كما لم تعرفه من قبل.. زوجة الدكتور الشهيد عبد العزيز الرنتيسي تتحدث للجزيرة نت عن سنوات من الحب والمقاومة

الدكتور الشهيد من أنصار المرأة يسعى في إكرامها ويساندها لنيل حقوقها كاملة-رائد موسى-الجزيرة نت
رشا العدلوني: الدكتور الشهيد الرنتيسي كان قائدا إنسانا بقدر شدته مع العدو فهو حنون مع أسرته وشعبه (الجزيرة)

غزة – مثلما كان مميزا بـ"كاريزما" خاصة في حياته، لم يشأ الدكتور عبد العزيز الرنتيسي أن يغادر هذه الحياة بطريقة اعتيادية، فقد كره "الموت العادي"، واختار بنفسه الطريقة التي يفضلها وتخلد ذكراه في العالمين؛ وهي الموت شهيدا بصاروخ من مروحية إسرائيلية.

عندما سأل صحفي أجنبي الدكتور الرنتيسي، قبيل محاولة اغتياله الفاشلة في منتصف عام 2003، هل أنت خائف من الموت؟ لم يتردد بالإجابة "إنه الموت، سواء كان بالأباتشي (مروحية إسرائيلية، أميركية الصنع) أو بالسكتة القلبية، وأنا أفضل الأباتشي".

ونحو 10 شهور مرت على تلك المحاولة الفاشلة التي كانت أحد 4 محاولات اغتيال تعرض لها، قبل أن يرتقي الرنتيسي شهيدا، بالطريقة التي أرادها، إذ استهدفته مروحية إسرائيلية بعدة صواريخ مساء 17 أبريل/نيسان 2004.

وقبيل الدوي الهائل لهذه الصواريخ، الذي اهتزت معه أرجاء مدينة غزة، كان الدكتور الرنتيسي خارجا لتوه من منزله، وهو يردد مقطعا إنشاديا "أن تدخلني ربي الجنة هذا أقصى ما أتمنى". وتقول زوجته رشا العدلوني وتكنى بـ"أم محمد" للجزيرة نت "7 دقائق فقط ووقع الانفجار وشاع خبر اغتيال الدكتور، فتوضأت وصليت العشاء، وارتديت أفضل ملابسي، وكنت أنا من أواسي الناس، وأحمد الله على نعمه وفضله".

بروفايل

ولد الدكتور عبد العزيز الرنتيسي في 23 أكتوبر/تشرين الأول عام 1947 في بلدة يبنا داخل فلسطين المحتلة، وكان طفلا رضيعا عند وقوع النكبة عام 1948، وهو الثاني من بين 7 أشقاء ذكور لأسرته التي اضطرت إلى الهجرة واللجوء لمخيم لاجئين في مدينة خان يونس جنوب قطاع غزة.

التحق الرنتيسي بمدارس وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، وذاق مرارة اليتم بوفاة والده وهو في بداية المرحلة الثانوية، التي أنهاها عام 1965، ليسافر إلى مصر ويلتحق بكلية طب جامعة الإسكندرية، التي تخرج منها عام 1972، وعاد إليها مجددا ونال درجة الماجستير متخصصا بطب الأطفال، وتم تعيينه عام 1976 طبيبا في مستشفى ناصر الحكومي في مدينة خان يونس، التي اكتسب فيها شهرة واسعة كطبيب ماهر، يتقن مهنته ويراعي أحوال الفقراء.

عام 1973 تزوج الرنتيسي من رشا العدلوني وهي من مواليد عام 1955، وتنحدر من أسرة لاجئة من مدينة يافا، وأنجبا 6 أبناء (4 بنات وولدان).

شغل الرنتيسي مواقع عدة في العمل العام، وكان يتمتع بنشاط كبير وأظهر مهارات قيادية رفيعة، فكان عضوا في الهيئة الإدارية لـ "المجمع الإسلامي"، وهي جمعية أسسها الشيخ الشهيد أحمد ياسين في سبعينيات القرن الماضي، وعضوا في الجمعية الطبية العربية (بمثابة نقابة الأطباء في غزة في ذلك الوقت).

وظل الرنتيسي محاضرا في الجامعة الإسلامية في غزة، التي أسسها الشيخ ياسين كذلك عام 1978، حتى تقدمه باستقالته قبيل اغتياله للتفرغ لمهامه التنظيمية قائدا لحركة المقاومة الإسلامية (حماس) في قطاع غزة، خلفا للشيخ أحمد ياسين، الذي اغتالته إسرائيل فجر 22 مارس/آذار 2004.

وشارك الرنتيسي الشيخ ياسين في تأسيس حماس عام 1987، وخاض تجارب متكررة من الاعتقال في السجون الإسرائيلية، ولدى السلطة الفلسطينية، وبرز كناطق باسم المبعدين إلى مرج الزهور في جنوب لبنان عام 1992.

ليس هذا كل شيء عن حياة الرنتيسي الحافلة بالكثير من المحطات والتفاصيل المثيرة، التي ترويها زوجته أم محمد في حوارها الخاص مع "الجزيرة نت" في الذكرى الـ 18 لاغتياله. إليكم هذا الحوار معها:

الدكتور الشهيد كان قائداً إنساناً بقدر شدته مع العدو فهو حنوناً مع أسرته وشعبه -رائد موسى-الجزيرة نت
رشا العدلوني: ذكرى الرنتيسي لن تغيب عني ما حييت، وما زلت أرى النور المشع من وجهه في اللحظات الأخيرة (الجزيرة)

من هو عبد العزيز الرنتيسي الزوج والإنسان؟

يمكن لي أن أصف هذه الشخصية العظيمة بـ"القائد الإنسان"، فكما كان قائدا مناضلا عظيما ضد العدو، فإنه في المقابل كان إنسانا رحيما بارا بأمه، معتنيا بأسرته، واصلا لأرحامه، لا تلهيه الأعباء التنظيمية عن القيام بواجباته الأسرية والاجتماعية، وهو قريب جدا من بناته، يحرص على إكرامهن وتدليلهن قبل زواجهن وبعده، وبما لا يتنافى مع التربية السليمة.

ومعي كزوجة، كان نعم الرجل المسلم الذي يطبق الحديث النبوي الشريف "خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي"، وأشهد الله أنه كان هذا الرجل الخير الكريم، الذي يسعى لتوفير كل سبل الراحة لي ما استطاع، حتى إنه لا يتردد في مساعدتي في الأعباء المنزلية، ويشاركني العمل في المطبخ ويرضى بالموجود من الطعام. لقد كان نصيرا للمرأة، وحريصا على إكرامها وأداء حقوقها.

كما كان شاعر مرهف الإحساس، وله قصائد شعرية في حب الوطن والأبناء، والشعر هو وسيلته داخل المعتقلات للتواصل والتعبير عن مشاعره.

أبو محمد كان ولا يزال "نبراسا" لي، بل إنه قدوتي بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، وما زلت أستمد من ذكراه وذكرياتي معه القوة والعزيمة، سواء كأم لأبنائه، أو في نشاطي التنظيمي والمجتمعي.

وكذلك هو "الطبيب الإنسان"، وله الكثير من الحكايات والمواقف خلال عمله كطبيب، لا يتوانى عن خدمة أبناء شعبه، ولا يغلق بابا في وجه مريض بالليل أو النهار، ويبادر إلى توفير العلاج والدواء بالمجان لمن لا يستطيع.

الكثير من الأعباء والمسؤوليات، فماذا كان الروتين اليومي للدكتور الشهيد؟

وجوده في المنزل عبارة عن "لحظات"، لكنها كانت مليئة بالحب والحنان، يحرص على إظهار كل الاهتمام لنا كأسرة، يسأل ويتابع ويطمئن، فكان يومه يبدأ عند الساعة 8 صباحا، ويعود مع ساعات الفجر الأولى، متنقلاً على مدار اليوم بين محاضراته في الجامعة الإسلامية، ولقاءات تنظيمية ومقابلات صحفية، ونادرا ما يتناول معنا طعام الغذاء، ولا يغلق هاتفا ولا يرفض لأحد طلبا، ويعقد الندوات في المساجد للنساء من العصر حتى المغرب، وأخرى للرجال من المغرب حتى العشاء، إضافة إلى التزاماته العائلية والاجتماعية ومشاركته في المناسبات السعيدة والحزينة.

لقد كان "كتلة نشاط"، ويحرص على متابعة المرابطين على الحدود، وبعد كل هذه الأعباء خلال النهار، لم يكن يترك صلاة قيام الليل، فقد كان حافظا لكتاب الله، الذي أتم حفظه داخل معتقلات العدو.

تجارب اعتقالية كثيرة للدكتور الرنتيسي، كيف أثرت عليكم كأسرة؟

كانت أول هذه التجارب لفترة قصيرة عام 1983 عندما رفض دفع الضريبة لسلطات الاحتلال، وفي مطلع العام 1988 قضى 21 يوما في السجن بعد مشاركته في تأسيس حركة حماس، قبل أن تعاود سلطات الاحتلال اعتقاله أواخر العام نفسه ليقضي نحو عامين ونصف العام بتهمة المشاركة في فعاليات الانتفاضة الأولى (1987-1993)، وبعد شهور قليلة من إطلاق سراحه في سبتمبر/أيلول عام 1990، اعتقل مجددا لنحو عام.

قضى الدكتور الشهيد أكثر من 8 سنوات من حياته داخل سجون الاحتلال، وكان واحدا من أبرز المبعدين إلى جنوب لبنان عام 1992، ورابطوا في منطقة مرج الزهور، رفضا لقرار الإبعاد، وتكفل بمهمة الناطق باسم المبعدين، حتى نجحوا بالعزيمة والإصرار بإرغام دولة الاحتلال على إعادتهم، وقد حولته للاعتقال فورا، وقضى في السجون حتى تحرره عام 1997.

هذه التجارب المريرة لم تكن سهلة عليّ كزوجة، ولكن إيماني بالله أولا، وبالطريق التي يسلكها أبو محمد، وبأنها طريق الحق، ساعدني على أداء دوري في المنزل، وأن أبذل أقصى جهد كي لا يتأثر أبنائي بغياب والدهم الطويل والمتكرر، وكنت أرى نفسي "مجاهدة" في المنزل.

تنشط أم محمد الرنتيسي في مهام تنظيمية ومجتمعية وتعد لنيل درجة الدكتوراة-رائد موسى-الجزيرة نت
أم محمد الرنتيسي تنشط في مهام تنظيمية ومجتمعية وتستعد لنيل درجة الدكتوراه (الجزيرة)

إلى جانب دورك الأسري هل كان لك مهام تنظيمية في ذلك الوقت؟

كان لديّ فهم كبير في مرحلة مبكرة بنهج جماعة الإخوان المسلمين التي انتمى لها أبو محمد في أثناء دراسته الماجستير في مصر، غير أن التحاقي بالتنظيم كان عام 1990، ونشطت في مؤسسات نسوية تابعة للتنظيم، ولقربي من الدكتور الرنتيسي كزوجة استفدت كثيرا من تجاربه وخبراته، وتفانيه في العمل، وهذا شجعني على استثمار وقتي، فالتحقت بكلية أصول الدين بالجامعة الإسلامية عام 1999، وحصلت بعد البكالوريوس على شهادة الماجستير، وأعد حاليا دراسة لنيل الدكتوراه.

بالعودة إلى تجارب المعتقلات، كيف كان وقع الاعتقال السياسي عليكم؟

ذاق الدكتور أبو محمد مرارة الاعتقال السياسي في سجون السلطة الفلسطينية 3 مرات ما بين عامي 1998 و2000، وكانت أولاها بعد شهور قليلة من خروجه من سجون الاحتلال، وقضى خلالها في سجون السلطة حوالي عام ونصف العام، ثم تكرر الأمر، حتى قرر في آخر اعتقال له خوض إضراب مفتوح عن الطعام، وتحرر بعد تعرض مقار أمنية في غزة للقصف عقب اندلاع انتفاضة الأقصى في سبتمبر/أيلول عام 2000.

وكان للدكتور موقف يسجل له، أنهى به الاعتقال السياسي للأبد، عندما اتخذ قرارا بالمواجهة، ورفض تسليم نفسه، خلال محاولة قوة أمنية تابعة للسلطة اعتقاله عام 2002، وأطلقت النار نحو المنزل، وقد سانده الجيران وتجمهروا حول المنزل، وفشلت المحاولة.

هذه التجارب كيف أثرت بالدكتور الشهيد تجاه قضية الأسرى؟

للدكتور الرنتيسي قول يردده باستمرار "لن يهدأ لي بال حتى يتحرر آخر أسير من سجون الاحتلال"، وهو من أشد المؤمنين بعمليات خطف جنود الاحتلال والداعمين لها من أجل مبادلتهم بأسرانا في السجون، ولكي يذكر نفسه دوما بقضية الأسرى ومعاناتهم، كان لديه "ألبوم صور" لأسرى، رافقوه فترات الاعتقال، يحرص على رؤيته باستمرار.

ولإيمانه بهذه القضية الإنسانية العادلة، شاء القدر أن يربطه بهم إلى الأبد، فكان استشهاده في "يوم الأسير الفلسطيني"، الذي يصادف 17 أبريل/نيسان.

ذكراه لن تغيب عني ما حييت، وما زلت أرى النور المشع من وجهه في اللحظات الأخيرة قبل اغتياله، وهو ينشد "أن تدخلني ربي الجنة هذا أقصى ما أتمنى"، وقد صدق الله فصدقه، وعمل كل شيء من أجل هذه الغاية، حتى إنه تبرع للمقاومة بجزء من مدخراته بعد استقالته من عمله بالجامعة الإسلامية للتفرغ لقيادة الحركة، وأبقى على جزء لسداد ديونه من زواج ابننا محمد، وجزء آخر لزواج ابننا أحمد، وقال حينها "هكذا أخرج من الدنيا لا لي ولا علي". وما أتمناه حقا أن يجمعني الله به في الجنة.

 

المصدر : الجزيرة

إعلان