موسم الهجرة إلى الريف.. لماذا تطرد المدن المزدحمة سكانها؟

 

على خلفية تنسجم فيها الألوان ويمتزج فيها ثغاء الأغنام بزقزقة العصافير، تنكب الفتاة الصينية لي على ورق صنعته من أوراق الشجر، تخط عليه خطوطا متوازية، بينما تلتقط من الطبق الخشبي المقابل لها حبات عنب كاملة النضج، تُزيل القشر وتحتفظ به جانبا بينما تلتهم اللب. من زاوية علوية تُصوِّر لي ما تَخطُّه على الورقة ليتبيّن أنها تُصمِّم فستانا، تأخذ الطبق الخشبي المليء بقشور حبات العنب الذي التهمته وتنقعه في الماء وتُحرِّكه بعصا خشبية، ثم تُضيف القليل من الخل المركز، تغلي القشور في القدر لترشح لونا بنفسجيا غامقا. بمصفاة خشبية تفصل الفتاة الماء عن القشر، ثم تأتي بقماش صنعته من قطن الحديقة المغزول بأصابعها وتنقعه فيه ليتشرّب اللون فورا ويتحوّل من الأبيض إلى بنفسجي خافت. في حديقة بيتها الخضراء الساحرة تنشر لي الثوب ليتلقف أشعة الشمس وتُداعبه رياح الربيع الوديعة، بعد أن يجف تُصوِّر عملية قصّه وتفصيله وخياطته، ثم ترتديه فستانا ناعما مصنوعا بحب وبمواد نمت كلها في الجوار. (1)

 

تُنتج لي زيكي على النهج نفسه كل فيديوهاتها، فمن من بين الحقول الشاسعة والأشجار المثقلة بالثمار اليانعة، ومن محتوى يصور حياتها الريفية البسيطة التي تسير على مهل بكامل الدلال، عملية عجن الخبز بأصابع رقيقة، وطهو ولائم محلية على مهل، وغزل الصوف باليد وصُنع أثاث من سيقان البامبو، استطاعت لي البالغة من العمر 29 سنة أن تخلق مهربا وملجأ للتائهين في زحام المدن الخانقة.

 

انتقلت لي للعيش مع جدتها في ريف مانيانغ غرب الصين سنة 2012، لكنها لم تكن تتوقع عندما نشرت أول مقاطعها المصورة على قناتها على يوتيوب سنة 2016 أن تحصد هذا النجاح الباهر، وأن تجمع خلال 4 سنوات من بدء قناتها 13 مليون متابع وتُحقِّق ما يزيد على مليار وثماني مئة مليون مشاهدة. لم تعد لي مجرد مدونة عادية، يُعلِّق أحد متابعيها على أحد المقاطع قائلا: "عندما أشاهد فيديوهاتها أنتقل إلى عالم سحري وأعود إلى الواقع حالما تنتهي"، وتقول أخرى: "أحب حياة الريف، وأصوات الطبيعة العذراء، لقد سئمت اصوات السيارات، والهواء الخانق، والسماء المكدرة طيلة الوقت".

 

تُرجِع المدونة الصينية في اللقاءات التلفزيونية القليلة التي قامت بها كم المتابعات التي حصدتها لكون الناس تعبوا من الحياة الصناعية والقلق المصاحب لها، فوجدوا في قناتها متنفسا ومهربا يلجؤون إليه للاسترخاء، وليتذكروا أنه بعيدا عن المدن الأسمنتية التي نُدفن داخلها أحياء توجد هضاب شاسعة. (2)

 

عنوان ميدان

"الناس في هذا البلد لا يحترمون الصباح، فهم يستيقظون على صوت جرس المنبه الذي يقطع نومهم بضربة فأس، ثم يستسلمون للعجلة القاتلة، قل لي كيف سيكون يوم يبدأ بهذا الفعل العنيف؟"

 

(ميلان كونديرا)

ميّزت ظاهرة الهجرة من الريف إلى المدن حياة البشر في العصر الحديث. الانتقال من الاقتصاد الزراعي المتضائل إلى فرص ومنافع الحياة المدنية التي تتوفر فيها فرص العمل والتعليم والترقي الاجتماعي والطبقي كان هدفا يدفع الناس إلى ترك أراضيهم ومطاردة ما يتيحه التمدن من ترف. تظهر الإحصاءات أن نسبة السكان في المدن حول العالم ارتفعت من 30% سنة 1950 إلى 55% سنة 2018، ومن المتوقع ان تصل إلى 60% سنة 2030، وبحسب ما تُشير إليه الإحصائيات فقد وصلت نسبة سكان المدن في مصر سنة 2016 إلى 42%، أما في الصين فقد بلغت 53%، فيما بلغت في الولايات المتحدة الأميركية 81%. (3) (4)

 

لكن في السنوات الأخيرة بدا وكأن هناك ظاهرة مضادة بدأت بالطفو على ساحة المجتمعات الصناعية الحديثة، فمع تزايد الوعي بالصحة واهتمام الناس بأنماط العيش، لم يعد بالإمكان تجاهل الرغبة المتزايدة والمتّقدة في ترك المدينة والهرب إلى ضواحي المدن والأرياف. فبحسب إحصائيات أجراها مكتب المراجع السكانية بواشنطن، فاقت نسبة الهجرة من ثمانية عشر من أصل خمسة وعشرين منطقة مدنية كبرى نسبة الهجرة إليها، كما فاق عدد المهاجرين من نيويورك ولوس أنجلوس وشيكاغو ستين ألف مهاجر سنويا. والمستجد في الموضوع حسب مكتب المراجع السكانية بواشنطن أن هؤلاء المهاجرين داخليا لم يعد يكفيهم الابتعاد عن المدن المركزية والانتقال إلى الضواحي، بل أصبحوا يميلون للابتعاد عن المدن بما يزيد على أربعين ميلا. (5)

حياة الريف

في الآونة الأخيرة، وفي ظل أزمة كورونا التي تُرخي بظلالها على العالم والتهديد الذي شكّلته، أعاد الكثير من الناس التفكير في تعريف فضاء العيش الآمن. في حوار أجراه "ميدان" مع السيد أحمد الأشوح ليشاركنا تجربته في العيش في المدينة والريف في ظل أزمة كورونا، قال إن ما توفره المدن من خدمات قد يُشكِّل خطرا على حياتك في ظرف كالذي عايشناه منذ مطلع العام الحالي، ويُضيف قائلا: "اختبرت العيش في عاصمة تضج بالحياة مثل فِييَنَّا حيث يحتشد الناس في الحافلات والأسواق في زمن التباعد الاجتماعي، لكن عندما انتقلت إلى مدينة صغيرة أقرب للريف كان الالتزام بالمعايير الصحية أسهل، وتخففت من القلق المصاحب لكل خطوة أضطر لخطوها خارج المنزل".

 

أما في بريطانيا، فقد بيّنت نتائج استطلاع قامت به شركة سافيلز أن 30% من سكان لندن المشاركين في الاستطلاع يفكرون في الانتقال للعيش في الأرياف وضواحي المدن، كما أشارت المنصة العقارية "Rightmove" أن عمليات البحث التي قام بها سكان لندن الذين يفكرون في الانتقال خارج المدينة شهدت ارتفاعا بلغ %51، في الوقت نفسه نشر مركز الخليج العربي للدراسات والبحوث رصدا تحليليا يوضح إقبال الطبقة الغنية والمتوسطة على العيش في ضواحي المدن والأرياف خوفا من موجات كورونا الجديدة، وتحسبا لانتشار أي أمراض معدية مستقبلا. (5)(6)

 

عنوان ميدان

قد يبدو عيش حياة بسيطة في القرى وضواحي المدينة بمنزلة تجربة مرعبة للكثيرين، لكنه في الوقت نفسه حلم هادئ يداعب خيال آخرين سئموا نمط الحياة المتسارع، والضوضاء، وحشود المدن، ويرغبون في الاستفادة من مزايا الريف التي نذكر منها:

  • حياة صحية 

الريف

يغادر الكثيرون المدن بحثا عن نفحة هواء نقي خالٍ من الأتربة وعوادم السيارات. يساعد الهواء النظيف على التنفس بشكل أفضل، ويقلل مخاطر الحساسية والجهاز التنفسي وأمراض القلب، ويُقوّي العيش في الفضاءات الريفية جهاز المناعة، ويزيد الحيوية، ويُهدّئ الأعصاب، ويُحسِّن المزاج. بالإضافة إلى ذلك تعتبر الأرياف منفذا سهلا للوصول إلى الأغذية العضوية الصحية نظرا لتوفر المزارع التي تمدك بالفواكه والخضار ومنتجات الألبان الطازجة. (7)

 

  • الأمن

تُسجِّل الأرياف والقرى معدلات جريمة منخفضة جدا مقارنة بالمدن الكبرى والعواصم المزدحمة. قلة السكان تقدم فرصة مواتية ليتعرف الجميع على الجميع، وبالتالي تصبح الأحداث أو السلوكات الغريبة سهلة الرصد. الحركة المرورية الخفيفة كذلك تترك للأطفال مجالا أرحب للعب دون الخوف على سلامتهم وأمنهم. (8)

 

  • حياة أيسر وأرخص وأكثر هدوءا

الريف

تنخفض تكلفة استئجار بيت أو شرائه كلما ابتعدت عن المدينة، كما تنخفض الرسوم المدرسية وتكلفة الخدمات والضرائب المفروضة على الأملاك والسيارات، ومن الملاحظ كذلك أن تكلفة المعيشة في البوادي تكون أقل دائما، وتنعدم الكثير من المغريات التي يُصرَف فيها المال مفسحة لك المجال لصرف النقود على أشياء أهم، مما يضمن لك حياة رفيعة أو يتيح لك إمكانية توفير المال، يضمن هذا الأمر شيئا من الراحة لبعض الناس ولا يضطرهم للعمل في وظيفتين لتغطية تكاليف العيش. (9)

 

بعيدا عن الإحصائيات والأرقام والحديث النظري، قد نحتاج لفهم الظاهرة إلى الاقتراب أكثر من تجارب المهاجرين العكسيين، الذين تركوا المدن وسكنوا ضواحيها أو ابتعدوا عنها بالكامل متوجهين إلى القرى البعيدة، فقيادة الدراجة في الريف الألماني، والتنزه والاستمتاع بالطبيعة كان مغريا كفاية بالنسبة لياتشيونغ سونغ لتقطع الكرة الأرضية عرضا من الصين إلى ألمانيا.

 

نشأت ياتشيونغ في مدينة بكين عاصمة الصين حتى أتمت دراستها الجامعية، ثم قضت عامين في لندن حازت فيهما درجة الماجستير في إدارة الأعمال، عادت بعدها إلى العاصمة الصينية المزدحمة. لم يمضِ عامان حتى شدّت رحالها إلى هانوفر الهادئة شمال ألمانيا، في حديثها مع "ميدان" تقول ياتشيونغ: "لم أنتقل من بكين إلى هانوفر من أجل الحصول على مرتب أعلى، دخلي في الصين لم يكن أقل من راتبي في ألمانيا، لكني أردت حياة مريحة أكثر لن تستطيع بكين العاصمة المليونية توفيرها لي. للسبب نفسه لم أختر العيش في برلين، أهرب دائما من العواصم وضجيجها، وأهرب للهوامش حيث يتسنى لي خلق توازن بين وقت العمل ووقت الراحة الذي يوفره العيش في مدينة خضراء مثل هانوفر".

 

تعيش ياتشيونغ في شقة في ضاحية المدينة تطل من شرفتها على نهر وشلال وغابة تمتد خلفهما حتى الأفق البعيد، وتقول إن الحياة في بكين تفصلك تماما عن الطبيعة، لا تكاد ترى شجرا أو تستمتع بهواء نقي ناهيك بضغوط العمل والانتقال المتواصلة، بالطبع لا تخلو المدينة المزدحمة من الحدائق، لكنها مهما بلغ شأنها لا توازي العيش في حضن الطبيعة البكر. تقضي الفتاة الصينية إجازتها الأسبوعية في جولات في الريف المحيط بالمدينة، تستكشف طرقه ومساراته، وتستمتع ببحيراته وغاباته ونسيمه العليل. بالنسبة لها يمثل نمط المعيشة هذا خيارا جذابا أكثر من أي نجاح وظيفي قد تحققه في المدن الكبرى المزدحمة.

الريف

للأسباب نفسها غادر محمد العاصمة المصرية القاهرة بعد أن عاش فيها ثلاثة وعشرين عاما سئم فيها ضجيج المدن وزحامها، انتقل محمد إلى دهب منذ ثلاث سنوات، وفي حديثه مع "ميدان" يقول إن القاهرة لم تحقق له السلام النفسي الذي وجده في دهب بسبب طبيعتها الخلابة وجوها النقي الذي يساعد كل المقيمين فيها على العيش في هدوء وسلام مستمتعين بتأمل سحرها، يقول محمد: "أعيش هنا بجوار ألمانيين وأميركيين وروسيين تركوا بلدانهم جميعا وجاؤوا هنا ليحظوا بالراحة والسكينة التي لم تستطع المدن توفيرها لنا جميعا".

 

عنوان ميدان

تُسجِّل المدن معدلات أعلى فيما يتعلق بمشكلات الصحة النفسية مقارنة بالمناطق الريفية، فيرتفع خطر الإصابة بالاكتئاب إلى 40% في المدن، فيما تتعدى نسبة القلق 20%، ويتضاعف خطر الإصابة بالفصام، بالإضافة إلى تفاقم الشعور بالوحدة والعزلة والتوتر.(9)

 

تدفع حياة المدينة بسكانها للتعامل مع الضغوطات مثل تلوث الهواء والضوضاء الناجمة عن حركة المرور بالإضافة إلى انعدام الأمن، تقول الطبيبة النفسية آلاء رأفت في حوار أجراه معها "ميدان": "يمكن تفسير ارتفاع نسبة الإصابة بالاكتئاب والقلق في المدن مقارنة بالريف بأن سكان المدن، خاصة النازحين من الريف للمدن الكبرى، لا يشعرون بالانتماء للمكان، ولا يحصلون على دعم ومساندة كافية ممن حولهم كما يحدث في الريف، غالبا لا يملكون بيوتا مستقرة، وهذا الشعور بعدم الانتماء يدفع الناس إلى الخوف من الاندماج، أو عدم الإقبال على تكوين علاقات عميقة، تصبح علاقتهم بالأشخاص علاقة هشة كعلاقتهم الهشة بالمكان الذي لا يستطيعون الانتماء إليه ولا امتلاك بقعة أرض فيه. يقل طلبهم للمساعدة ويزيد التباعد مما يحفز ظهور الاكتئاب، مع عدم وجود مساحات كافية كمتنفس بسبب طبيعة المدن المكتظة"، تُضيف آلاء لـ "ميدان":

 

"من المهم أن تشمل خطوات علاج الاكتئاب إدخال نشاطات جديدة وتفاعل اجتماعي، مما قد يكون صعبا في المدينة الكبيرة أكثر من المدن الصغرى والأرياف، لقلة الأماكن المفتوحة أو المساحات الخضراء التي تسمح بالخروج وتفريغ الطاقات السلبية بعيدا عن الزحام والضوضاء، وصعوبة تفعيل العلاقات الاجتماعية بسبب صعوبة التواصل والمسافات، الشيء الذي نجد عكسه في الريف حيث توجد مساحات خضراء وأماكن تسمح بالعزلة والتأمل وسهولة التواصل مع الآخرين ومقابلتهم.

تأمل

سكان الريف غالبا يملكون بيوتهم، ويعرفون جيرانهم، وينتمون بشكل عميق لقريتهم، علاقاتهم عميقة بمَن حولهم، يسهل طلب المساعدة ويسهل ملاحظة الشخص المريض والمسارعة إلى دعمه، عمق الارتباط بالمكان والارتباط بالناس ووضوح علاقة الشخص بما ومن حوله يجعل نفسيته أقل عرضة للإصابة بمشاعر الغربة، وهي الوصف الدقيق للاكتئاب الذي يصفه معظم المرضى "أشعر أني غريب عن نفسي"".

 

وتقول آلاء: "ومن خلال مشاهداتي أثناء عملي في العيادة النفسية في مستشفى عام يخدم مراكز كثيرة منها المدن والأرياف، حالات الاكتئاب والقلق تكثر بين سكان المدن المزدحمة، ولكن لم ألحظ فرقا كبيرا بينهما في حالات الذهان كالفصام. لا بد أن نذكر كذلك أن سكان المناطق القروية والأرياف لا يستطيعون بسهولة الوصول لخدمات الرعاية النفسية أو الذهاب إلى الطبيب لأنهم يخافون من التعرض للوصم أكثر من المدن، أصبح مفهوم المرض النفسي والذهاب للطبيب متقبلا أكثر، كما أن بعض عادات الريف يمكن أن تكون محفزا كبيرا للاكتئاب والقلق بسبب انعدام الخصوصية أحيانا والضغط الذي يتعرض له الناس بسبب المقارنات المستمرة، فالناس متقاربون بشدة مما يمكنه أن يكون مؤذيا وضاغطا أحيانا، رأيت بين سكان الريف حالات اكتئاب وقلق شديدة بسبب عدم القدرة على التأقلم مع تلك العادات، ولكن تظل المعدلات مرتفعة أكثر في المدن".

 

في النهاية لم تكن لي بشهرتها الواسعة وملايين المتابعين الذين ضمّتهم قناتها سوى بداية لنوع جديد من التدوين عن الريف، تلتها العديد من القنوات والحسابات مثل "Jonna Jinton" و"Talasbuan" وآخرين ساهموا جميعا في عكس رغبة الكثيرين في الهرب من المدن، وصارت حساباتهم ملجأ يجمع الحالمين بهجرة عكسية حتى حين.

المصادر

  1. 用葡萄皮给自己做件衣服,是一种怎样的体验?
  2. Exclusive Interview With Li Ziqi, China’s Most Mysterious Internet Celebrity
  3. Urbanization and migration
  4. our world data
  5. Americans Flocking to Outer Suburbs in Record Number
  6. توقعات: زيادة هجرة الأثرياء إلى الأرياف في عصر ما بعد كورونا
  7. Pros and Cons of Moving to the Country
  8. ALL ABOUT THE COUNTRYSIDE
  9. Pros and Cons of Country Living
  10. City life damages mental health in ways we’re just starting to understand
المصدر : الجزيرة