بمفتاحها وخلخاليها.. "الملحفة" تميّز نساء قفصة التونسية

نساء في محافظة قفصة يرتدين الملحفة البيضاء دون سواهن في المحافظات الأخرى (الجزيرة)

قفصة- في محافظة قفصة (وسط غربي تونس)، إذا ما أردت دخول حصونها عليك أن ترضى بحكم طقوس وعادات أميراتها اللواتي يتزين بـ"الملحفة البيضاء"، أو ما يعرف بـ"الملحفة القفصية"، التي تميّز نساء قفصة دون سواهنّ، حيث ستدرك أسرارا دفينة حول طريقة ارتدائها.

فرنين المفتاح الذي يرميه النسوة وسط الملحفة على ظهورهن، يلخص أنك أمام امرأة بلغت سن الرشد، أما خلخالا الفضة المشدودان بتناسق مميز على صدر كل من تلبسه مع ترك فتحة تستطيع من خلالها استراق النظر إلى المارة يعلنان سرا من الجمال والأنوثة الممزوجة بالخجل.

بين أحضان شارع فلسطين بهذه المدينة التي تزينها واحات النخيل من كل صوب، تجلس سعيدة العوادي التي تجاوزت العقد السابع من العمر، على كرسي خشبي، وهي ترتب لحافا أبيض سميك اللون، وضعته على كتفها، عليه يتدلى مفتاح مربوط، وتقول للجزيرة نت إن "الملحفة البيضاء تلخص تاريخ المدينة ومستقبلها".

تونسية من قفصة تضع لحافا أبيض سميك اللون على كتفها، ويتدلى عليه مفتاح مربوط (الجزيرة)

"الملحفة القفصية".. وثيقة هوية

تمسك سعيدة بيديها المرتعشتين المفتاح، وكأنه كلمة السر لفتح كل قفل في أبواب قصور المدينة وحضارتها التي تعاقبت بدءا من الحضارة القبصية حيث ظهور الإنسان وصولا إلى الرومانية، وتؤكد أن هذا اللباس يتشكل من قطعة قماش واحدة، وتملك منه كل امرأة قطعة إلى قطعتين.

بين ثنايا هذه الديار حيث تولي وجهك، وأنت تمشي بين الأزقة، تستوقفك صورة سعيدة العوادي، وكأنها تحمل تاريخ المدينة وأزمنتها، لن تنسى صورتها وهي تحدثك عن قطع القماش بقديمها وجديدها، فهي نخيل المدينة الشامخ وجبالها المترامية، وهي التي لا تفوت فرصة لحضور اللقاءات ذات الصلة بتراث المدينة.

ببسمة تَسَلَّلَتْ لوَجْهِها المتجعد، تقول سعيدة العوادي لـ"الجزيرة نت" إن الملحفة هي وثيقة هوية المدينة وتاريخها، حيث تلبسها المرأة وتلفها على كامل جسدها عند خروجها من البيت، وتُثبّت على صدرها بواسطة خلخالين، مؤكدة أن هذا اللباس ما يزال يلقى اهتماما واسعا من فئة كبيرة من النساء.

سعيدة العوادي: الملحفة تلبسها المرأة وتلفها على كامل جسدها عند خروجها من البيت (الجزيرة)

طريقة ارتداء الملحفة

وحول طريقة ارتداء الملحفة، تضيف سعيدة أنّها تُشد على مستوى الكتفين بخلخال، فيما يُعقد مفتاح بطرف اللحاف، ويُرمى على الظهر ليكشف للمارة شخصية صاحبة الملحفة، على أنّها متزوجة وسيدة المنزل الأولى، موضحة أنه حتى في ظل تعدد الزوجات فحملها للمفتاح دليل تميزها ومكانتها.

وتعتبر سعيدة العوادي أنّ هذا اللباس عنصر أساسي من تراث المدينة، يمنح المرأة جمالا وحشمة، وهو جزء من الذاكرة الشعبية وركيزة من التراث اللامادي الذي لا يزال مزدهرا.

صباح ربيع: ارتداء الملحفة في قفصة ما يزال يلقى إقبالا لافتا للانتباه رغم تطور وانتشار الملابس العصرية (الجزيرة)

إقبال لافت على الملحفة

ليس بعيدا عن منزل سعيدة العوادي، تقودك النهج (الممرات) الضيقة بمحافظة قفصة إلى وسط المدينة حيث الأسواق العتيقة المعروفة محليا بـ"الأسواق العربي"، امرأة تجاوزت العقد السابع، ترتدي غطاء أسود، تراقب مجموعة من النساء، اللواتي يترددن على دكانها لشراء الملحفة القفصية.

ترصف صباح ربيع داخل محلها قطع اللحاف، وتقول لـ"الجزيرة نت" إن "هذا اللباس التقليدي ما يزال يلقى إقبالا لافتا من نساء المدينة"، موضحة أن "قطعة القماش البيضاء، التي تلتحف بها المرأة، تختلف من فصل إلى آخر، فهي يجب أن تكون شفافة في فصل الصيف وسميكة في فصل الشتاء".

ولا تنفي صباح ربيع أنه مع انتشار الملابس العصرية تراجع الإقبال على لباس الملحفة، وظل محصورا في غالب الأحيان لدى النساء كبيرات السن، غير أن ذلك لم يؤثر بشكل سلبي على وجود الملحفة البيضاء كلباس تقليدي في الأسواق.

وتبلغ تكاليف خياطة الملحفة القفصية حوالي 27 دينارا تونسيا ما يعادل (9 دولارات)، ولم يعمل صانعوها على تطوير شكلها، حيث ما تزال تحافظ على طابعها القديم، ويشد هذا اللباس بخلخال، فيما تختلف طريقة ولون ونوعية ارتدائه في المحافظات الأخرى من حيث طريقة التّزويق والتزيين.

محمد الصالح: استعمال الملحفة أصبح يقتصر اليوم على المناسبات الدينية والحفلات والأعياد والأعراس (الجزيرة)

كنز ثقافي

وما تزال المرأة في مدينة قفصة، تلبس الملحفة البيضاء حتى باتت وشما منحوتا في الذاكرة الشعبية والإرث التقليدي، حيث تحتفل المدينة بذكرى هذا اللباس فيما يعرف بمهرجان الترميل كل سنة، حيث تتزيّن النساء ويخرجن للشارع للتعريف بهذا الكنز الثقافي.

ويقول محمد الصالح محرز الكاتب العام لمهرجان الترميل لـ"الجزيرة نت" إن استعمال لباس الملحفة "البيضاء" الذي تتميز بها محافظة قفصة، أصبح يقتصر اليوم على المناسبات الدينية والحفلات والأعياد والأعراس فقط، مؤكدا أنه رمز من رموز الثقافة والذي توارثته نساء المدينة جيلا عن جيل.

ويبين محرز أنّه ورغم الانفتاح وما خلّفه من تغيير على سلوك الكثير من الشباب اليوم، فإنّ الملحفة القفصية، ما تزال بالغة الأهمية لأنها تميز بنات قفصة عن بقية نساء المحافظات الأخرى، لافتا إلى أنه لا يمكن التخلي عن تاريخ هذا اللباس الذي اشتهرت به المدينة لعدة قرون.

ويأمل المهتمون بالتراث في قفصة أن لا تصبح "الملحفة البيضاء" في ذاكرة النسيان الثقافي بسبب غياب التشجيع الحكومي، وظهور الملابس العصرية التي طغت على جيل اليوم، ورغم ذلك تبقى الملحفة القفصية، ضاربة في أعماق تاريخ المدينة، كنزا ثقافيا يأبي النسيان.

المصدر : الجزيرة

إعلان