لماذا يخرج الأطفال مذهولين غير باكين من أسفل ركام زلزال سوريا وتركيا؟
خلّف الزلزال الذي ضرب تركيا وسوريا منذ أيام عشرات الآلاف من المتوفين حتى الآن، في وقت أبكت ردود أفعال الأطفال الذين تم إنقاذهم الملايين، فإحداهن تحكي أن جميع من معها متوفون وهي الوحيدة الناجية، وأخرى تم إنقاذها مع والدها تطلب الكثير من الكولا، موجهة قبلة جميلة في الهواء ربما هي "قبلة الحياة" كما وصفها وزير الصحة التركي فخر الدين قوجة.
الجزيرة نت حاورت الدكتورة وفاء محمد أبو موسى المتخصصة في الدعم النفسي للكوارث والأزمات والحاصلة على دكتوراه في الدعم النفسي بالسيكودراما، لشرح أهمية الدعم النفسي لهؤلاء الأطفال وتأثير هذه الكارثة على الناجين منها.
-
لماذا نلاحظ خروج الأطفال من تحت الأنقاض وبعد ساعات طويلة من الاحتجاز أسفل الأتربة والصخور مذهولين فاتحين أعينهم ولا يبكون؟
أول أعراض الصدمة النفسية هو اتساع بؤرة العين ووقوف شعر الرأس، ويكون الطفل صامتا مذهولا لا يتكلم، وما نراه ظاهرا على أطفال الزلزال الناجين يعبر عن الصدمة النفسية التي تعرضوا لها بالأساس.
-
هل تختلف أعراض الصدمة النفسية من طفل إلى آخر؟
تختلف أعراض الصدمة النفسية من حدث إلى آخر وحسب ما مر به الطفل بالفعل خلال هذه الصدمة، كما يختلف بناء على شخصية كل طفل وبنيته النفسية التي تتبع للبيئة التي نشأ فيها والظروف التي مر بها خلال وقوع الصدمة.
لذا نجد أن هناك أطفالا تلقوا الصدمة بذهول وفقد للوعي وأطفالا تلقوا الصدمة من خلال الصمت والبكم والتبلد الكامل دون أي رد فعل، أما النوع الثالث فهم الأطفال ممن يصرخون ويبكون ويعبرون عن آلامهم.
لكل نوع من هذه الصدمات طريقة للتعامل معه، لكن جميعها يحتاج فيها الطفل إلى الدعم الفردي والجماعي وإتاحة الفرصة للتعبير عما حدث بشتى الطرق من خلال السيكودراما والرسم أو الكتابة التعبيرية أو الحكي أو غيرها.
-
كيف صبر الأطفال على هذا البلاء؟ لاحظنا هدوء بعضهم وهم يجيبون عن أسئلة المنقذين لهم؟
صبر بعض الأطفال على هذا البلاء هو ناتج عن البنية النفسية والطبيعة الشخصية لهم، فالصدمة تكون أهون على الأطفال الذين حضنهم والداهم أثناء الزلزال أو حموهم من وقوع الأحجار والأتربة عليهم، وبخروج هؤلاء الأطفال من تحت الأنقاض تكون الأعراض لديهم مختلفة عن الأطفال الذين مات والداهم أمامهم أو من كان أبواهم بعيدين عنهم.
كذلك، فإن الأطفال الذين تلقوا رعاية واهتماما وبيئة حاضنة من الأهل يكونون أقدر على تلقي الصدمة وأكثر شجاعة، أما الأطفال أصحاب البنية النفسية الضعيفة فهم يتلقون الأمر بفجع وذهول وعدم تحمل، لأن قدراتهم النفسية غير متينة لمواجهة الصدمة.
-
ما تأثير بقاء بعض الأطفال الناجين بجوار جثث أحبائهم ساعات طويلة قبل الإنقاذ؟
لكل طفل قصة ومشهد صعب عاشه تحت الأنقاض، وقد سُجل في النفس والذاكرة بمؤشرات ووصلات عصبية سوداء ليس من السهل محوها ولا يتم تجاوزها إلا بالدعم النفسي المتخصص.
إن ذلك مؤلم جدا وله أثر نفسي سلبي كبير، وعلى الرغم من تلقي العلاج والدعم النفسي فإنها ستبقى ذكرى مسجلة إلى الأبد في أدمغة هؤلاء الأطفال.
-
لاحظنا تبسم المنقذين في وجه الأطفال ومحاولة مداعبتهم بلطف شديد، كيف يجب التعامل مع الطفل حين العثور عليه؟
تبسم المنقذين للناجين هو ابتسامة حياة ونجاة وإنقاذ روح يتلقاها الأطفال الناجون على أنها ابتسامة تعاطف ودعم وحياة جديدة رغم قسوة ما حدث، وتعد هذه الابتسامة أولى خطوات الدعم النفسي الحقيقي ولها أثر كبير عند استقبال الناجين بفرحة رغم الحزن.
أول شيء يجب منحه لمن يتم إنقاذه من الموت -سواء كان صغيرا أو كبيرا- هو التبسم في وجهه، فهي أولى خطوات الأمان، ثم لفه ببطانية لأنه يخرج من تحت الأنقاض مرتجفا مليئا بالخوف، والشعور بالخوف يحتاج إلى الأمان والاحتضان.
نقدم له نظرات العطف الموزونة التي فيها فرح لإنقاذ حياته والتعاطف الصامت ومنح الطفل الأمان والدعم بعيدا عن الأسئلة وكثرة الكلام، لأنه يكون غير قادر على الإجابة وغير مستوعب لما حدث معه.
بعد ذلك يتم نقله إلى مكان آمن وتفقد أي جروح وأي ألم جسدي، ثم البدء في الاطمئنان عليه وطرح بعض عبارات المساندة مثل "الحمد لله على سلامتك"، "أنت موجود معنا الآن"، "نحن معك".
-
نظرا لصعوبة ما مر به هؤلاء الأطفال هل يمكن أن يفقدوا طفولتهم إلى الأبد؟
الأطفال لن يفقدوا طفولتهم أبدا، لكنهم يتفاعلون مع ما مروا به كل حسب شخصيته وبنيته النفسية، فالبعض واجه الموقف بشجاعة وساعد المنقذين على إيجاده، والبعض تعرض للانهيار.
لكن نظرا لصعوبة الحدث فسيتأثر الجميع على الرغم من اختلاف نفسياتهم ومهما كانت قوتهم، وفي النهاية فإن الدعم النفسي المتخصص قادر على مساعدة وإحياء نفوس هؤلاء الأطفال من جديد على الرغم من الفقد والألم الذي مروا به.
-
بالنسبة للأطفال الذين فقدوا جميع أهلهم ماذا يجب أن نقدم لهم؟
علينا الحذر من وضع هؤلاء الأطفال في الحاضنات الجماعية المعروفة باسم "دور الأيتام"، خصوصا في المراحل الأولى بعد إنقاذ حياتهم، بل يجب تهيئة بيئة آمنة تماما بعيدة عن أي استفزازات أو اعتداءات أو أي نوع من أنواع العنف الممارس.
يجب وضع هؤلاء الأطفال مع عائلات من أقاربهم أو أي عائلة أخرى مهيأة لمساعدتهم، ومن المهم في هذه المرحلة أن يشعر الطفل بالوجود العائلي بعد فقده أهله.
يجب أن يعيش الطفل حياة اعتيادية بمكان آمن لفترة لا تقل عن أسبوعين على الأقل مع وجود متخصصين مجهزين لردود الفعل التي قد تخرج منه خلال هذه الفترة لأنها أهم فترة بعد الصدمة، وخلالها يبدأ الطفل في الاستفاقة من الصدمة وتبدأ الذاكرة في استحضار ما حدث، في هذه البيئة الآمنة المتخصصة يمكن مساعدته على تجاوز الصدمة والكرب الكبير الذي مر به.
أما إذا لاحظنا أن الطفل يتصرف بشكل طبيعي وليس لديه رد فعل فهذا لا يدعو إلى الاطمئنان لأنه يوجد خلف هذه السلوكيات العادية الكثير من ردود الفعل النفسية المكتومة التي يجب مساعدته على التعبير عنها من خلال المتخصصين.
-
إذا سأل هؤلاء الأطفال السؤال الفلسفي الذي يقول "لماذا حل بنا ذلك"؟ ماذا يجب أن نجيبهم؟ هل من الممكن أن يفقد هؤلاء الأطفال إيمانهم؟
عندما يسأل هؤلاء الأطفال هذا النوع من الأسئلة الفلسفية نكتفي بالصمت وتفّهم تساؤلاتهم والتربيت على أكتافهم واحتضانهم، نقول لهم "لكم نصيب أن تكونوا أحياء وأن تكونوا بخير"، مع العلم أن الأطفال القادرين على التجرد وتوجيه هذه الأسئلة غالبا ما يكونون فوق 12 سنة، وهنا يجب أن تكون إجابتنا متعاطفة حتى يستطيعوا تجاوز هذه الأزمة وهذا النوع من التساؤلات.
-
ما نوعية الدعم النفسي الذي يقدم لهؤلاء الأطفال على المديين القصير والبعيد؟
الدعم النفسي يعتبر بمثابة "المضاد الحيوي" لتجاوز الصدمة وحالة الفقد حتى يعود الأطفال إلى حياتهم الاعتيادية، ويوجد نوعان من الدعم النفسي:
الأول: الدعم النفسي الأولي الذي يقدمه المنقذون والمسعفون ومن يستقبل الطفل الناجي من الصدمة، ثم يتم وضعه في مكان آمن حتى يفيق من الصدمة التي تستغرق من 3 أيام إلى أسبوعين حتى يستوعب ما حدث، ويحتاج الطفل إلى التعاطف بشكل رئيسي خلال هذه المرحلة "مرحلة ممارسة الحزن".
والآخر: الدعم النفسي المتخصص الذي يقدم للطفل بعد أسبوعين أو 10 أيام حسب الأعراض وحالته الظاهرة، وهنا يتم التفاعل مع الطفل ومحاولة مساعدته على التعبير عن الصدمة والأزمة من خلال بعض الطرق، وكذلك حثه على وصف ما حدث معه من مشاعر وأفكار متعلقة بالزلزال.
يساعد الدعم المتخصص الطفل أيضا على تخطي ما حدث له من صور الاضطرابات ما بعد الصدمة، مثل فقد القدرة على النوم أو الكلام أو تخطي مرحلة البكاء والصور التي تلح على الذاكرة وفقدان الشهية والتصرف بعنف وغيرها من صور.
-
ما المدة التي يحتاجها هؤلاء الأطفال لتخطي هذه الصدمة؟
تجاوز الأزمة يحتاج إلى وقت طويل، والمتخصصون هم من يحددون ذلك بناء على حالة كل طفل وحسب ما مر به من صدمات، وبشكل عام يكون التجاوز المبدئي من أسبوع إلى أسبوعين، أما تجاوز اضطرابات ما بعد الصدمة فيحتاج إلى عام وأكثر.
عامل الوقت مهم، ويجب أن نعطي الطفل وقته للتجاوب والتأكد من أن ما يحدث معه ليس بإرادته، فهذا عمل للدماغ وليس بيده حيلة.
-
في حال لم تتوفر فرق دعم نفسي كاف لمساعدة هؤلاء الصغار ولم تتم معالجتهم كما يجب ما الذي سيصيبهم في المستقبل؟
إذا لم يتلقَ الأطفال الدعم النفسي فهذا يعني أننا أنقذناهم من الموت الحتمي لندخلهم في مرحلة الموت البطيء.
إن التقصير في تقديم الدعم النفسي للأطفال يعرضهم لأنواع شتى من الاضطرابات، مثل اضطراب الشهية والنوم، إضافة إلى الضعف النفسي الذي يحول حياته إلى جحيم فيصبح شخصا اعتماديا، وقد يصاب الطفل كذلك باضطرابات في الدماغ، مثل التعرض للكوابيس الليلية والتبول اللإرادي أو الاكتئاب أو الوسواس القهري.
خلقنا الله قادرين على تقديم الدعم النفسي الأولي بالفطرة لمن يمرون بالصدمات والأزمات، لذا على الجيران والأصدقاء أن يقدموا هذا النوع من الدعم البسيط الذي يعتمد على التعاطف لنساعد هؤلاء الأطفال على تجاوز الصدمة على الرغم من أن ذلك سيتم بصعوبة ويستغرق وقتا أطول مقارنة بالدعم المتخصص.
-
هل يمكن أن يشفى هؤلاء الأطفال؟
بالطبع، يمكن شفاء هؤلاء الأطفال، فالله لم يمنحهم الحياة الجديدة ليشقوا، وعلى الرغم مما مروا به فإنه لديهم فرصة للحياة ومواصلة التعلم والرعاية الذاتية، ما دار هو ابتلاء ومحنة، وخلف كل محنة منحة لهؤلاء الأطفال.