أطفال تُركوا للأرصفة والطرقات.. تحديات الإنجاب والتربية في مناطق سيطرة النظام السوري

أكثر من نصف مليون طفل سوري دون سن الخامسة يعانون من التقزم نتيجة سوء التغذية المزمن، في حين يحتاج 90% من الأطفال إلى المساعدة الإنسانية الفورية الغذائية والصحية. 

أطفال سوريون يقفون أمام منزلهم في مدينة القامشلي الخاضعة للسيطرة المشتركة بين النظام السوري والسلطات الكردية (الفرنسية)

شمال سوريا – تعدد الأزمات المعيشية والاقتصادية والخدمية في مناطق سيطرة النظام في سوريا وتراكمها وتفاقمها في الأعوام العشرة الماضية كلها عوامل جعلت تربية الأطفال ورعايتهم وتأمين الحد الأدنى من مستلزماتهم تحديا حقيقيا ومستمرا تعجز آلاف الأسر السورية عن مجاراته. 

فما أبرز تلك التحديات والصعوبات التي تواجهها الأسر السورية في تربية أطفالها ورعايتهم في مناطق سيطرة النظام؟ وما الحلول التي تلجأ إليها للحد من آثار تلك الأزمات؟ وما واقع الطفولة والأطفال في تلك المناطق بعد 10 أعوام على بداية الحرب؟

مأساة الإنجاب والتربية

وقفت نهى (43 عامًا)، نازحة إلى ريف دمشق، حاملةً ابنتها وفاء ذات العام والنصف 5 ساعات في البرد القارس حتى تمكنت من الدخول أخيرًا إلى مستوصف تابع لمنظمة الهلال الأحمر في ريف دمشق، حيث عاين الطبيب ابنتها وشخص مرضها على أنه التهاب حاد في القصبات.

تقول نهى للجزيرة نت "وقفت في البرد كل تلك الساعات لأوفر 10 آلاف ليرة (2.6 دولار) كلفة المعاينة الطبية في أي عيادة خاصة، فيكفيني أني دفعت 12 ألفًا (3.3 دولارات) ثمنًا للأدوية".

وحسب نهى، تحتاج وفاء شهريًّا إلى 6 عبوات حليب أطفال، ثمن العلبة الواحدة يبلغ 12 ألف ليرة (3.3 دولارات)، فضلا عن 6 إلى 7 أكياس فوط أطفال سعر الواحد منها 8 آلاف ليرة (2.2 دولار)، في حين تعاني الفتاة من نقص في فيتاميني "سي" (C) و"بي" (B) اللذين تعوضهما بشرب الفيتامينات التي يبلغ سعر العلبة الواحدة منها 7 آلاف ليرة (2 دولار تقريبًا).

وعن تكلفة احتياجات وفاء الشهرية، تحكي نهى "نحتاج شهريا إلى 200 ألف ليرة حتى 250 (70 دولارا) لتغطية احتياجات وفاء من الحليب والفوط والفيتامينات فقط، كما تحتاج إلى مصاريف جانبية، مثل أغذية معينة وألبسة شتوية وأدوية ومعاينات طبية لا يمكن التكهن بها".

يعمل والد وفاء في تصليح الكهربائيات في محل متواضع في حي كشكول بريف دمشق، ويتقاضى 150 ألف ليرة (40 دولارا) راتبا شهريا، أما نُهى فتعمل في تجهيز الخضراوات للمحال (فرم بقدونس، حفر كوسا) ويراوح مدخولها من 100 إلى 200 ألف ليرة (27-54 دولارا) حسب الطلب على منتوجاتها، في حين تضطر العائلة إلى استئجار شقة بلغ بدل إيجارها الشهري مطلع العام 170 ألف ليرة (47 دولارا).

تقول نهى "نضطر شهريا إلى الاستدانة من أهل محمد (والد وفاء) ما ينقصنا من مال لبقية الشهر، وعندما لا يتوفر معهم المال نلجأ إلى الاستدانة من أصحاب عملنا، ولقد بلغ ديننا مبلغًا لا أعتقد أن بإمكاننا سداده ما لم تتحسن الظروف".

ويفكر محمد جديًّا في العودة وعائلته إلى منزله شبه المدمر في مدينة المليحة بغوطة دمشق، الذي لا تصله الكهرباء ويبعد نصف ساعة مشيًا على الأقدام عن أقرب سوق، في سعيه لتوفير بدل إيجار الشقة للحد من الديون التي أثقلت كاهله.

وتخلت عائلات سورية في حمص وحماة وحلب واللاذقية عن أطفالها الرضع منذ بداية العام، جراء تردي الأوضاع المعيشية وصعوبة تأمين الحد الأدنى من احتياجات أبنائها في ظل موجة غلاء غير مسبوقة في أسعار المواد الغذائية والاستهلاكية في مناطق سيطرة النظام بما في ذلك حليب الأطفال وفوط الأطفال والأدوية.

وحسب تقرير لمنظمة اليونيسيف، فإن أكثر من نصف مليون طفل سوري دون سن الخامسة يعانون من التقزم نتيجة سوء التغذية المزمن، في حين يحتاج 90% من الأطفال إلى المساعدة الإنسانية الفورية الغذائية والصحية.

أطفال سوريون يركبون حمارا ويعملون لكسب قوت يومهم (الفرنسية)

تحديات أخرى

إلى جانب التحديات التي تعيشها العائلات السورية في تربية أطفالها الرضع، ثمة تحديات أخرى تواجهها في رعاية وتربية أبنائها الذين هم في سن الدراسة؛ حيث شهدت أسعار المستلزمات المدرسية من قرطاسية وزي مدرسي ارتفاعًا كبيرًا راوح بين 50%-70% تزامنًا مع بداية العام الدراسي 2021-2022 في مناطق سيطرة النظام، وهو ما شكل ضغطًا إضافيًّا على العائلات.

يقول أبو عدي (53 عامًا)، موظف في القطاع العام ورب أسرة مكونة من 5 أطفال وأمهم، للجزيرة نت "لدي 5 أولاد، جميعهم في الابتدائية عدا واحدًا في الثانوية، واضطرت زوجتي إلى بيع جوالها الخليوي مع افتتاح المدارس لتغطية نفقات الأولاد التي بلغت بمجملها 900 ألف ليرة (250 دولارا)".

ويضيف "احتاج عدي (أكبر الأبناء سنًّا) إلى شنطة (حقيبة ظهر) وبدلة مدرسية جديدة مع انتقاله إلى مرحلة الثانوية، إضافة إلى 7 دفاتر، في حين كانت كل من هلا وصفاء بحاجة إلى مراييل جديدة (الزي المدرسي الرسمي) إضافة إلى قرطاسية كاملة، واشتريت لمازن (6 أعوام) مريولًا وقرطاسية وشنطة وأقلام تلوين ودفتر رسم ودفتر موسيقى بمناسبة دخوله إلى المدرسة، كما اشترينا 3 معاطف شتوية للفتيات بلغ ثمن الواحد منها 65 ألف ليرة (18 دولارا)".

وشهدت أسعار المستلزمات المدرسية من قرطاسية وألبسة على وجه الخصوص ارتفاعًا كبيرًا بنسبة راوحت بين 50%-70% تزامنًا مع بداية العام الدراسي 2021-2022، وراوح سعر الحقيبة المدرسية حسب الحجم والجودة بين 30-100 ألف ليرة (8-27 دولارا)، أما سعر المريول الخاص بمرحلة التعليم الابتدائية فبين 15 و40 ألف ليرة حسب الفئة العمرية والجودة، في حين بلغ سعر البدلة المدرسية ذات النوعية الجيدة لطلاب المرحلتين المتوسطة والثانوية 90 ألف ليرة (25 دولارا) مع قميصها.

وتضاعفت أسعار القرطاسية مرات عدة، فبلغ سعر الدفتر ذي الـ100 ورقة 2500 ليرة، أما الدفتر ذي الـ200 ورقة فوصل إلى 4500 ليرة، في حين راوحت أسعار الأقلام بين 1500 ليرة و3 آلاف.

وعن محنة بداية العام الدراسي، يحدثنا أبو عدي "بداية كل موسم دراسي نضطر إلى بيع غرض من أغراض المنزل، فلا يمكن لنا من راتبي (115 ألف ليرة) وراتب زوجتي (118 ألف ليرة) أن نغطي هذه التكاليف وأن نجاري ارتفاع الأسعار في البلاد، ولا يبقى لنا أن نقول إلا حسبنا الله ونعم الوكيل على ما وصلنا إليه".

وحسب أحدث بيان لبرنامج الأغذية العالمي، فإن نحو 12.4 مليون سوري (ما يقرب من 60% من السكان) يعانون من انعدام الأمن الغذائي ولا يعرفون من أين ستأتي وجباتهم التالية.

وقدر وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية، مارتن غريفيث، في نهاية العام الماضي أعداد السوريين الذين يعيشون تحت خط الفقر بأكثر من 90% من إجمالي عدد سكان البلاد، وأشار إلى أن كثيرا منهم يضطر إلى اتخاذ خيارات صعبة للغاية لتغطية نفقاتهم.

صورة لفتاة بعمر أطفال المدارس تعمل في وضح النهار في دمشق (الجزيرة)

التسرب المدرسي وعمالة الأطفال

وفي الوقت الذي يتمكن فيه أبو عدي من توفير المبلغ اللازم لكسوة أولاده وتجهيزهم استعدادًا للعام الدراسي الجديد، يبقى آلاف من الأطفال في دمشق وريفها وسائر مناطق سيطرة النظام خارج المدرسة محرومين من أبسط حقوقهم: حق التعليم.

الطفلان ضياء (12عامًا) ويمان (11عامًا) يحاولان مغالبة قسوة الحياة بابتسامة دائمة ومشاكسة على متن عربة نقل البلاستيك الخاصة بهما، حيث يعملان من 7 صباحًا حتى 7 مساء في نقل البلاستيك من مطامر القمامة إلى معمل صهرها وإعادة تدويرها في ريف دمشق.

خرج ضياء من المدرسة مذ كان في الثامنة من عمره بعد نزوحه وأهله من الحسكة إلى مدينة سقبا بريف دمشق، ومنذ ذلك الحين وهو يعمل يوميا لإعانة والدته وأشقائه في مصروف البيت، حسب قوله.

ويتقاضى الطفل أجرة أسبوعية قدرها 17 ألف ليرة (4.8 دولارات)، وفي المقابل يعاني ضياء من آلام في القدمين والظهر مردها إلى الجهد البدني الذي يبذله في عمله.

ويقول ضياء للجزيرة نت "لم أعد أرغب بالعودة إلى المدرسة، فمدرستي وأصدقائي ليسوا هنا، كل ما أريده هو الحصول على مزيد من المال لشراء موبايل جديد والإسهام في مصروف المنزل".

في حين تشير أم عطا (38 عامًا)، نازحة إلى ريف دمشق، إلى أنه لولا مشاركة أبنائها وبناتها الأربعة، الذين لم يتجاوز سن أكبرهم 14 عاما، في تغطية المصاريف من خلال عملهم لكانت حالتهم "بالويل"، حسب أم عطا.

ويشير تقرير لمنظمة اليونيسف إلى أن 2.45 مليون طفل في سوريا و750 ألف طفل سوري في الدول المجاورة لا يذهبون إلى المدرسة، وأن هذه الأرقام في ازدياد مع تفاقم الأزمتين الاقتصادية والسياسية في البلاد.

المصدر : الجزيرة