وفاة أنيسة حسونة.. قصة محاربة ملهمة في 3 جولات مع السرطان
رغم النجاحات، لم تكن تعرف أنيسة حسونة أنها على موعد مع ضيف ثقيل لا يرغب أحد في استقباله، إنه السرطان الذي يسلب البهجة.

بدون سابق إنذار، تمكن السرطان من الكاتبة والباحثة السياسية أنيسة حسونة، النائبة السابقة بمجلس النواب المصري، وأعلن انتصاره في جولته الثالثة معها، وانتهت جولاتهما على حلبة الصراع بوفاة سيدة نجحت رغم آلامها على مدى 7 سنوات أن تنشر الأمل لكل محاربين السرطان والنساء بصورة خاصة.
توفيت صباح اليوم الأحد أنيسة حسونة عن عمر 69 عاما، قضت خلال سنواته الأخيرة معركة شرسة ضد السرطان، لم تكن خلالها محاربة تواجه مرضا خفيا يتسلل في جسدها بصور متلونة، بل كانت قائدة تلهم الأخريات وتمنحهن سلاح الأمل حتى يتمكنّ من المواجهة.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsتغييرات في جسمك قد تنبئك بالإصابة بمرض السرطان
ميراث المرض والخوف.. كيف تنجو المرأة من سرطان الثدي العائلي؟
الموت حزنا.. هذا ما تفعله متلازمة القلب المكسور بأرواحنا
لم تخف ابتسامتها الدائمة مشاعر الخوف من الموت وانتظاره، كانت تدرك جيدا أنها في رحلة نهايتها الموت، كانت فقط تحاول أن تسابق الزمن في الوصول إلى القلوب المكلومة التي أصيبت بمرض السرطان، لتخبرهم أن الحياة رغم صخبها، تستحق أن تولي لها اهتماما بتفاصيلها الصغيرة، التي قد تتمثل في الاستمتاع بالنظر في وجه الأبناء والأحفاد، ولقاء الأصدقاء، وبعض الأعمال الإنسانية، وفنجان قهوة يذكرنا أن للدنيا مذاقا مبهجا رغم مرارتها.
من أنيسة حسونة؟
تعرف المصريون على أنيسة حسونة قبل سنوات ككاتبة وباحثة سياسية، تظهر في عدد من اللقاءات التلفزيونية متحدثة عن مشكلات المرأة المصرية، مدافعة عن الكوتة النسائية في البرلمان، وحقوق البسطاء، ولها العديد من المقالات التي تناولت الوضع السياسي والاجتماعي في مصر، وضرورة قبول الرأي الآخر حتى لا تصبح المعارضة كلمة سيئة السمعة.
أنيسة حسونة هي ابنة المستشار عصام حسونة، وزير العدل في عهد الرئيس السابق جمال عبد الناصر في حقبة الستينيات من القرن الماضي، لم يكن غريبا أن تنشأ أنيسة محاربة تدرك جيدا أن المعارك الإنسانية تحتاج إلى شجاعة خالية من التردد، فوالدها هو من أصدر قراره بإلغاء تنفيذ أحكام الطاعة جبرا بقوة الشرطة ضمن تغييرات بقانون الأحول الشخصية في فبراير/شباط 1967، حيث أكد في مذكراته "لم يكن عقلي يقبل أن ينسب هذا الحكم لأحكام الدين".
أنيسة كفتاة تخرجت في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، كان لها تاريخ ثري في الحقل السياسي الدولي، إذ بدأت عملها كملحق دبلوماسي بوزارة الخارجية المصرية، ثم عملت لمدة 14 عاما في مجلس الوحدة الاقتصادية العربية – جامعة الدول العربية.
ثم شغلت منصب مدير عام "منتدى مصر الاقتصادي الدولي"، ثم ببنك مصر إيران للتنمية مساعدة المدير العام، لتعمل بعد ذلك مديرة عامة لمنتدى مصر الاقتصادي الدولي.
وعملت أيضا محاضرة في المعهد الدبلوماسي في وزارة الخارجية المصري.
كما شغلت العديد من المناصب منها منصب أمين صندوق المجلس الاستشاري لمؤسسة "آيديا" (IDEA) الدولية لمنطقة غرب آسيا وشمال أفريقيا حول التحول الديمقراطي.
وكانت عضوا في العديد من الهيئات الاستشارية للفكر والحريات والمرأة في مصر والوطن العربي والعالم، فهي مؤسسة لـ"نساء من أجل السلام عبر العالم" في سويسرا، ورئيسة مجلس أمناء "مؤسسة مصر المتنورة" التي تعمل على دعم قيم المواطنة وحرية التعبير وحقوق المرأة.
وكانت أول امرأة تنتخب أمينا عاما للمجلس المصري للشؤون الخارجية، وقد تم اختيارها من قبل مجلة "أرابيان بيزنس" في 2014 على قائمتها السنوية لأقوى 100 امرأة عربية على مستوى العالم، وذلك عن مجال المجتمع والثقافة.
وقبل سنوات قليلة أعلنت عن تأسيس مستشفى الناس لعلاج الأطفال بالمجان.

شجرة الربيع المزهرة
عند قراءة المناصب الرفيعة والقيادية التي تتقلدها الشخصيات العامة، ربما تمر مرورا كريما عليها، باعتبار أن أصحابها أقوياء بما يكفي لتحقيق المهام المنوط بهم إنجازها، بحكم الخبرة والرؤى والأهداف، ولا تعرف ما يدور في كواليس حياتهم.
لكن أنيسة حسونة لم تكن مجرد باحثة سياسية وكاتبة ومدافعة عن حقوق المرأة، تظهر في اللقاءات التلفزيونية تلقي اللوم على المجتمع والبسطاء، بل كانت كشجر الربيع التي تنشر ألوان الورود في الأجواء وتبعث البهجة ورسائل الأمل بأن كل المحن ستزول إذا تحلينا بالإيمان.
في عام 2013، من بين المشاهير والنجوم الذين تطوعوا بالمشاركة في إعلانات التبرع لمستشفى الدكتور مجدي يعقوب لعلاج أمراض القلب، لفتت أنيسة الأنظار بصوتها الهادئ وابتسامتها الحالمة وإيمانها بقدرة المصريين على العطاء لإنقاذ قلوب الصغار، فتساءل المشاهدون من هي أنيسة حسونة؟
شغلت أنيسة المديرة التنفيذية لمركز جراحة القلب بأسوان، ورغم دورها الإداري وشخصيتها الصلبة، كان صوت الأم هو من يتحدث حينها، داعيا المشاهدين للتبرع لعلاج قلوب الأطفال، فخطفت القلوب بكلمات مؤثرة، حتى أصبحت أيقونة أساسية في الترويج وتمويل هذا الصرح الطبي الفريد الذي يخدم دول العالم العربي ومنطقة الشرق الأوسط.
تحولات عنيفة "بدون سابق إنذار"
لم تكن تعرف أنيسة أنها على موعد مع ضيف ثقيل لا يرغب أحد في استقباله، إنه السرطان الذي يسلب البهجة من حياة ضحاياه ومحبيهم، فقد كان السرطان يمهد لها طريقا غير معبد مليء بالصدمات والآلام، لكن كان للأقدار عطايا أخرى تزيل الأشواك من طريقها.
بعد سنوات التأسيس، تعرضت أنيسة حسونة إلى صدمة نفسية وصفتها في أكثر من لقاء تلفزيوني بأنها طعنة في القلب، حين تم إقالتها من منصبها في مؤسسة مجدي يعقوب، رغم محاولتها الاستمرار في دورها الإنساني بالمستشفى.
لا يبدو أن هذه المرحلة في حياتها كانت مجرد كبوة، بل أزمة عنيفة هزت أوتادها، لا سيما حين علمت أنها مصابة بالسرطان.
أصرت أنيسة الحريصة للغاية على إجراء الفحوصات الطبية الدورية بانتظام، أن شعورها بالقهر كان أحد العوامل التي تسببت في إصابتها بالسرطان، وأكدت في أكثر من مقابلة أن الأطباء أيدوا رأيها بصورة ما، مؤكدين أن الحزن الشديد لا يترك فريسته من دون جروح نفسية وجسدية عميقة. وها هو السرطان يعلن عن وجوده في جسدها، وبكل شراسة يرسي قواعده.
شريف والبنات
وقف الشريط في وضع ثابت
دلوقت نقدر نفحص المنظر
مفيش ولا تفصيلة غابت
وكل شيء بيقول وبيعبر
من غير كلام ولا صوت
ربما كانت كلمات الشاعر صلاح جاهين هي الأكثر تعبيرا عن تلك الدقائق التي مرت بها أنيسة حسونة حين أبلغها الطبيب بجمود أنها مصابة بالسرطان، رغم محاولات أسرتها إخفاء الخبر عنها لحين التأكد من نتائج التحاليل.
في لحظات ثقيلة تسحب الهواء من حولك، وتلقي بجبال من الأحمال الخفية التي تشعرك بالعجز أمام ثقلها البغيض، حاولت أنيسة أن تجد في الإنكار مفرا من العدو الصامت الذي يخبرها الأطباء أنه احتل جسدها من دون استئذان، معلنا عن رغبته في بدء مهمته الأزلية في التدمير، تساقطت الأسئلة على رأسها كالأمطار لماذا أنا؟ ليس اعتراضا على الأقدار، وإنما محاسبة للنفس التي لا تعرف هل هو ابتلاء أم عقاب على خطأ ما؟ حسنا، سأتجاوز الأمر، فأبلغها الطبيب أن ما تبقى من الحياة هو 5 سنوات ربما أقل.
لم يترك الزوج شريف ناجي تلك الأفكار المبعثرة أن تشتت أهدافه في إنقاذ زوجته الحبيبة، لم يكن هناك وقت للبكاء، وإن فرض نفسه عليها في كل الليالي الحزينة، حين ظلت تفكر في المتع العذبة التي ستحرم منها إن انتصر عليها السرطان، وأهمها "شريف والبنات والأحفاد".
تقول أنيسة حسونة حول تجربتها مع السرطان إنها قررت المواجهة لآخر نفس لأنها لم تشبع بعد من ابنتيها وأحفادها، وأن هذه الحياة تستحق أن تقاتل فيها من أجل حضن أخير من أحبابها.
لا تأمن لعدوك، فلا أرض صلبة مع السرطان، دائما يقف المريض على سطح أملس رخو، قد يهوي به في أيام أو سنوات، ومحظوظ هو من يهزمه مرة بعد أخرى.
إن لم يكن هناك مفر من المواجهة، فينبغي مراجعة الأولويات، والبحث عن السند في دائرة الأحباء المحدودة للغاية. فكان الزوج شريف ناجي والابنتان سلمى ومها هم الوجوه التي تبحث فيها أنيسة أن رسائل الطمأنة والأمان.
آلام الجسد والروح
بعد جراحة حرجة أجرتها أنيسة استمرت 12 ساعة، استأصلت خلالها الرحم والمبايض وقناتي فالوب وأجزاء من المعدة والأمعاء وبعض البؤر السرطانية، بدأت تجربة الألم، لم تكن تتخيل أن تصرخ السيدة الصبورة كل هذا الصراخ لأيام طويلة. لحقتها بمراحل العلاج الكيميائي، الذي أفقدها قواها، فسقطت للمرة الأولى، وهي التي ظنت أنها أقوى من الانهيار، تلك اللحظة التي علمت أن ذلك العلاج الذي سيساعدها في التخلص من السرطان سينال من قوتها أيضا.
بعد التعافي من تجربة السرطان الأولى، قررت أنيسة حسونة كتابة تجربتها لبث الأمل في نفوس محاربين السرطان، وربما لتذكر نفسها في كل مرة أنها حققت إنجازا يستحق أن تفخر به، رغم رسائل الطبيب الواضحة أنها ستموت خلال 5 أعوام.
ابتسامة أنيسة لازمتها منذ 2015 وحتى النهاية، لكن مشاعرها الرقيقة كانت تغلبها في صورة دموع وهي تحكي أن السرطان لم يستسلم فباغتها مرة ثانية، لتعلن بشجاعة أنها ستواجه ولن ترفع الراية البيضاء.
في رحمة الله و أمانه .. الإنسانية التامة مناضلة الخير و جبر خواطر الناس د. أنيسة حسونة.
— عمر طاهر (@omertaher) March 13, 2022
حزين لخبر وفاة د. أنيسة حسونة، كانت من أجمل الناس اللي قابلتها في حياتي، التعازي لكل أقاربها ومحبيها. pic.twitter.com/cktGfRMCx3
— Amr Salama (@amrmsalama) March 13, 2022
لكن رغم الإرادة الفولاذية لأنيسة حسونة الملقبة بسفيرة القلوب، إلا أن القدر كتب الكلمة الأخيرة، فلم يعد في هذا القلب مكانا لمزيد من الألم، خاصة بعد الجولة الثالثة التي كشر فيها السرطان عن أنيابه رافضا الهزائم السابقة في الجولتين السابقتين.
تقول أنيسة حسونة إنها كانت تشاهد فيلما عربيا قديما للفنانة فاتن حمامة حول سيدة أخبرها الأطباء أنها ستموت في الربيع، فظلت أنيسة تنظر إلى شجرة أمام منزلها تحدثها هل سأعيش إلى الربيع القادم عندما تتفتح أزهارك أم ستتساقط أوراقي؟
الموت كان حاضرا في كل الأحوال، فاستسلمت بهدوء سيدة بثت الأمل في القلوب لسنوات طويلة، واجهت السرطان بالحب والإيمان.
وحتى وإن انتزع منها حياتها، فلم يحرمها من التمتع بهدايا السماء التي تمثلت في دعم ودعوات كل من عرفها أو شاهدها يوما.
لمًا بلدك تطبطب علي كتفك وتقولك شكرا علي مجهوداتك ، حتطلب إيه أكثر من كده ؟ يشرفني ويسعدني إخباركم أنه قد تم تكريمي اليوم من السيدة إنتصار السيسي حرم الرئيس بوصفي الرئيس التنفيذي لمستشفي الناس للأطفال
ربنا دائما في أحلك الظروف وأصعب الأوقات يبعث للمرء هداياالسماء لتضيء له الطريق pic.twitter.com/SeCvEM6usw— Anissa Hassouna (@AnissaHassouna) March 8, 2022
توفيت اليوم أنيسة حسونة، شجرة الربيع المزهرة، وتركت في تجربتها التي دونتها في كتاب "بدون سابق إنذار.. قصتي مع السرطان"، مواقف مفعمة بالأمل والمحبة وإعادة الحسابات. في رسالة مفادها خلال الصراع مع الابتلاءات، لدينا دائما مساحة تضم من نحبهم، فلا تنشغل عن أولوياتك.