الزيتونات العشر.. عندما ينتصر الأسير لذاته بالكتابة

حفل إشهار رواية الأسير ظافر برهم في قلقيلية بالضفة المحتلة (الجزيرة)

نابلس – "تمالكت نفسي من خوف لم أذقه من قبل، توقفت قدماي عن الحراك، وعقلي ونظري لا يرى إلا ذلك الوجه الساحر حتى وجدت نفسي على أحد جبال القرية، الليل والغيوم والقمر تزين سماء القرية وملاكي تزين أرض القرية".

نص عادي، قد يقول أول من يقرأه، وقد يراه آخر شيئا عظيما خاصة إذا ما أبحر في سردية المحتوى، وأيقن أن الكلام ليس مجردا، بل إن حكاية مشوقة تسطَّرت في رواية "الزيتونات العشر" لأسير الفلسطيني دخل عامه الـ 16 في سجون الاحتلال ويقضي حكما مؤبدا و3 سنوات إضافية، وكأنه انتقام لا اعتقال.

في روايته الصادرة حديثا عن دار الياجور للنشر والتوزيع في القدس، يحدثنا الأسير ظافر برهم، وبأسلوب أدبي مفعم بالمزج بين الخيال والواقع، عن أشياء كثيرة استجمع كلماتها التي طافت أكثر من 150 صفحة داخل زنازين العزل وغرف السجون المغلقة بالأصفاد.

واختار الكاتب الأسير أسلوب الحوار في روايته بين شخصياتها وأبرزهم العاشق "هاني" وأمه وأبيه والمعشوقة "سحر" ووالدها "أبو جمال". وأغدق على نصوصها بعضا من اللهجة العامة ونثرا وخواطر، وحضرت القضية الفلسطينية بجوانب مختلفة تظهر الأسير وكأنه يستكمل مهمته بالمقاومة ولكن بشكل آخر.

سياسية مطعَّمة

و"الزيتونات العشر" رواية "سياسية" يصفها كاتبها، لكنها صيغت بقالب غرامي سهل وسلس جعل كل من يقرأها يدرك ذلك وهو يقلب صفحاتها، فهي تعالج "اتفاق أوسلو" و"صفقة القرن" و"التطبيع" فضلا عن مشكلات مجتمعية كالمخدرات، والتي يقف خلفها الاحتلال ويدعمها.

الرواية تأخذ بعدا سياسيا واجتماعيا وصيغت بعض نصوصها بالعامية (الجزيرة)

ثم ينتقل الكاتب ليحكي بعض العادات والتقاليد الفلسطينية والعرف السائد والتعليم داخل السجون وحتى السياحة والمعالم الأثرية الفلسطينية، بما يدحض الرواية الإسرائيلية وافتراءات الاحتلال الذي يسعى لطمس هوية شعب بأكمله وتراثه منذ الكنعانيين وحتى اليوم.

ولم تسقط الرواية موضوعا مهما عنوانه الحركة الأسيرة، بل يذهب الكاتب لتفاصيل أدق في حياة الأسير ومراحل نضاله ضد السجان وانتصاراته وإنجازاته عبر إضرابات مختلفة لتحقيق أبسط متطلباته من أدوات النوم والطبخ والملابس والتلفاز وحتى الطعام والشراب.

"فكما تعلمين" يقول العاشق "هاني" محدثا حبيبته "سحر" إن الحركة الأسيرة مرت بصراعات مع السجان منذ عام 1967 وحتى الآن، وكان عبد القادر أبو الفحم أول شهداء الحركة الأسيرة في سجن عسقلان.

ثم ينقلنا الكاتب لقصة أسير أمي اعتقل وهو لا يعرف القراءة والكتابة، وبسبب بعده عن أهله أصر على التعلم داخل معتقله وراح يكتب خواطر يرثي فيها والدته التي فقدها وهو في الأسر.

وأخرى يتغزل فيها بحبيبته "نور" فيقول "فاتنتي عائد إليك من الحطام، اللاشيء، العدم، من خلف القضبان، ودروب الظلمات، جاهل سر الحياة، تائه كل سبيل، إلاك، لأنك نور".

واقع وخيال

وثمة تساؤلات قد يطرحها القارئ وهو يتعمق بسردية الحوار وما يقدم من حقائق ووقائع، فليس الأمر مجرد نصوص أدبية، كأن يسأل، أيعقل أن من كتب هو أسير؟ فالكاتب يفاجئنا بتداخل طرحه وانتقاله من قضية لأخرى بسلاسة وترابط.

وفي قرية كفر قدوم قرب مدينة قلقيلية شمال الضفة الغربية والتي تمثل جغرافيا الكاتب ومسقط رأسه، تدور أحداث روايته حول واقع وتفاصيل عاشها قبل أسره، وذكره لمدن ومناطق فلسطينية بعينها وشخصيات حقيقية من داخل سجنه وخارجه.

ويشكل الخيال محور الرواية، خاصة وأن الكاتب يستعرض قصة حب -يتقمص بطولتها- تكوِّن إطارها وسياج متنها الذي أبدع الأسير في حبكته وسرد كلماته.

وفي القرية أيضا، أطلقت الرواية بحضور أهلي ورسمي من الشخصيات السياسية والأدبية ممثلة بوزير الثقافة عاطف أبو سيف ووزير الأسرى ومؤسساته وذوي الأسير.

وحتى تلك الزيتونات التي تنسب لها أحداث الرواية ليست عشرا، يقول كاتب الرواية الأسير، في حديث خاص للجزيرة نت، بل كان القصد البقاء والصمود الذي تمثله أشجار الزيتون في إشارة لصمود الشعب الفلسطيني.

رئيس اتحاد الكتاب الفلسطينيين مراد السوادي يكرم والدة الأسير وعائلته خلال حفل إشهار الرواية (الجزيرة)

الكتابة.. انفكاك وانتصار أيضا

وكبقية أدب السجون تسربت "الزيتونات العشر" حرفا حرفا وكلمة كلمة، وهو ما يعده الكاتب برهم صراعا آخر بين الأسير والسجَّان، حيث يسعى الثاني لتفريغ الأول من محتواه، ويصوره وكأنه عالة على مجتمعه ومرفوض من العالم.

ويقول إن الأدب والتعليم "سلاح آخر" يناضل به الأسير من خلف القضبان وداخل الزنازين الضيقة والباردة "ليعيد هيكلة نفسه بنفسه، ويؤكد: إن دخل الأسر عنصرا فسيخرج قائدا".

كما أن حياة الأسير لن تتوقف داخل سجنه مهما طال، ويسعى جاهدا ليثبت أنه لا يعيش في "مقابر الأحياء" وإن كان جسده لا يرى النور فعقله وصوته يصدح في سماء فلسطين.

وكأي أسير يبحث عن نافذة حريته "وجدت نافذتي بالكتابة، ولن أتوقف عنها وخاصة بما يحارب رواية الاحتلال" يضيف الراوي.

وسبق لبرهم أن أطلق روايته الأولى "بسمة مناضل" التي استعرض عبرها سيرته الذاتية ونشأته في شوارع القرية واشتياقه للمشي فيها، وتناول تجربة الاعتقال وما يمر به الأسير داخل أقبية التحقيق. وله مقالات عدة، وبانتظار أن ترى النور قريبا مجموعة قصصية ودراسة علمية عن واقع الأسر.

ومجرد الكتابة "فعل عظيم للأسير" يقول مراد اشتيوي منسق المقاومة الشعبية في كفر قدوم، فكيف بها إذا كانت من أسير وينحدر من قرية مقاومة ككفر قدوم. ويضيف للجزيرة نت "يريد الاحتلال تحويل السجون لمقابر للأحياء، والأسرى جعلوها أمكنة لانبعاث الأمل".

ويتفق رئيس اتحاد الكتاب الفلسطينيين مراد السوداني مع اشتيوي في أن صمود أهالي كفر قدوم جدد الوعي والفعل المقاوم وعزَّز الثقافة الوطنية بما قدمته البلدة من نماذج مشرفة تعبر عن كينونة الفلسطيني المتمسك بأرضه والمدافع عنها.

يقول إن الاحتلال يحاول بأساليبه "القذرة" كسر إرادة الاسرى، ولكنه لم ينل شيئا، كون الزنزانة "مدرسة وطنية متقدمة بفكرها" وهو ما يجعلهم يهتمون كاتحاد كتاب بأدب السجون ذي القيمة الأدبية العالية والوطنية الراقية.

وبزواج الحبيب بمحبوبته يختم الأسير روايته، وفي الأثناء يقف عند تفاصيل دقيقة في هذا الزفاف كالليلة الأولى والأغاني الشعبية.

ويختم بأطفال المستقبل الذين أسماهم: مناضل وتحرير وفلسطين وسلام "التي تصاب بالسرطان" لتأتي حرية الطفلة الأخيرة التي تعيد السرور للعائلة، في إسقاطة واقعية على السلام الذي لم ير الفلسطيني أيا من مقدماته.

المصدر : الجزيرة