جيمس باري ومارغريت بولكلي.. أيقونة الطب البريطاني الذي أخفى سر كونه أنثى

في نوفمبر/تشرين الثاني 1809 أبحرت سفينة من لندن متجهة إلى العاصمة الأسكتلندية أدنبرة، وكان على متنها شاب ذو شعر أحمر يسافر مع عمته، وصار لاحقا كبير الجراحين العسكريين في المستشفى الملكي وأول جراح بريطاني يجري عملية ولادة قيصرية ناجحة، كل ذلك دون أن يكتشف أحد أنه أنثى.
بعد دراسة الطب في جامعة أدنبرة، صنع جيمس باري لنفسه مسارا مهنيا مميزا، وترقى إلى منصب المفتش العام للمستشفيات وخدم في جميع أنحاء الإمبراطورية البريطانية، وعرف عنه أنه كان مدافعا عن الرعاية الصحية للسجناء ومرضى الجذام، وكان أيضا مبارزا بارعا.
نشأة فقيرة
بداية تلك الرحلة العلمية المميزة كانت في عام 1789 وولادة مارغريت آن بولكلي في مقاطعة كورك في أيرلندا لعائلة فقيرة. وكان والدها إرميا جيريمايا بولكلي يدير بقالة صغيرة، وأنفق موارد الأسرة على ابنه الأكبر "جون" حتى يتعلم ويتدرب في مكتب محام كبير في دبلن عاصمة أيرلندا.
علقت الأسرة آمالا كبيرة على الابن لانتشالها من الفقر بعد توظيفه، لكن جون استنزف موارد الأسرة كلها في الزواج من فتاة من طبقة أعلى، وترك أسرته غارقة في الديون، وعلى إثرها دخل الأب السجن، وبقيت أمه وشقيقته الوحيدة بمفردهما.

حلم حققه الحظ
لعب الحظ دورا كبيرا في تغيير حياة مارغريت حين تلقت والدتها خبر وفاة شقيقها جيمس باري الرسام والأكاديمي الملكي في لندن عام 1806، تاركا وراءه أموالا للورثة.
انتقلت مارغريت ذات الـ18 عاما حينها ووالدتها إلى لندن، والتقتا بأصدقاء باري، الذين أعجبوا بذكاء الشابة مارغريت واهتمامها اللافت بالتعليم، في وقت منعت فيه النساء من معظم التعليم الرسمي ولم يسمح لهن بممارسة الطب، وفقا لموقع "هيستوري" (History). ومع تأكدهم من شغفها وقدراتها العلمية وضعوا خطة لمارغريت لمتابعة التعليم، وعلى وجه التحديد دراسة الطب، بعد انتحال اسم خالها الراحل.
ولادة جديدة
بعد 3 سنوات، لم تعد مارغريت بولكلي موجودة. وأبحر، بدلا عنها، جيمس باري الجديد مع والدته -التي أصبحت عمته- على متن سفينة متجهة من لندن نحو أدنبرة عاصمة أسكتلندا.
اختار باري بمساعدة أصدقاء خاله التوجه إلى أدنبرة باعتبارها المكان المناسب لأي شخص يرغب في دراسة الطب، حيث كانت الجامعة تعد أرقى كلية طب في المملكة المتحدة وواحدة من أفضل الجامعات في العالم.
بدأ باري حياة جديدة. وطبقا لموقع "ساينس هيستوري" (science history) التحق باري بكلية الطب. وبعد تخرجه واجتياز امتحانات الكلية الملكية للجراحين التحق بالجيش. واستمرت مسيرته المهنية المبهرة لمدة 50 عاما من بريطانيا إلى جنوب أفريقيا ثم منطقة البحر الكاريبي إلى كندا.
محاولات للتخفي
كان باري يحاول التخفي من خلال ارتدائه معطفا في جميع الأوقات بغض النظر عن الطقس، مع أحذية رجالية عالية واستخدام صوت مستعار مميز عالي النبرة.
أثارت بنيته الصغيرة وبشرته الناعمة شكوك الكثيرين، واعتقد بعضهم أنه كان طفلا صغيرا جدا ولم يسمح له بحضور امتحانات الكلية، ولكن تدخل أحد اللوردات الذي كان على صلة بأصدقاء باري الأصلي، فسمح للشاب بمتابعة دراسته والحصول على شهادة الطب في عمر 22 عاما.
التحق بالجيش مساعد جراح، حيث تم التشكيك مرة أخرى في عمره، ولكن سمح له في النهاية بالخدمة.

بدأ باري مسيرته العسكرية في عام 1813 مساعدا في مستشفى للجيش البريطاني، وسرعان ما تمت ترقيته إلى مساعد جراح أركان، ثم خدم في جنوب إفريقيا لمدة 10 سنوات.
كانت مهارات باري الطبية غير مسبوقة، فقد كان جراحا ماهرا. أجرى أول عملية قيصرية ناجحة، حيث نجت الأم والطفل، في وقت كانت فيه الولادات القيصرية تجرى في الغالب لتوليد أطفال أحياء من أمهات متوفيات، أو بشكل مأساوي أكثر لتوليد أطفال متوفين من أمهات متوفيات.
استمر باري في الترقي أثناء سفره حول العالم. وفي عام 1857، وصل إلى رتبة المفتش العام المسؤول عن المستشفيات العسكرية. في ذلك المنصب، تجلت إنسانيته فكافح من أجل الصرف الصحي المناسب في المستعمرات الأفريقية، ودافع أيضا عن طعام أفضل ورعاية طبية مناسبة للسجناء والمصابين بالجذام.
صراع نفسي
ربما نشأ صراع داخلي محتدم بين مارغريت الأنثى وبين باري الطموح، بدا ذلك من خلال سلوكه المزعج أحيانا. ووفقا لصحيفة "غارديان" (The Guardian) كان باري يظهر مزاجا سيئا وأسلوبا خشنا في التعامل مع الناس لصرف النظر عن مظهره الأنثوي وأيضا لإبعاد المعجبات.
فقد اشتهر باري بالصراخ على المرضى، والجدال مع الرؤساء، وإلقاء زجاجات الدواء على الحائط، وتوبيخ العاملين معه الذي وصل أحيانا إلى حد الإهانة، حتى إنه تحدى قائدا في الجيش في مبارزة بعد الاختلاف في الرأي بينهما، لكن لحسن الحظ نجا كلاهما دون إصابة خطيرة.
لم تسلم حتى السلطات من انتقادات باري اللاذعة لسوء إدارة الثكنات والسجون والمصحات، وعلى الجانب الأخر ساوى في التعامل بين الأغنياء والفقراء، والمستعمرين والعبيد على حد سواء.

الكشف عن السر
توفي جيمس باري يوم 25 يوليو/تموز 1865 متأثرا بمرض الزحار، وهو مرض معوي معد، وكانت آخر أمنياته أن يدفن بالملابس التي مات فيها، لكن تلك الرغبة كانت مخالفة للمعتقدات السائدة حينها. وعندما خلعت الممرضة ملابس الطبيب لتحضيره للدفن، اكتشفت أنه أنثى، ومن علامات التمدد على البطن تبين أنها أنجبت مرة واحدة، بحسب صحيفة الغارديان.
انتشر السر وذاع، وفسره كل على هواه. لكن الجميع اتفق على أن مارغريت أو باري كان فلتة طبية وإنسانية كبرى مدفونة في مقبرة "كنسال غرين" شمال غرب لندن.