضح من هذا الأمر أن ظُفار كانت تابعة لليمن من الناحية السياسية في النصف الأول من القرن الرابع عشر الميلادي، وأنها وقعت تحت حُكم الدولة الرسولية التي نشأت بوصفها دويلة تابعة للأيوبيين في مصر والشام والحجاز، ثم استقلَّت عنهم حتى أواخر القرن التاسع الهجري، ولهذا يَعتبر ابن بطوطة ظُفار "آخر بلاد اليمن على ساحل البحر الهندي"[1].

 

غرائب وأخلاق أهل ظفار

عدَّد ابن بطوطة الكثير من المآثر والمزايا التي رآها عند أهل ظُفار من أول سُلطانهم وحتى عامة أهلها.  (مواقع التواصل)

كعادة ابن بطوطة، يظهر لنا اهتمامه الدائم بأسواق المدن وعادات أهلها وملاحظة تقاليد الطبقات الاجتماعية فيها، فسوق ظُفار كان خارج أسوارها، وكان يُعرَف بالحرجاء، وقد كره ابن بطوطة ذلك السوق بسبب الروائح النتنة فيه "لكثرة ما يُباع بها من الثمرات والسمك، وأكثر سمكها من النوع المعروف بالسردين"[2].

 

الغريب أن وجود السمك والسردين سببه أن أهل ظُفار اعتادوا استخدامها علفا لدوابهم، فيقول ابن بطوطة: "ومن العجائب أن دوابهم إنما علفها من هذا السردين، وكذلك غنمهم، ولم أرَ ذلك في سواها". ويُعلِّق الدكتور "حسين مؤنس" على هذا الخبر من ابن بطوطة بقوله: "وقد سألتُ في إمكان هذا رجلا من البيولوجيين فقال: ’إن ذلك ممكن، وإن آكلات العُشب قد تغتذي باللحم في حالة الضرورة طلبا للبروتين، ولا بد أن يكون السردين في هذه الحالة مُجفَّفا‘"[3].

 

لكن ابن بطوطة عدَّد الكثير من المآثر والمزايا التي رآها عند أهل ظُفار من أول سُلطانهم وحتى عامة أهلها. فقد اعتاد أهلها إكرام الغرباء، لا سيما التجار منهم ليجتذبوهم إلى بلادهم، فيقول مُثنيا عليهم: "وهم أهل تجارة لا عيش لهم إلا منها. ومن عادتهم أنه إذا وصل مركب من بلاد الهند أو غيرها خرج عبيد السلطان إلى الساحل وصعدوا إلى المركب ومعهم الكسوة الكاملة لصاحب المركب أو وكيله وللربان.. ويُؤتى إليهم بثلاثة أفراس فيركبونها وتُضرب أمامهم الأطبال والأبواق من ساحل البحر إلى دار السلطان.. وتُبعث الضيافة لكل مَن بالمركب ثلاثا، وبعد الثلاث يأكلون بدار السلطان، وهم يفعلون ذلك استجلابا لأصحاب المراكب، وهم أهل تواضع وحسن أخلاق وفضيلة ومحبة للغرباء ولباسهم القطن"[4].

 

رأى ابن بطوطة أيضا مظاهر التضامُن بين أهل مدينة ظُفار ولاحظه في بعض عاداتهم في صلاتَيْ الصبح والعصر وبعد كُل صلاة جُمعة، فيقول: "ومِنْ عوائدهم الحسنة التصافُح في المسجد إثر صلاة الصُّبح والعصر، يستند أهل الصف الأول إلى القبلة ويصافحهم الذين يلونهم، وكذلك يفعلون بعد صلاة الجمعة حيث يتصافحون أجمعين"[5].

عرف أهل ظُفار وزهَّادها مكانة ابن بطوطة بوصفه رجل علم ودين وزهد وأخلاق قبل أن يعرفوه رحَّالة متجولا. (مواقع التواصل)

ويذكر أيضا أن من عاداتهم الجميلة الطهارة والنظافة، وقد جعلوا في "كل مسجد مطاهر كثيرة مُعدَّة للاغتسال". لكنه لاحظ أن "الغالب على أهلها رجالا ونساء المرضُ المعروف بداء الفيل وهو انتفاخ القدمين". ومن المعروف اليوم أن سبب وجود هذا المرض هو كثرة وجود نوع من البعوض ناقل له، وربما كان السبب الرئيس في ذلك كثرة الذباب والبعوض الناتج عن إلقاء السردين والسمك الزائد عن الحاجة إلى البهائم.

 

ذكر ابن بطوطة أيضا أخلاق أهل التصوف والدين من رجال ظُفار الذين أكرموا مقامه لما توسَّموا فيه من النباهة والعلم، ونحن نعرف أن ابن بطوطة لم يكن فقط سيَّاحا في الأرض، وإنما كان أيضا فقيها وقاضيا، بل وسفيرا لبعض ملوك الهند، وكان يُعرِّف نفسه على الدوام بهذه الأمور، ولا شك أنه كان صادقا في دعواه لأن المحاورات العلمية والأدبية فضلا عن أحاديث الأخلاق والزهد لم تنقطع بين ابن بطوطة ورجالات العلم والزهد في كل قرية أو مدينة نزل بها.

 

على هذا عرف أهل ظُفار وزهَّادها مكانة ابن بطوطة بوصفه رجل علم ودين وزهد وأخلاق قبل أن يعرفوه رحَّالة متجولا، وهو يقول حينما نزل ضيفا في زاوية بعض مشايخ ظُفار آنذاك: "أتيتُ هذه الزاوية فبتُّ بها في ضيافة الشيخينِ أبي العباس أحمد وأبي عبد الله محمد ابني الشيخ أبي بكر المذكور وشاهدتُ لهما فضلا عظيما، ولما غسلنا أيدينا من الطعام أخذ أبو العباس ذلك الماء الذي غسلنا به فشرب منه، وبعث الخادم بباقيه إلى أهله وأولاده فشربوه، وكذلك يفعلون بمَن يتوسَّمون فيه الخير من الواردين عليهم، وكذلك أضافني قاضيها الصالح أبو هاشم عبد الملك الزبيدي، وكان يتولَّى خدمتي وغَسْل يدي بنفسه، ولا يكِلُ ذلك إلى غيره"[6].

 

على مسافة نصف يوم من ظُفار زار ابن بطوطة منطقة الأحقاف، وهي منازل قوم عاد، وهناك وجد زاوية، وفي الزاوية وجد قبرا كُتب عليه "هذا قبر هود بن عابر عليه أفضل الصلاة والسلام"، وهو يذكر أنه وجد مثل ذلك في دمشق، لكنه يُرجِّح أن قبر هود الحقيقي في الأحقاف لأن هذه بلاده.

 

موز ونارجيل وتنبول

كانت شُّجيرة التنبول من أهم ما يمضغه أهل ظُفار آنذاك مع الفوفل وبعض البهارات والتوابل. (مواقع التواصل)

أما أشهر أطعمة هذه المدينة وزراعاتها فكانت الذرة التي يسقونها من آبار بعيدة، ولهم قمح يسمونه "العلَس"، كما اعتاد أهل ظفار آنذاك على استيراد الأرز من الهند، وهو أكثر طعامهم، وأموالهم كانت من النحاس والقصدير، ولم يفت ابن بطوطة أن يُشير إلى أهم الزراعات الأخرى في ظفار، التي لا تزال باقية إلى يومنا هذا مثل الموز وجوز الهند "النارجيل" الذي يصفه أنه مثل رأس ابن آدم، فيقول: "ولهذه المدينة بساتين فيها موز كثير كبير الجُرم (الحجم)، وُزنت بمحضري حبَّة منه فكان وزنها اثنتي عشرة أوقية، وهو طيِّبُ المطعم شديد الحلاوة، وبها أيضا التنبول والنارجيل المعروف بجوز الهند، ولا يكونان إلا ببلاد الهند وبمدينة ظفار هذه لشبهها بالهند وقربها منها"[7].

 

أما التنبول، هذه الشُّجيرة التي تشبه العنب في غرسها وزراعتها، ولا ثمر لها، وإنما فائدتها في أوراقها التي تُشبه القات، فقد كانت من أهم ما يمضغه أهل ظُفار آنذاك مع الفوفل وبعض البهارات والتوابل، ونحن نعلم اليوم أن التنبول أو التمبول يحوي على مواد مخدِّرة، وأثبتت الدراسات الحديثة أنها تُسبب السرطان والوفاة بنِسَب عالية في المناطق التي لا تزال تُستخدم فيها إلى اليوم[9] مثل بورما وبنغلاديش وتايوان، فضلا عن اليمن الذي تُستخدم فيه بديلا للقات أو التبغ.

 

خصَّص ابن بطوطة حديثا وسردا مفصلا عن نبتة التنبول التي كان يمضغها أهل ظُفار بكثرة وأسباب ذلك، فيقول: "التنبول شجر يغرس كما تغرس دوالي العنب.. وأهل الهند يعظمون التنبول تعظيما شديدا، وإذا أتى الرجل دار صاحبه فأعطاه خمس ورقات منه فكأنما أعطاه الدنيا وما فيها! لا سيما إن كان أميرا أو كبيرا، وإعطاؤه عندهم أعظم شأنا وأدل على كرامة من إعطاء الفضة والذهب! وكيفية استعماله أن يوخذ قبله الفوفل، وهو شبه جوز الطيب، فيُكسر حتى يصير أطرافا صغارا ويجعله الإنسان في فمه ويعلكه، ثم يأخذ ورق التنبول.. ويمضغها مع الفوفل، وخاصيته أنه يُطيِّب النكهة ويذهب بروائح الفم ويهضم الطعام"[10].

 

تلك أبرز مشاهد ابن بطوطة في مدينة ظُفار العُمانية، بعضها رآه غريبا ولافتا وربما طريفا، وبعضها الآخر -وهو قليل- رآه مستهجنا، وأكثره مدح وثناء على أخلاق وصفات أهل هذه المدينة العُمانية الأصيلة التي كانت فيما يبدو من أهم مراكز التجارة العمانية على المحيط الهندي وبحر العرب، فضلا عن كونها مركزا للنقل البحري بين شرق أفريقيا والهند وآسيا في تلك القرون السالفة، وهي سمة لا تزال تتسم بها عُمان حتى عصرنا الحديث.

—————————————————————————————————————————–

المصادر

  1. رحلة ابن بطوطة 2/123.
  2. السابق.
  3. حسين مؤنس: رحلات ابن بطوطة ص101.
  4. ابن بطوطة
  5. ابن بطوطة 2/124.
  6. ابن بطوطة 2/126.
  7. ابن بطوطة 2/127.
  8. ابن بطوطة 2/128.
  9. منظمة الصحة العالمية
  10. السابق.
المصدر : الجزيرة