حين يعانق القفطان التونسي جمال الأنوثة والأصالة
قفصة/ القصرين- على هضاب وجبال محافظة قفصة وسط غربي تونس يبدو الضباب فوق رؤوس الجبال ومرتفعاتها كأنه يحاكي تاريخ القفطان الذي لا يفارق مجالس نساء هذه المدينة أينما ارتحلن، في الأعراس والمناسبات أو الأعياد، فهو تاريخ العزة والهيبة والجمال والأنوثة.
الإبرة والخيط في هذه المدينة لهما علاقة متينة بأنامل ذهبية امتهنت هذه الحرفة، فكلما نظرت إلى عجوز أو امرأة أو فتاة هنا وجدت حكاية القفطان كرمز للجمال والأنوثة محفورا على تجاعيد وجهها، وإن حاولت مازحا أن تشكك في حرفة صناعتها فسترى غضبا لا يرضيك.
حين دخلنا المدينة وسائق السيارة الصفراء مال بنا شمالا وصارت جبال المدينة خلفنا شاهدنا دكاكين الأسواق القديمة المتراصة حيث تعرض الأقمشة على المجسمات البشرية بكل لون وشكل، إذ لكل امرأة لونها المفضل وطريقتها الخاصة في شراء هذا اللباس التراثي.
لباس مناسبات
وسط دكان قديم تجلس امرأة تجاوزت العقد الخامس على كرسي خشبي أمام آلة الخياطة مستغرقة في عملها، ولا تكاد ترفع رأسها لرد التحية، تبدو تفاصيل وجهها المجعد أكثر التصاقا بهذا اللباس التقليدي الذي تلبسه المرأة التونسية في حر الصيف أو برد الشتاء، فهي احترفت هذه الصنعة منذ الطفولة.
قبل أن تجلس فاطمة بوزيان لخياطة القفطان اعتادت أن تتفقد زينتها وتتفحصها جيدا، ثم تزيل غبار الزمن عنها بواسطة فرشاة خشبية، بعدها تثبّت الإبرة بالخيط، وبحركات مسترسلة تضغط على آلة الخياطة، لتبدأ رحلتها اليومية التي بدأتها قبل عقود.
تقول فاطمة للجزيرة نت وهي تخيط وتتابع بعينيها الثاقبتين بانتباه شديد إبرة الخياطة "لا يختلف لباس القفطان عن غيره إلا بالتطريز، فهناك من يفضلنه بخيوط الفضة أو الذهب أو الحرير، وعادة ما يكون التطريز يدويا وبدقة عالية"، موضحة أن طريقة تصميم القفطان تختلف بصمتها بحسب مهارة صانعيه.
تكلف خياطة القفطان فاطمة ساعات طويلة من العمل الدؤوب، لتبدأ بعدها عملية تطريزه بالحرير أو الفضة، وهي تحتاج إلى كثير من الصبر والتعب لإنتاج قفطان بمواصفات عالية يحظى بإعجاب النساء اللواتي يلبسنه في كل المناسبات.
رمز الأنوثة والجمال
الجمال بين حنايا المدينة الهادئة وأزقتها الضيقة أمسك بيد الصبح يغازله، ورنين أساور النسوة المنبعث من طقطقة أقراطهن يزيد حضورهن وهن يتسابقن على اللحاف الأحمر "ملكات" في قاعة الأفراح، غرورهن يمتزج بخجلهن لو فكت رباط القفطان نسمة، لتلتف إلى أي شخص تثق به بسرعة وتعيد إقفاله.
مهما اختلفت الألوان وأشكال هذا اللباس يظل المفضل للمرأة التونسية، إذ يجمع كل الذين حاورتهم الجزيرة نت على أن القفطان التونسي يلقى إقبالا لافتا، خصوصا في الأعياد والمناسبات الخاصة والأفراح، وهو يعتبر موضة لليوم تفرض نفسها على الرغم من تغير موديلات الملابس وفق صيحات الموضة الرائجة مع كل موسم.
القفطان التونسي الأقدم عمره أكثر من 300 سنة، ويحتضنه المتحف الوطني في العاصمة، ويعد هذا اللباس -بحسب وردة الجلالي (صاحبة محل لبيع الفساتين)- في حديثها للجزيرة نت رمزا للأصالة والجمال التونسي، إذ أضحى حاضرا في جميع المناسبات الرسمية، ويتراوح سعره بين 450 دينارا (155 دولارا) وألفي دينار (650 دولارا).
تراث قديم
علاقة القفطان بالمرأة التونسية ملتصقة بعتبات المدينة وأسوارها منذ زمن طويل، ليزيدها أناقة وجمالا وحضورا، فهي لا يمكن أن ترى ذاتها وأنوثتها بالأفراح والمناسبات في سواه، فيما زاد نجاح مصممي الأزياء التونسيين في تعزيز حضور القفطان في المحافل الدولية للتعريف به ليحظى بمكانة أكبر.
الخبير في التراث غير المادي عبد الستار عمامو يقول للجزيرة نت إن القفطان التونسي يشكل جزءا من التراث غير المادي، موضحا أنه على الرغم من التغييرات فإن القفطان يبقى مناسبا لكل موسم وكل عصر، إذ بات لباسا رسميا ترتديه المرأة في جميع المناسبات الخاصة والأفراح.
ويشير عمامو إلى أن القفطان التونسي لباس أندلسي ظهر مع الدولة الحفصية التي حكمت البلاد زهاء 347 سنة (بين 1228 و1574)، وهو أحد أقدم الملابس التونسية، ويعد واحدا من أهم رموز هوية البلد على الرغم من كل الصعوبات التي هددته بالاندثار، خصوصا مع ظهور القفطان المغربي الذي غزا الأسواق التونسية في فترات زمنية معينة.
ينزاح الضباب على رؤوس الجبال الشامخة، لكن يبقى القفطان اللباس التقليدي الذي تعتز به تونس وتخلده للأجيال المقبلة لباس الفرح الذي لا يغيب عن المناسبات والأفراح، واقفا كالنخل يمشي ويرفض أن يغيره عصر العولمة ويأبى النسيان من ذاكرة التراث.