الروائي المغربي إسماعيل غزالي: نصي يراهن على المكان ليحرره من وطأة العادي والمألوف

يرى الروائي المغربي إسماعيل غزالي أن النص الروائي يراهن على المكان لكي يحرره من وطأة العادي وسطوة المألوف ونمطية فلكلوريته، معتبرا أن المدان هو التاريخ الرسمي الذي يقوض المدينة عبر رواية السلطة، أما ما لم يقله التاريخ الرسمي أو صمت عنه عمدا فهو ما يعني تخييل الكتابة الروائية

إسماعيل غزالي
إسماعيل غزالي روائي وقاص مغربي شاب درس الأدب العربي وعمل بالصحافة المكتوبة وفاز بجائزة الطيب صالح العلمية للإبداع الكتابي سنة 2011 عن "عسل اللقالق" (الجزيرة)

في رواية "قطط مدينة الأرخبيل" الصادرة عن دار المتوسط سنة 2020 والفائزة بجائزة المغرب للكتاب لسنة 2021 عن صنف الرواية يواصل الروائي المغربي إسماعيل غزالي عمله على نوع من الكتابة التخييلية المغايرة المؤسسة على الغرابة والتحولات.

فهو لا يلهث وراء التاريخ وأيديولوجياته وأساطيره، وإنما يجعل الكتابة متعة جمالية تبدأ من الذاتي نحو اللامألوف، إذ إن الغرابة أو لاواقعية الواقع تحتل مكانة مهمة داخل منجزه الروائي المتعدد، على المنحى التجريبي أو الفانتازي أو ما بعد الحداثي.

في هذه الرواية تحضر "الصويرة" أو "موغادور" كمدينة غرائبية متخيلة، إذ تغدو الكتابة أشبه بإزميل ينحت به الروائي صورة مغايرة لهذه المدينة، إنه يكتب لا ليدون أو يؤرخ بل ليفكك ويهدم، ثم يعيد بناء عوالم مدينة لا أحد يعرفها إلا هو.

ثمة نزعة كابوسية في فعل الكتابة عند صاحب "عزلة الثلج"، إذ أثر القطط يقودك إلى تفاصيل ونتوءات العالم السفلي بطريقة مدهشة يجعلها الكاتب أشبه بدليل سحري لسيرورة المدن، لدرجة تصبح هذه القطط ذاكرة للمدينة وأحلامها أو شاهدا أمينا على تقلبات وتناقضات واقعها المأساوي، فتصير المعادلة بحسب مقولة الروائي إسماعيل غزالي نفسه "لا رواية تستقيم بدون متاهة، ولا متاهة تستقيم بدون قطط".

هذا وقد صدر لغزالي العديد من النصوص القصصية والأعمال الروائية نذكر منها "عسل اللقالق" (2011)، "لعبة مفترق الطرق" (2011)، "موسم صيد الزنجور" (2013)، "ثلاثة أيام في كازابلانكا" (2019)، وأجرت الجزيرة نت معه هذا الحوار..

  • إسماعيل غزالي، ما الذي تعنيه لك جائزة المغرب للكتاب التي فزت بها في صنف الرواية؟

محض تقدير واعتراف بالرواية أولا، ولها أثر خاص بالنظر إليها كأرفع الجوائز الأدبية في المغرب، وبالذات حينما تنالها بالإجماع من طرف لجنة رصينة ونزيهة.

  • هل تعتقد أن مثل هذه الجوائز الأدبية قادرة على تخليص الأدب المغربي من هامشيته وإبرازه كمكون ثقافي مهم داخل الأدب العربي؟

لا يحتاج الأدب المغربي إلى استحداث أو صناعة جوائز كي يكون أو يفرض وجوده عربيا بالأحرى، بل يحتاج أن يكون أدبا مغربيا جيدا لا غير، وهو كذلك في كل الأحوال، ولا أرى أنه هامشي عربيا إطلاقا، بل هو مختلف ونوعي وطليعي.

أما إن كنت ترى الجوائز معيارا لعنفوانه وألقه من عدمه فالعناوين الأدبية المغربية حاضرة بقوة في مجمل القوائم، الطويلة منها والقصيرة، بل بلوغ التتويج أيضا.

في نظري وهذا اعتقادي ما يجب أن نلتفت إليه هو القيمة الجمالية للأدب لأنها وحدها ما يشفع له، وليس صخب الجوائز وزعيقها هنا وهناك، سواء كانت منصفة وهي قلما تفعل، أو غير عادلة وهي أكثر ما تفعل.

قطط مدينة الأرخبيل - إسماعيل غزالي
رواية "قطط مدينة الأرخبيل" تدور في عاصمة القطط السحرية موغادور أو الصويرة (الجزيرة)
  • إلى جانب الرواية كتبت في جنس القصة وصدر لك فيها "عسل اللقالق"، و"لعبة مفترق الطرق"، و"منامات شجرة الفايكنغ"، لكن مؤخرا يشعر القارئ أن إسماعيل غزالي بات هاجسه في الكتابة روائيا، ما الدافع الحقيقي وراء هذا الاختيار؟

على النقيض من ملاحظتك، أنا أزاوج في الكتابة بين القصة القصيرة والرواية، ولا أفاضل بينهما، قطعا لم أتنكر للقصة القصيرة ولا تزال لعبتها الخطيرة تستهويني، فإن رجعت إلى منجزي القصصي فستلقى 6 أعمال قصصية صدرت لي حتى الآن مقابل 5 روايات، وهذا يعني توازنا مطردا للكتابة فيهما معا، فلا هاجس الأولى يعدم الثانية، ولا هاجس هذه يسطو على تلك.

غير أن هذه المزاوجة ليست خاضعة بالمرة لبرنامج مسبق أو مخطط في تدبير العمل بينهما، إنما المسألة تحتكم إلى مزاج الكتابة نفسه.

أكثر من ذلك، لا أخفيك أن العنوان القادم -قيد النشر- سيكون قصصيا، أفشيه لك هنا "ثملا على متن دراجة هوائية".

  • فزت بجائزة المغرب عن روايتك "قطط مدينة الأرخبيل" العمل الذي تحتفي فيه بمدينة الصويرة وقططها، لكنك تصورها بعالم غرائبي رغم واقعية المدينة وسرياليتها في بعض الأحيان، كيف جاء التفكير فيها كتابة؟

غرابة الصويرة (مدينة مغربية مطلة على المحيط الأطلسي) دامغة، وهي من المدن السحرية فعلا، غير أن كتابتي عنها لم يكن مخططا لها مسبقا، إذ وجودي فيها محض مغامرة شخصية، ومن مكافآت هذه المغامرة أن أثمرت رواية "قطط مدينة الأرخبيل"، وكيفما كان تخييل أي رواية فانتازيا أو مفرطا في الانزياح فهو يستند إلى تجربة ذاتية بصورة من الصور.

وهذا حال "قطط مدينة الأرخبيبل" التي كتبتها على غير عادة رواياتي السابقة وأنا قيد الوجود في هذه المدينة الفاتنة واللعينة في آن، فليس دائما يتوجب الخروج من المدن كيما يتحقق شرط الكتابة عنها، بل إن خلق المسافة يمكن أن ننجزه داخل المكان نفسه، ولولا تلك المسافة الأنطولوجية لما كان للعمل أن يكون.

  • لكن، لماذا القطط بالذات؟ وما دلالات ذلك بالنسبة للمدينة وذاكرتها؟

اختيار القطط في الرواية ليس محض اعتباط، إذ مجازيا القطط تتماهى أو تتواطأ مع النساء الأجنبيات اللواتي يستدرجهن بطل الرواية إلى المرسم في منزل "ميرام"، إما عبر كرم المصادفات أو بطرق ماكرة، وأغلبهن يختفين أو يلقين مصائر مميتة، والشبهة تطاله عمليا وتطال شخوصا غرائبية لا تقل عنه دهاء ومأساوية.

وإضافة إلى هذه المتلازمة بين القطط والنساء فإن القطط على أطياف سلالاتها وأشكال تماوجها وتناسلها في "موغادور" لافتة، وتضفي على متاهتها أثرا فانتازيا، إذ تزاحم النوارس في الوجود الفاتن والمريب داخل قلعة المدينة ومع ناسها.

المسألة منذورة للعبة جمالية على نحو أشبه ما يكون بوليسيا أيضا، فالمتاهة والمنحى البوليسي يتطابقان، أو أحدهما يغذي الآخر، فيما الإمساك بخيط الخلاص هنا سديمي، تتواطأ القطط في أن تكونه مرات، ومرات أخرى تضطلع به طيور "عوا".

وكأن كوجيطو (مبدأ) هذه اللعبة الإيهامية يلمع إلى "لا رواية تستقيم بدون متاهة، ولا متاهة تستقيم بدون قطط".

  • يحضر التاريخ في الرواية باعتباره دافعا للتجريب السردي لا كمحرك للأحداث، لذلك تبدو الكتابة الروائية وكأنها تدين هذا التاريخ من خلال رصد واقع يومي مهزوم، إلى أي حد يمكن للنص الروائي أن ينسج وشائج قوية مع ماضي الفضاء وتاريخه؟

يحضر تاريخ المكان بقوة رمزية، لكن ليس كإستراتيجية أحادية، بل يدخل في فسيفساء وتعدد الرواية، إنما المدان هو التاريخ الرسمي الذي يقوض المدينة عبر رواية السلطة، أما ما لم يقله التاريخ الرسمي أو صمت عنه عمدا فهو ما يعني تخييل الكتابة الروائية.

وبالاستناد إلى ذلك فالنص الروائي يراهن على المكان لكي يحرره من وطأة العادي وسطوة المألوف ونمطية فلكلوريته، فيغدو تاريخه الجديد هو ما يرسمه أو يكتبه تخييل الرواية، من خلال ابتكار زمنها الخاص والكشف عن الخرائط اللامرئية، وعبرهما تضيء المناطق المظلمة للواقعي أو تتسلل إلى مناطق غرابته وحلميته، وبذا تتقصى المعنى الآخر المنفلت والكامن خلف غابة الأشياء المبتذلة لليومي.

  • ما التقاطعات الفنية على مستوى الكتابة والتخييل بين "قطط مدينة الأرخبيل" ورواية "ثلاثة أيام في كازابلانكا"؟ وكيف يمكن للروائي استكناه جوهر المدينة وذاكرتها وواقعها من خلال نص روائي جامح؟

استكناه المدن هو كتابتها تخييلا على نحو تصير مدنا مضاعفة، سبق لي أن أفصحت في حوار آنف، إذ برواية "ثلاثة أيام في كازابلانكا" حاولت الخروج عن مدار متخيل "الأطلس المتوسط" الذي راكمت فيه وعنه 6 أعمال قصصية و3 نصوص روائية إلى مدار متخيل جديد وطارئ معني بمدن فاتنة وكابوسية في آن، عشت فيها تجارب صاخبة عبر زخم إقامات متباينة وأسفار متعاقبة على حد سواء، و"قطط مدينة الأرخبيل" تضاعف هذا المنحى المجازف.

إسماعيل غزالي - ثلالثة أيام في كازا بلانكا
تتناول رواية "ثلاثة أيام في كازابلانكا" أحداثا عاشها الكاتب في مدينة وصفها بالمتوحشة وفيها أحداث وشخصيات غريبة (الجزيرة)

ثمة تقاطعات متاهية لها علاقة برسم الخرائط السرية للمدن بشكل دستوبي (مرير)، والمدن الروائية ليست هي نفسها بالضرورة المدن الواقعية، زد على ذلك التعالقات الجمالية والشعرية في الروايتين بين السينما والفن التشكيلي والموسيقى، مع التأكيد على وجود مسافة بين الروايتين، إذ "ثلاثة أيام في كازابلانكا" رغم تعدد أو تشعب موضوعاتها تظل الزنوجة الأفريقية هي هاجسها الأساس.

أضف إلى ذلك رهان تكثيف غابة المدينة المتغولة والداغلة في برهة 3 أيام عبر هندسة حكائية حلزونية تتأرجح بين الذهني والشعري، قائمة على تدبير الوحدات السردية بصريا من خلال استحداث واستعمال تقنية متواليات تفضي الواحدة منها إلى الأخرى عبر تعاقب مصادفات رنين المكالمات الهاتفية أو ألعبان شبكتها الذكية.

أما رواية "قطط مدينة الأرخبيل" فلعبة أخرى ترصد حيوات التشرد المزمنة في مدينة سحرية شبيهة بمصيدة أقدار ساخرة، تتلذذ بتلقف وابتلاع الممسوسين من عابريها، مؤبدة تيههم داخل سراديبها، فتتصادم وتتقاطع مصائر هؤلاء في مسرحها الضبابي على اختلاف وتباين أعراقهم وأمكنتهم ولغاتهم وثقافاتهم، مما يضاعف من حدة غرابتها، فسلسلة اختفاء بعض السائحات على نحو غامض تشيع مناخا مرعبا للجريمة.. إلخ

مختلف نسيج موضوعاتها -الإنسانية والحيوانية- في ما أظن أو أزعم، وكذلك تدبيرها الحكائي والتقني المنزاح إلى منطقة جمالية أخرى، وها أنا أترك أمر اكتشاف فخاخها وتحري دليل اشتباكاتها للقارئ.

المصدر : الجزيرة