شعار قسم مدونات

ترمب وأسطورة مدينة على جبل

BLOGS مدينة علي جبل

في عام 1816؛ كتب شاعر أمريكي مغمور، هو جون بيربونت (John Pierpont)، قصيدة طويلة عنوانها "ألحان من فلسطين"، وهي عبارة عن رحلة خيالية إلى فلسطين، جاء فيها:

 

لا، لا، سأسلك طريقاً أجمل

سأترك اليونان وسحرها، وأقصد فلسطين،

أعشق السير على ضفاف الأردن،

أتوق لغرس قدميّ في تربة الحرمون،

أعشق آلهة الوحي التي ألهمت إشعياء

وفي مغارات الكرمل المقدس آوي إلى السكينة

وأزين مجالس الأصدقاء بوردة شارون الأبدية

 

كتب فؤاد شعبان، في كتابه "من أجل صهيون"، تعليقاً على هذه القصيدة ما يلي: هذه القصيدة هي مثال واحد فقط من محاولات أمريكية مبكرة للتعبير عن ما يمكن اعتباره أولى الأساطير الأساسية في الثقافة الأمريكية وأكثرها رسوخاً واستمراراً ــ تلك هي أسطورة "المدينة على الجبل". وتعبير "المدينة على الجبل" هو تعبير من النصوص المقدسة يقصد منه مدينة القدس [في المخيلة التوراتية أورشليم]، وعلى الأخص القدس الجديدة على تلة "صهيون" التي سوف يحكم منها المسيح مملكته الألفية الأرضية. وهي المدينة التي سينتشر منها نور الهداية الذي سيعم البشرية كلها. هذه المدينة أيضاً كانت تسمى في العديد من الكتابات الأمريكية ــ والغربية بصورة عامة ــ بـ "مدينة الملك العظيم" أي مدينة النبي داود، مما يبين هذا المزج المبكر بين الفكر المسيحي واليهودي في الثقافة الأمريكية.

 

لا شك أن الصورة الشعرية الخيالية التي نراها في قصائد مثل "ألحان من فلسطين" وفي كتابات الأمريكيين منذ ذلك الوقت، تحكى قصة مكوّن أساسي من مكونات طفولة أمريكا الثقافية وهو مفهوم "رؤيا صهيون". 

 

في الأدب اليهودي يكون "صهيون" مرادفاً للوطن اليهودي الذي يشتاق إليه المنفيون على البعد. أما في الأدب المسيحي فإن "صهيون" يصير روحياً في عاصمة مملكة السماء

تعود أسطورة "مدينة على جبل" (City Upon the Hill) التي تأسست عليها الثقافة الأمريكية، إلى منتصف القرن السابع عشر، عندما أخبر جون وينثروب، مجموعة من البروتستانت البيوريتانيين (التطهريين)، الذين كان يقودهم إلى العالم الجديد بأنهم في رحلة "لم يباركها الرب فحسب، بل إنه يشارك فيها". وقال: "إننا سنجد رب إسرائيل بيننا عندما سيتمكن العشرة منا من منازلة ألف من أعدائنا، وعندما سيعطينا مجده وأبهته، وعندما يتوجب علينا أن نجعل من [نيو إنغلاند] مدينة على جبل".

 

يذهب منير العكش، في كتابه "حق التضحية بالآخر: أميركا والإبادات الجماعية"، إلى أنه يجب الربط بين دور نحميا، بطل إحياء "إسرائيل"، وجون وينثروب. وينقل عن كوتون ماذر، سيرة جون وينثروب في كتابه "نحميا الأمريكي "Nehemias Americanus تأسياً بنحميا الأسطوري الذي قاد "الإسرائيليين" في "عودتهم" من سبي بابل إلى أرضهم الموعودة ونظم الكثير من موجات الهجرة من بابل إلى يهوذا، وأشرف على انتشال أورشليم من أنقاضها وأعاد بناءها مدينة على جبل (City Upon A Hill). من المفيد هنا، التأكيد على أن جون وينثروب، قد ردد، قول متى في إنجيله (5: 14): "أَنْتُمْ نُورُ الْعَالَمِ. لاَ يُمْكِنُ أَنْ تُخْفَى مَدِينَةٌ مَوْضُوعَةٌ عَلَى جَبَل".

 

يقول كليفورد لونجلى، في كتابه "الشعب المختار الأسطورة التي شكلت إنجلترا وأمريكا": إن كلمات يسوع التي أشار إليها إنجيل متى هي نفسها تنميط؛ ذلك أن مستمعيه لا بد وأنهم فهموا في الحال أنه كان يلمح إلى جبل "صهيون" الذي بنيت عليه مدينة القدس. وفي الأدب اليهودي يكون "صهيون" مرادفاً للوطن اليهودي الذي يشتاق إليه المنفيون على البعد. أما في الأدب المسيحي فإن "صهيون" يصير روحياً في عاصمة مملكة السماء، وبعبارة أخرى أنه ليس مكاناً حقيقياً على الأرض (إلا عندما يكون هو أمريكا حسبما يري جون وينثروب).  

 

يشير مايكل أورين، في كتابه "القوة والإيمان والخيال أمريكا في الشرق الأوسط منذ عام 1776 حتى الآن": إلى ما قاله ويليام برادفورد (William Bradford)، المحافظ المستقبلي لمستعمرة بليموث، عندما غادر السفينة ماي فلاور (Mayflower ) عام 1620: "دعنا نعلن كلمة الرب في صهيون". كان برادفورد يردد كلمات أرميا، ولم تكن صهيون عنده أرض كنعان الموعودة، ولكن نسختها الحديثة: أمريكا، ولم يكن سكانها هم "بني إسرائيل"  القدامى، ولكن 101 من المسافرين الذين وصلوا مع برادفورد، وهم رفاقه من التطهريين.

 

أما القس صموئيل ويكمان فقال في موعظته الشهيرة على ظهر السفينة أرابلا التي حملت أول مجموعة من البروتستانت البيوريتانيين (التطهريين) إلى خليج ماساشوستس: "أن أورشليم [يقصد القدس العربية] كانت لكن نيو انجلاند [المستعمرة الأولى] هي الموجودة الآن، وأن اليهود كانوا لكنكم أنتم [البروتستانت البيوريتانيين (التطهريين)] شعب الله المختار، وعهد الله معكم. فضعوا اسم نيو انجلاند مكان اسم أورشليم". وعندما وصلت المجموعة الثانية من المستوطنين إلى شاطئ نيو انجلاند على ظهر السفينة (ماي فلاور) عام 1620م، وقعوا فيما بينهم (عهد ماي فلاور) الذي حددا فيه طريقة الحياة التي يرغبونها وأسس المجتمع المثالي في أورشليم الجديدة أو "إسرائيل" الجديدة [أمريكا]… وذلك تمجيداً لاسمه تعالى، وترويجاً للدين المسيحي…".

 

وقال القس صموئيل ويكمان لبعض المجتمعين في كنيسة هارتفورد عام 1685: "القدس كانت ونيو إنجلاند أصبحت، هم كانوا، وأنتم أصبحتم… شعب عهد الله". وقد عبر بيتر فوجلر (Peter Fogler)، جد بنجامين فرانكلين، عن نفس الفكرة بصورة أكثر لباقة عندما قال: "في نيو إنجلاند هم كاليهود، ومتشابهان كأقرب ما يكون". 

 

وقال ليفي بارسونز، وهو يستمع إلى أجراس كلية ميدلبري، معلنة انتهاء حرب عام 1812، إنه يسمع "تأوهات العالم الشرقي، تنطلق نحو عنان السماء، طالبة الخلاص". وأعلن فرحًا أن "صهيون سيزدهر".   

 

الوقاحة ــ التي غلفت بمظهر الجرأة ــ  التي أظهرها ترمب عند إعلانه القدس عاصمة
الوقاحة ــ التي غلفت بمظهر الجرأة ــ  التي أظهرها ترمب عند إعلانه القدس عاصمة "إسرائيل"! كانت دليلاً على تأثره بالأسطورة الأمريكية "مدينة على جبل" (City Upon the Hill) المنحولة من الكتاب المقدس
 

في هذا الصدد، يقول مايكل أورين، وإذا كان "صهيون" يعنى بذلك الأرض الموعودة في أمريكا لقائد الحجاج ويليام برادفورد William Bradford، أما ليفي بارسونز الذي عاش بعد ذلك بقرنين فكان يعني بـ"صهيون "الأرض الأصلية القديمة لـ"إسرائيل"، والتي أصبح اسمها الآن فلسطين؛ وفي حين أنه كان يمكن تحويل ديانة الكثيرين حول العالم، فإن المبشرين آمنوا أن فلسطين فقط هي البلد التي يمكنهم أن يحدثوا أثراً فورياً وعميقاً فيها، فهناك ستمتزج رغبتان معاً؛ تلك التي يتمناها البروتستانت في الاتحاد مع أسلافهم الروحيين ــ أي اليهود ــ والأخرى الرغبة الشديدة في عودة المسيح.

 

فقد شهد القرن التاسع عشر في أمريكا عدة أحداث وحركات دينية جعلت فكرة "مدينة على جبل" (City Upon the Hill) ــ إسرائيل الأمريكية ــ تتحول جغرافياً بالتدريج لتصبح "مدينة على جبل" في فلسطين وفي القدس على الأخص ــ في "أرض الميعاد الكتابية". نتيجة  الاتصال المباشر بــ"أرض الميعاد الكتابية" [فلسطين]، الذي كان عاملاً قوياً في تحويل رؤيا "صهيون" هذه، من الجغرافيا الرمزية إلى الجغرافيا المقدسة، من أمريكا "مدينة على جبل" (City Upon the Hill) في العالم الجديد إلى مدينة القدس الجديدة على جبل صهيون في أرض الميعاد. وبذلك أصبح اليهود عنصراً هاماً في هذه الرؤيا لأنه صاحب الحق في هذه الأرض، مع احتفاظ أمريكا بدورها الحاسم في تحقيق هذه الرؤيا. 

 

استمرت فكرة "مدينة على جبل" (City Upon the Hill) عاملاً هاماً في تفكير الأمريكيين وسلوكهم عبر القرون. من هنا، نجد لزاماً علينا، القول: إن الوقاحة ــ التي غلفت بمظهر الجرأة ــ  التي أظهرها ترمب عند إعلانه القدس عاصمة "إسرائيل"! كانت دليلاً على تأثره بالأسطورة الأمريكية "مدينة على جبل" (City Upon the Hill) المنحولة من الكتاب المقدس، ونتيجة حتمية لــ"ظاهرة لوثة أورشليم المرضية"، المتأثرة بالخطاب التوراتي!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.